على امتداد هكتارات شاسعة، تطلّ نبتة الزعفران في أنفة وكبرياء وراء أقاصي الجبال بمنطقة تالوين التابعة ترابيا لمدينة تارودانت ولا يمكن إغفال رائحتها الفوّاحة التي يعبق بها المكان وينتشر مُعلنا عن وجود نبتة يعتبرها سكان المنطقة مفخرة لهم وهم يدلّلون شعيراتها الذهبية التي تضيء بقوة، في حين تخجل زهراتها وتنفتح من شدة وهج الشمس ولفحاتها الحارقة. يُطلق عليها مسميات متعددة، من قبيل "نبتة الملوك" أو "الزهرة النبيلة" أو "الذهب الأحمر" ويعد المغرب ثاني بلد منتج للزعفران بعد إيران، إضافة إلى وجود دول أخرى تعد من الدول الأكثر إنتاجا لهذه النبتة، ويتعلق الأمر بكل من إسبانيا واليونان وإيطاليا والهند.
وبلغة الأرقام، فإن 10 كيلوغرامات من الزعفران، تعادل 40 ألف دولار سنويا و90 في المائة هي نسبة المساحة المزروعة من هذا المنتوج بمنطقة تالوين، أي أن ما يعادل 4 أطنان من الزعفران هي الكمية المنتجة سنويا في هذه الرقعة الجغرافية والمقدرَّة قيمتها ب 24 مليون دولار.
من البذور إلى التحصيل
نبتة الزعفران هي نوع من أنواع النباتات البصلية التي تنتمي إلى عائلة السوسنيّات وفصيلة الزئبقيات وتتكون من جذع يولّد باقة من الأوراق الرفيعة والطويلة وزهرات تحضن بين طياتها ثلاثة مياسيم حمراء، يتأرجح طولها بين 1 و3 سنتيم ولونها أحمر داكن، في حين يتراجع طولها إلى ما بين 0.5 و2.5 سنتيم عندما تجف وتبقى المادة الحمراء هي المادة الأساسية في هذه النبتة المعدّة للاستهلاك.
هذه النبتة وجدت مستقرا لها بشكل ملفت في منطقة تالوين، حيث تتم زراعتها بعد تفليح الأرض بالمعول بشكل طولي وبعدها تأتي عملية وضع وحدات من البصيلات بشكل متفرق تحت التراب ومن ثمة يُردم فوقها، تقول ربيعة مرزوق، رئيسة تعاونية فلاحية تحمل اسم "التعاونية الفلاحية النسوية سكينة لزعفران تالوين" تيمّنا بامرأة كانت قيد حياتها تسمى سكينة أيت ابراييم وكانت بمثابة المثل الأعلى لنساء المنطقة ورمزا للكفاح والنضال.
"منطقة تالوين تبقى هي الوحيدة في المغرب التي تقوم بإنتاج زعفران عالي الجودة بعد أن حباها الله بهذا الامتياز وانضمت إليها جارتها تازناخت، فبعد أن كانت المنطقة المتربعة وسط أعالي الجبال في زمن بعيد عبارة عن قرية منسية، أخرجها الزعفران من دائرة الفقر إلى رحى الإنتاج بتوفير فرص شغل لأهالي القرية نساء ورجال" تكشف ربيعة.
وجزمت بأن منطقة تالوين كانت هي الوحيدة في إفريقيا والمغرب التي تنتج الزعفران إلى أن أخذ مخطط المغرب الأخضر على عاتقه إنجاز تجارب أخرى مماثلة في مزارع بكل من شفشاون ومنطقة أوريكا ونواحي إملشيل وغيرها تحت مواكبة وزارة الفلاحة.
