1- وبعد فاطمة، منذ زمن لم أكتب، ولا تواتيني رغبة الكتابة، الحرب تجعل المشاعر تميع، وتمر منها الأنفاس مثل فقاعات من زيت، ويكبر التساؤل ضمنها عن جدوى الكلام، حتى وهو ثرثرة في مسائل عادية:" دوما لم تكن لدينا مسائلنا العادية!، صدّقي/وا، أو لا تصدقي/وا، فهذه الأمور أغلب الوقت خارج الإهتمام" أجمل ما قد يحدث أن تمطر السماء مطرا خفيفا يشذّب الشجر والأسطح والنوافذ والمسافة بين الأرض السماء، المسافة النقيّة مثل طفل مولود لتوّه، حسنا الطفل المولود يغطي جلدة الرقيق دم ساخن، المسافة أيضا تسكنها رائحة الموت: "من قال إذن إن المسافة بين السماء والأرض صافية ونقيّة نهائيا!؟، أنتِ/أنتم، هل تدعين/ون إدعاءات مشابهة؟" المسافة بين السماء والأرض مجروحة، تنزف على شكل ثلج أحيانا، ومطر في أخرى: " يصير الشتاء أحمر، من يشذنبا حين نصحو مقتولين في الصباح؟ وكيف سنحتمل موت الأجمل الراكد على الشارع، وفي المزراب القديم، والحاووز الفارغ بانتظار موسم الولادة/الموت؟" كم أنا حزينة، وفارغة، مثل آخرين كثر يبحثون عن الدهشة الفارغة في حلم ليليّ، وحنين مفتعل لجرح يحاولون خلقه أحيانا بذاكرة حزينة، الأحلام فقدت دهشتها، الحنين فقد المسافة غير المبقّعة برائحة الموت، الفراغ اتسع واتسع ومازال يتسع. الفراغ غمر العمر وشوارع المدن والقرى، الفراغ امتد واستوطن الحلم و العالم، العالم فراغ كبير، الناس والأخبار والأحداث فقاعات من أنفاس سوداء، الفراغ يصغر ويصغر ويصغر، يستوطن قلب الطفلة، الطفلة تصير مقتولة إلى جانب فراشها ولعبتها ذات الشعر المنكوش، الطفلة تصحو فتلعب بالفراغ، تكوّره كرة، تلقيه في الخارج فيتدحرج، ويظل يتدرج جهة البحر: "البحر لنا، حقيقة أم حلم أم دهشة أم فراغ؟" الفراغ مكوّر على شكل صارخ يسقط في الليل على رأس الطفلة/ الصبية/ المرأة/ المدينة/ القرية/ الشارع/ المطر/ الثلج/ الحاووز والمزاريب، ندلي الدلو في الحاووز، ننشله ونرتوي فراغا، نمتليء ونطير، فتطاردنا فراغات كثيرة على شكل صورايخ كثيرة، ويسقط مطر وثلج أحمر، فنصبح فراغات حمراء، في تلك المسافة التي تشبه طفلا مولودا للتوّ، مغطىّ بجلده الرقيق الساخن بدمه الساخن. وبعد فاطمة، منذ زمن لم أكتب، ولا تواتيني رغبة الكتابة، أعود برغبة مركّزة إلى تصفّح "ذاكرة الماء"، أتذكر جهاز البخار، صوته المزعج وهو ينفث هواءه فوق وجه الطفلة الصغير، تستطيع أن تتنفس حينها: قلتِ:"إذن الرواية منعشة؟" قلت لك:" فقط أنا من لديّ قرار مسبق عن الإرتعاش أمام فكرة" ألقيت الرواية جانبا ونمت، لم تضخّ الرواية هواءها أكثر، سالت الذاكرة دما أمامي، دما جزائريا، حزنا جزائريا، فاكتفيت بالنوم وفلسطينيتي والإنفلونزا التي تسد أنفي وتخشّب عنقي. كم أنا حزينة، وأرتعش في الفراغ وهو يسقط في الخلف، وكل الجهات، من أعلى! أتصل بصديقتي، أبحث عنها في صوتها، أبحث عن الكلام في الكلام، نثرثر/ لا نثرثر، قد يسقط الزجاج: " من يحمي الزجاج من السقوط حين يأتي الصاروخ المنتفخ؟ هل يحميه اللّاصق؟" الشاعرة تحمل بطفلة، زوجها المتخلّف يريد ولدا، تجلس الشاعرة حزينة في بيتها في المدينة، الفراغ يتساقط صورايخ على المدينة، وعليها، وقد تموت، لكنها تحزن في العمق مرات ومرات من الفراغ الممتد في أثاثها غير المرتب. صديقتي تغيّرت، صدّقوا، فقد قرّرت أن تحب، اتخذت قرارها والناس يقتلون في المدينة، قرررت ذلك والبنايات تهطل شتاء، والأذرع تسقط شهبا، والعيون مثل حبات البرد، والأمنيات الحزينة تندف مثل ثلج يشبه بدايات الفلّين. سأنتظر خبر حياتها/ موتها أسفل الشاشة، وأنا لا أجلس أمام التلفاز اللعين.
