صباحك أجمل، اعتدت عبر سنوات أن أبدأ نصّي الّذي أخاطب به القرّاء والمكان والزّمان وغيابك بعبارة صباحكم أجمل. ولكنّني اليوم أشعر بأنّ هناك (كسل يطهو جسدي)، أحلّق معك أنت فقط.. فالرّجل في داخلي يحتفي بأنّ (عشقه المتنصّل منه عاد له كما يدمن الليل صرّار ليله المترفّل)، فأصحو أحلم بك منذ إشراقة الشّمس الأولى حين ألقى الفجر عن كتفيه سُدل العتمة، جلست أرقب خيوط النّور وهي تبلج صباحًا آخر يشهد على غيابك وبُعدك، لن تخبو أحلامي بعد اليوم (كما تخبو أحلام طفل في جحور فئران صغيرة، حين يصبو للّعب في الجبل المعشوشب)، أحلم بك وفي يوم نلتقي فيه من جديد وأهمس لك: صباحك أجمل رغمًا عن الّذي (كان يغار حروفي، ذاك الّذي لا عمر له). هل تذكرين زيارتنا إلى البحر حيث يلتقي الأزرقين، هناك (حيث يطير طائر البجع كسحر الحروف المضيئة) وحبّنا نرسمه مع الموج ورمال الشّاطئ كأنّه (عبق لزمان ريح آتية ومكان بحر مستكين). ويمتشق جسدك أمامي كحوريّة آتية (من الطرف الضّيّق لمحور العالم، يمتدّ الجسد إلى آخر نقطة فيه)، فنركض ونلهو وترشقنا الأمواج النّاعمة وتتعالى أصواتنا مرَحًا. وأرى فيك (طينة الجسد تتوّجها لفحات الأنثى الفوضى)، فأنت فقط (امرأة التّأريخ الخارجة من البحر). وروحك وحدها هي الزّيت الّذي يشتعل عندما (تتوهّج روح العالم). وروحك فقط أنا من كان (ينتظرها هناك في الحدّ الفاصل بين النّار والثّلج)، بقيت أنتظرها عبر عصور الزّمان مؤمنًا بأنّنا سنلتقي حتّى التقينا، فِعلاً (يبدو أنّ الوقت حين يحين فهو يحين لأنّه حان). على شاطئ البحر الغريب، كنّا نحلّق بأرواحنا (لتصل النّفسُ إلى منجم صغير هو الوطن)، ليس من مكان آخر يمكن أن يضمّنا أبدًا (عند ملاقاة الليل لعتمته)، رغم كلّ البثور السّوداء على وجه الوطن ما زالت (مجموعات من الفراشات.. تلمح الألق.. المنبثق من رَفّات أجنحتها)، والوطن الّذي سيجمعنا يومًا ما زال (يرسم لي روحه متناثرة في المدى.. عاصفة هوجاء)، وهناك فقط سأخبّئك عن العيون كما (يختبئ الملاك بحذر بين زهور ذهبيّة وأخرى فضّيّة). في كلّ مساء وبعد أن نجول تحت نور قمر الوطن وتلفحنا نسماته الغربيّة (يعاود قتلي بك الليل، ألتفّ عليك كما يلاعب الخيط شقاوة قطّ)، أضمّك وتضمّيني بجنون حبّنا وأشواقنا الّتي تراكمت عبر العصور، فتنفجر (النّار الّتي تحتبس في الشّجر، تغسل ثمار العرعر بامتطائها حشد الخيول البيضاء لخبز الجسد). وتنطلق أصابعي المتمرّدة (تدلّك منابت زهور البراري لمفاصل الأكمات المجدولة بزيت الولع)، وروحي تحلّق مع (عذريّة الغاب) وتحملك معها بجنون الحبّ (لتغدق عليك جام ألوانها الممعنة في المعنى). هو البحر يشدّ العاشق (يبيح لعنان مخيّلته أن تلف اليدان الأنوثة حول عنقه)، فيحتضن ياسمينته تحت نور الشّمس ونثرات الموج (ويغرقها وردًا)، فأنا وأنت فقط ولا غيرنا مَن (لنا روابي اليواقيت والَبَرَدِ والنّار) والمطر، ننظر للموج فنرى (في عينيه ألوان الطّيف)، نرقص على الشّاطئ رقصة (فيها تتراقص السّنابل الصّفراء على ثورة الوشوشات على خجل البنفسج)، فتمارس الأنثى فيك (جديدها أن تكسر اللافوضى بفوضاها). ومن بين شفتيك (يتأرجح الصّوت، يتدرّج تفتّح الزّهر)، فتتفتّح روحي بلقياك من جديد فروحك مَن (تنير العتمات ظلالاً تبلّل السّحاب ليرقص المطر في الرّوحين)، فمَن غير روحينا بهذه اللحظة تحلّق (لتقبض على اللقطة المبتدأ للفجر)، نضجُّ ونصرخ ونملأ الفضاء ضوضاء (حين ينساب اللهب على حافّته). يرشقني الموج، يعيدني بالذّاكرة إلى شاطئ يافا حين تسلّلتُ إليه مرّة ملبّيًا رغبة جامحة في أن أغسل وجهي بمياهه، ووفيًّا لوعدي لجدي بأن أزور شاطئها مرّة، تهمس بأذني الأمواج: أن أنظر هناك حيث (تحدّق سيّدة الضّوء في الغياب المطعّم بنكهة القِرفة)، فهي لا تنسى أبدًا مهما طال الغياب، وحدها مَن (ترخي نفسها هي على وتر سلّم موسيقيّ ينعزف على سماء مبلّلة وأساطير). فالكلّ (يريدها له، لكنّها سئمتهم)، ووحدك أنت من تسعى معه (لتتألّق للمصير ذاكرته الّتي تقتطع الصّرير الرّتيب لقصدير شرايين الأزمنة والأمكنة)، وأنت وحدك من (تمنحه سلامها) فليس مَن مثلها (مساماتها الهواء، تتنفّس رئة الأرض بأوردتها)، وهي وحدها حين تحلّق في فضائها وتنظر إليها تجد (عند الطّرف الأوّل للنّهد التماعة عين، وعند الطّرف الأخير للشّهقة طعم بحر). ترى لماذا يشدّني البحر بقوّة للتّفكير بك بقوّة، هل (لأنّنا سياميّان التقينا على رذاذ وهم)، أم لأنّك كما همَس لي البحر: هي ساحرة (لا فكاك من غوايتها الثّائرة)، أم لأنّي أشعر بك مِن قبْل التّاريخ مثْل (رحيق ورديّ يتألّق في محيط الأسطورة ليلاً)، وعشقي لك (أفكار خبيئة لا ترجأ، بل تجأر وتتوهّج)، فأفرّغ مشاعري رسمًا بالكلمات لأجد أن (نَصَِّي يفيق على جملته الأولى بأبجديّة يشفّها الحنين للغير)، يستمدّ نفسه من قصّة عشق أزليّة بدأت منذ ما قبل التاريخ، وحروفه (تلتدن لخطوة المرأة الّتي تتكدّس أنفاسها عند أغلاس أقواس السّماء)، وتحترف (اصطياد الحجارة الصّغيرة لعمق المعنى في الكلام). وروحه تحلّق فوق (هذه الأرض المتنازع عليها منذ قرون)، وتذوب روحك بين همساته (لتنتحل كلّ الأشكال سطور الكتابة على أجنحة من قَطا). تهمسين في أذني (لا تعتذر بعدُ للرّبيع عن تنهيدات سلبتها من مخدعه)، فأداعب شعرك الحريريّ وأهمس لك أن اقتربي (ولأنّك أجمل الأجمل سأتنفس لهاثك)، وسأبقى أحلم بك (كأنّنا معًا التقاطات ذاكرة وعين). أنت وأنا نبقى (نبتسم في سماء المقدّسة الأرض)، لتعاودي الهمس (ستظلّ أنت في تخوم الرّوح ما تبقّى من المعنى)، أنظر إليك بدهشة وكأنّك (برعم قرنفل منقّط بلون الزّهر، يفرد جسده، لتغتسل تفاصيله في إبريق مساحة الضّوء)، فأنا وأنت على هذا الشاطئ المهجور (الوحيدان الموحّدان على شرفة هذا العالم القابل للاندحار)، وأنا وأنت وحدنا من (يشكّلان الحروف ويتبعهما الإيقاع الصّاخب بأوردة الفكرة وأجنّتها). ويتربّص بنا (قدر يستوحي المصادفة)، ويعيدنا لنلتقي من جديد (ليصحو الحمَأ على انتشال جلاجل الرّبيع)، فأرى فيك (امرأة لا يقيسها العمر)، وأرى في بحر عشقنا أنّنا (الغريقان وحدهما اللذان يعرفان) كيف يكونان معًا انصهارًا واندغامًا ويعرفان أنّهما يشكّلان (معا وسادة يتّكئ عليها الزّعتر والنّبض ورنّات الشّحرور)، وينزفان معًا آهاتهما على (مذابح الليل الفقد تهيج بأوردة القهر.. الزّاحف في الوطن اللا ينفع فيه سوى الحُلُمُ الحِلمُ الحُبّ)، ويحلمان بالأرض وفيء الزّيتون والحُبّ حيث فقط هناك (تكون المرأة ورجلها هياج المطر.. وقنطرة السّحاب ونمرقة الوطن). * كلّ ما هو بين أقواس التّنصيص للشّاعرة والكاتبة منى ظاهر، من كتابها الأخير "خميل كسلها الصّباحيّ" الصّادر عن دار أزمنة في الأردن 2008م بطبعته الأولى، وطبعته الثّانية عن المؤسّسة الصّحفيّة بالمسيلة في الجزائر 2009م. (رام الله 6/6/2009)