أتذكرها، كررت مرارا وتكرارا دون جدوى.. ابتسامة حزينة كانت تغطي الوجوه المحدقة بي.. بيد أنني لم أستسلم. فأنا أتذكرها جيدا. صحيح أنني لا أذكر تفاصيل الوجه، لكنني اذكر صوتها الدافئ.. علمت حالما سمعته أنني سأكون بخير وأنه سيحضنني. ولمسة اليد التي مسحت آثار المخاض عني بشرتني بكثير من الحب، استقبلتني بود.. رحلت بعد أسبوع من قدومي إلى هذا المكان والزمان. استسلمت لموجة تعب وقلة اهتمام. شعرت بالخوف حين غابت، وانتظرت طويلا عودتها.. لم تخلت عني؟ بكيت كل الدموع التي استطعتها، وتوالت النساء حولي يهدئنني.. ويقدمن لي أثدائهن. أنا كنت أبحث عن ثديها الرفيع الممتلئ ، الذي زينته شامة سوداء قرب الحلمة.. رجل وحيد كان يأتي إلى جانب سريري كل مساء.. وإذ يعتقد أنني نائم، يسترسل في بكاء غزير.. أبحث عن يده لأشعره بتعاطفي، لكنه ينتفض ويخرج سريعا.. بعد شهرين، وذات مساء عاصف، جلب امرأة أخرى معه.. وحينها توقف عن البكاء.. لكن حزنا عميقا استوطن عينيه، كان يتفادى النظر إلي مباشرة بينما تمسكتُ به كلما زار غرفتي.. غابت النساء الأخريات.. وافتقدت الأثداء التي كنت أعضها امتعاضا.. بينما بقيت ذكرى الشامة تستوطنني.. أتذكرها.. وأتذكر صرختي الأولى، حين رفعتني من قدمي.. أصرخ، أصرخ، تلاحق صوتها المتعب.. وإذ أطلقت صرخة طويلة، سمعتها تسترجع أنفاسها بعمق.. وضعتني على صدرها ونمنا قليلا معا.. حين استيقظت، كانت يدها تمسح كامل جسمي بقطعة قماش، لفتني بقطعة أخرى، ثم وضعت حلمتها في فمي.. كانت باردة فوضعت يدي على جانبها محاولا بعث بعض الدفء فيها.. شعرت بابتسامتها وأنفاسها المتلاحقة.. نعم، خذه.. هكذا.. نعم.. تعلمت أن أنتظر مواعيدها لأرتوي منها ولأبادلها دفئا بدفء.. بيد أن خوفا ما تسلل إلي.. كانت ابتسامتها تخبو كل مرة أكثر بينما تتسارع أنفاسها وتتلاحق دقات قلبها في صراع مستمر.. تعلمت أن أستأنس بدقاته، لكنه بدا كأنه يصارع ليستمر في الخفقان... حين أتى الرجل لزيارتنا، حاولت إخباره، صرخت طويلا وبكيت، لكنه بدا مرتبكا.. تركني بين يديها وانصرف سريعا... محاولتي لطلب النجدة لم تجدِ نفعا.. إنها ليست بخير.. كيف أخبره؟ وبدأت مواعيدها تتأخر كل مرة.. ثم بعد أسبوع، غادرت.. في موعدنا الأخير، رافقت ابتسامتها الدموع.. وقلبها هدأ أخيرا.. بدت دقاته رتيبة جدا.. وضعت يديها حول وجهي وقبلتني طويلا.. لم أصرخ.. بل نظرت إليها بشوق وتشبثت بردائها بعناد بينما أتت امرأة ما وحاولت أخذي بعيدا.. أتى الرجل ذاك المساء إلى جانب سريري وبكى للمرة الأولى.. أتذكرها.. قلت بينما رمقني والدي بنظرته الحزينة.. زوجته الثانية لم تنسه حبه الأول. كنا نتشارك طاولة مقهى وكان اليوم يصادف ذكرى رحيلها.. كان عمرك أسبوعا واحدا حين ماتت، رد بصوت مثقل.. لقد كانت لها شامة قريبة من حلمتها.. لاحظت جفوله لكنه تمالك نفسه سريعا، ورد سريعا: إنك واهم.. بعد يومين، طلبَ من شقيقتي أن تغطي كامل ثديها بينما كانت ترضع طفلها.. ابتسمتُ.. نعم إنني أتذكرها. --------------------------------------------- فاطمة الزهراء الرغيوي