نشرت الأستاذة مريم الدويك، باحثة بمركز الدراسات القرآنية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، دراسة موسومة بعنوان " منهج الوحي في التعامل مع الأمراض والأوبئة"، استعرضت فيها منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في التعامل مع الأوبئة والأمراض المستجدة، وذلك في اطار انخراط الرابطة المحمدية للعلماء في جهود محاربة تفشي فيروس "كورونا" المستجد، واسترشادا بالوحي قرآنا وسنة في مجال تحسيس المواطنين بأهمية الحجر الصحي في خضم الازمة الحالية. وفيما نص الدراسة تعاني البشرية اليوم من أزمة وبائية تهدد مصير الإنسان ومستقبل حياته، وذلك بانتشار فيروس كورونا المستجد، وقد سبق أن عانى الإنسان على مر التاريخ من كوارث صحية مختلفة، وفي كل مرحلة من مراحل التطور البشري والعمراني، تبرز بعض الأمراض وتطفو على السطح، لتستفيد البشرية من محنتها وتأخذ الدروس والعبر، وتمضي بخطى ثابتة نحو البحث عن المخرج والحلول المناسبة، فيجتهد العلماء وأهل الاختصاص، وتتجند مراكز البحث العلمي بكل إمكانياتها ووسائلها لإنقاذ الإنسانية من هذا الوباء القاتل. "فيروس كورونا" شأنه شأن باقي الفيروسات فهو لا يقل أثرا عن الانفلونزا الخنازير والسارس والإيبولا وغيرها، وهي أمراض تتطور وتنتشر بشكل سريع وخاطف، وتحصد الأرواح بالآلاف في فترة وجيزة . و قد عالج القرآن الكريم مثل هذه الظواهر وغيرها بنوع من التوجيه وإرشاد الناس للأخذ بالأسباب الشرعية والطرق المعقولة لحماية النفس من الهلاك، والوقوع في المخاطر التي تؤدي لإتلاف النفس وإزهاق الأرواح. فالأوبئة والأمراض من الابتلاءات التي تحدث عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة/ 155] وفيها تنوع الابتلاءات في الدنيا، من خوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، قال البغوي رحمه الله: "أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره : والله ليبلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به.﴿بشيء من الخوف﴾ قال ابن عباس: "يعني خوف العدو". ﴿والجوع﴾ يعني القحط. ﴿ونقص من الأموال﴾ بالخسران والهلاك. ﴿والأنفس﴾ يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب. ﴿والثمرات﴾ يعني الجوائح في الثمار". [1] والقرآن في مثل هذه المحن والمصائب يربت على النفوس ويطمئن القلوب، ويهدئ روعة الخائفين، ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد/22]. وفي نفس الوقت يضع القرآن الكريم منهجا للوقاية والعلاج، وتحصين النفس من براثن الأمراض والأوبئة، ولذك حذر الله تعالى من تناول الطعام واللحوم الفاسدة، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ [المائدة/3] وأمر بأكل الطيب من الطعام، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة/88]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [المائدة/172] ويقول أيضا :﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف /157] ،إن هذه النصوص وغيرها تبين بوضوح المخطط الوقائي من كل الأمراض والمخاطر، ومن المعلوم بالضرورة أن الشريعة جاءت للحفاظ على صحة وحياة الإنسان وحمايتها، لذا وجب على الإنسان السليم الوقاية التامة لتجنب الإصابة، كما وجب على المريض ألا يخالط الناس حفاظا على صحته وصحة غيره وعدم خروجه إلا للضرورة حتى يشفى، فالإضرار بالنفس أو الغير يؤدي لاختلال في بنية المجتمع والتماسك البشري. وبالعودة إلى السنة النبوية، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد حرصا على حياة الناس وأرواحهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحثهم على البقاء في منازلهم، بل وضع برنامجا ومخططا حكيما للتعامل مع الوباء، فقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها)[2]، ولم يترك الشرع الحنيف ثغرة إلا وسدها، وجعل سبل الوقاية والحماية من الأموراللازمة والضرورة لحماية الأنفس والأرواح، وقد كان الإسلام سباقا في الأخذ بمخطط العزل الصحي، وتجلى ذلك حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأصحاءَ بعدمِ مخالطةِ المرضَى بمرضٍ مُعدٍ؛ فإنَّه لما وَفَدَ وَفْدُ ثَقيفٍ كان مِن ضِمنِهم رجلٌ مجذوم فأرسلَ اليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ"[3] فحتى الأصحاء لم يسمح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالطة المرضى، ولم يسمح حتى بمغادرة البلاد حتى ينتهي الوباء بقوله صلى الله عليه وسلم : (الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)[4]، فالوقاية الصحية منهح نبوي، أو ما يسمى الآن بالحجر الصحي في زمن لم يكن فيه أطباء ولا مراكز بحثية ولا منظمات توجه الرأي العام بما يجب فعله من التدابير والإجراءات المتخذة في سبيل مواجهة مثل هذه الأزمات. وعلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم سار الصحابة رضوان الله عليهم في التعامل مع الأوبئة، فعندما ظهر طاعون عمواس في العام الثامن عشر للهجرة، عمل به الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح، حيث أمر الناس بعدم الخروج من المناطق التي ظهر فيها الطاعون، ولم يرفع الطاعون إلا بعد تولي عمرو بن العاص إمارة الشام، فقد أمر الناس وقتها بالصعود إلى الجبل، ثم ما لبث حتى رفع الله هذا الوباء .