وبعد فاطمة، منذ زمن لم أكتب، ولا تواتيني رغبة الكتابة، والناس يهتفون في الشوارع، لا أعرف لماذا يصيحون، لا أعرف لماذا يرسلون الأكل والأغطية إلى المدينة، ولا أعرف لماذا تصرّ سيارات الإسعاف على نقل الجرحى، أكلّ ذلك كي لا يموتوا، والموت يتساقط من أعلى، ولا يعبأ بفراغهم، حتى بوهم المسافة التي لا تدهش، لا يعبأ؟ "اتركوا المدينة تموت بلا ضجيج أرجوكم، بسلام كما شاء الفراغ" المدينة حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة الفلسطينية، المدن قبلها قتلت بتوال ٍ، سلبت بتوال ٍ، سال دمها ومشى عبر الشارع وسكن البحر والقلب الصغير، اتسع القلب وسكن ما تبقّى لنا، كبر وحمل رشّاشا، صار له أطفال حملوا الحجارة وأشعلوا العجلات السوداء، فنثروا الدخان الأسود في وجه الجنود. المدينة في مخاضها لتلد قلبها، الكتلة المليئة بدمها ومن دمها، أناس المدينة يقفون في طوابير ليتبرعوا بدمهم لهم، ليختبؤوا في تاريخ الحكاية من الحكاية، في ذاكرة الفراغ من الفراغ، فاصمتوا يا من تهتفون، فأنتم تزعجون طقس التكوين. اليوم الأول من كانون الثاني من عام 2009 شمال فلسطين أحلام
2- أحلام، البارحة وأنا أضحك على مناورة الساحر في الشاشة، تذكرتك. بالبساطة العادية للتذكر إذ يباغتنا. تساءلت إن كنت ستضحكين مثلي لو شاهدته.. هل ستبحثين عن ابتسامة كما تبحث صديقتك عن الحب بينما يمتلأ الفراغ هناك بالفوضى الملونة بأحمر قان ٍ؟ تسألينني عن الفراغ. هل ندعي مثلكم أنه نقي وصاف ٍ؟ ربما الفراغ هنا وفي كل مكان مرآة لمن يسكنون تحته. هو مساحة العبور لهواجسنا نحو السماء.. الفراغ هنا محمل باليأس وبأحلام الهجرة نحو الشمال.. هنا نمتلك وطنا لا نريده، لأنه لا يشبع أحلامنا.. هناك تصارعون لأجل إثبات ملكيتكم لوطن يريده الآخر. "الفراغ هو المساحة البيضاء التي تلونها أفعالنا إذا" هكذا سأقول. السماء ظلت معلقة فوق.. حاولت أن أشير بأصبعي نحوها، فلم يحدث شيء. السماء محايدة وبعيدة. الأرض هناك... محملة بالشهداء كما تعرضها الشاشة. الأرض هنا، محاولات إضراب، مجاملات للحزن.. لا أريد أن أحزن لأجلك، لأجلكم. لأن الحزن هو فعل صامت.. ولن أكسر سيارة مركونة في الشارع لأعبر عن تضامني معك، معكم، لأن ذلك الفعل موجه ضد الشخص الخطأ.. بريدي الإلكتروني يعج برسائل التضامن معك، معكم.. صديق ما يخبرني أن لا فرحة بالأعياد هذا العام وغزة في مهب القنابل.. أتساءل، كم عدد الشهداء المطلوب لننتقل من شعور التضامن إلى فعل التضامن؟؟ على الشاشة يعبر الشهداء، المبيان يرسم خطا تصاعديا.. عندما يحين موعد الأكل أتنهد ارتياحا لأني سأغير القناة دون شعور بالذنب، لأن الأكل ضرورة، ولأنني لا أستطيع الأكل أمام الشهداء الذين توقفوا عن الحاجة إلى الطعام.. ثم ألجأ إلى أحاديثنا معا، ثرثرتنا، فأشعر بشيء الراحة لأنك بخير، ولأن صديقتك الأخرى، تلك المطوقة بالحصار وبمطر القنابل، بخير. أحلام، من حقك أنتِ، أن تحزني.. إذا استطعتِ أحبي أو اكرهي، من حقك وحدك،وحدكم، أن تضحكي.. هي آخر الحقوق التي تمتلكينها حسب القرارات والبيانات.. و.. من حقك أن تلجئي إلى "ذاكرة الماء"، باحثة عن التشابه.. فالحرب هي الحرب، تخلف وراءها الضحايا ولا تمجدها سوى خطابات المنتصر وكتب التاريخ. لا أعرف من الحرب غير ماقرأته في تلك الكتب، لكنني أذكر كيف كانت تلتمع عيني جدتي بحزن ممتد حتى آخر شعرها الأبيض، إذ كانت تحكي عن دوي القنابل ولعبة الرحيل والتخفي من العدو. لم أكتشف بعد جدوى من الحرب.. الحرب هي محاولة لامتلاك الفراغ؟؟ سعاد والآمين وياسين، يسألونني عنك.. فأخبرهم أني لا أنسى صور الشهداء إلا حين أحدثكِ. اكتشفت أن فلسطين أصبحت تعنيني أكثر إذ تعرفت إليك.. قبل تعارفنا، كانت "القضية" التي يجب أن أتعاطف معها لأستحق عروبيتي أو إسلاميتي أو كوني من العالم الثالث.. الآن أعلم أن "القضية" تخفي خلف العنوان العريض "المقدس"، أناسا "عاديين".. مثل جدتي مثلا. هل نظلمكم إذ نُحمّلكم طابع القدسية فنرمي بكم إلى البئر كما فعلوا بيوسف.. هل أنتم مقدسون لذا فأنتم محكومون بالموت أو الاستشهاد (فلا فرق في النتيجة) ثمنا ل "قدسيتكم؟ لأنك عادية، أريدك أن تعيشي الحياة العادية التي تتضمن الضحك على الساحر في الشاشة، والبكاء لأجل رجل حتى لو كان عاديا بدوره.. أحلام، ممنوعة أنا من حملات التبرع بالدم.. الطبيب سيخبرك أنني أعاني من حالة مزمنة من انخفاض الضغط. لكنك تعلمين أن دمي غير مناسب لك، لكم. لأن دمي فوت حق التصويت في الانتخابات الأخيرة.. لذا منينا بوزير أول لا يقرأ الجرائد ولديه هاتف مباشر مع هيئات عليا تملي عليه واجباته. لأن دمي لا يستسيغ الحياة بدون الرفاهية التي تمنحه إياها الصناعات التي تدعم الذين يقصفونك، يقصفونكم بالقنابل،لأن دمي أدمن صور الشهداء لذا لا يريد أن تتوقف عن السقوط هناك.. إنك وحيدة هناك، دمي لن يصلك، فأنا ربما أفعل مثل الآخرين هنا، سأنشغل بالصراخ والضجيج، وقد أبعث لك ببعض الحليب الجاف (هل تحبين نوعا معينا؟) وبعلبة مورفين.. أعتقد أن الأسبيرين لم يعد يجديك، يجديكم، نفعا؟
سأحترم إذا طقس التكوين.. سأصمت. سأحاول التعلم منك، منكم.. طقس الموت لأجل الحياة.