وأوضحت ربيعة مرزوق أن فترة زرع بذور الزعفران، تجعل المنطقة تضجّ بالحيوية والنشاط، بعد أن تفتح ذراعيها لاستقبال موسم زراعة "الذهب الأحمر" مثلما يُطلق عليه، حيث يشمّر مجموعة من المنخرطين في هذه العملية على أذرعهم من أجل وضع بصيلات الزعفران في رحم التربة، مؤكدة أن الزعفران يمنح زهراته في نهاية شهر أكتوبر وتشرع النساء في قطفه قبل طلوع الشمس، في الثالثة أو الرابعة صباحا حسب المساحة المزروعة، لأن إزالته تكون سهلة في ذلك الوقت بعد أن تتجمع زهراته وتصبح مثل "المسمار" أو "أمْسمار"، كما يُطلق عليه بلهجة المنطقة تردف ربيعة، قبل أن تبوح بأن بزوغ أشعة الشمس الذهبية يجعل زهرة الزعفران تنفتح، ما يعرّض هذا الأخير للتلف بعد أن تغزوه الحشرات ويتسلل إليه الغبار.
وأشارت إلى أن النساء العاملات في حقول الزعفران وهي واحدة منهن، ترتفع أصوات حناجرهن حين ينظمن أشعارا غنائية بالأمازيغية تتغزّل في هذه النبتة وأصبحن على دراية تامة وشاملة بأسرار زراعة الذهب الأحمر بعد سنوات من المراس والتجربة وأضحين خبيرات في هذا المجال.. يقُمن في فترات الزرع بوضع وحدات من بصيلات الزعفران تحت التراب مع احترام مساحة معينة من المستحسن أن تكون 20 سنتيمترا، لأن التقريب بين الوحدات فيما بينها يجعلها تتزاحم ويقتل بعضها البعض، فيكون من الضروري تحويلها إلى أرض أخرى، تشرح رئيسة التعاونية وهي تتقاسم أسرارا أخرى عن زراعة الزعفران، من خلال تذكيرها بأن زرع بصيلات الزعفران تكون مرة في سبع أو ثمان سنوات، حسب المساحات المزروعة.
وأماطت اللثام عن فترة الحصاد التي تبدأ في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر إلى غاية الأسبوع الثاني من شهر نونبر وفق معايير محددة، حيث تعمل النساء على جني الزعفران والتخلص من الشوائب والزوائد الفاسدة، بينما يتم إرجاع البصيلات الصالحة إلى التربة لتنمو من جديد، تُفصح المتحدثة نفسها.
وقالت: "منتوج الزعفران يبرز تدريجيا حسب البرودة ويظهر ابتداء من جبال سيروا بالمنطقة، ثاني أعلى قمة جبلية بالمغرب وتعمل فيه العائلات لمدة 20 يوما في السنة، ليل نهار ويتزايد الضغط في فترة القطف، ابتداء من 20 من شهر أكتوبر إلى غاية 15 من شهر نونبر، ففي السابق 90 في المائة من العمل في حضرة الزعفران، كانت تقوم به النساء، بينما يتكلف الرجال بالحرث والسقي خلافا للوقت الراهن، بعد أن تبنّى مخطط المغرب الأخضر سياسة الريّ بالتنقيط".
وأنهت حديثها مشيرة إلى سعيها المتواصل وراء تطوير سلسلة إنتاج الزعفران وتأهيل تسويقه عبر مختلف ربوع المملكة بما في ذلك المنتوجات المجالية، من خلال المشاركة في مجموعة من المعارض التي تراهن على تثمين المنتوجات المحلية، من ضمنها منتجات مخصصة لمواد التجميل.
ولتكتمل الصورة كان لا بد من تجاذب أطراف الحديث مع فلاح بالمنطقة طمعا في أن يعرّي النقاب عن أسرار وخبايا مملكة الزعفران وهو ما استحضره محمد من دوار إغري بجماعة سيدي احساين بتالوين، مفصحا أن عملية زرع الزعفران تعتمد بشكل أساسي على شخصين، الأول يتولى عملية الحفر، بينما يقوم الثاني بوضع البذرة في التربة ويتكاثر عدد المنخرطين في هذه العملية حسب المساحة المزروعة.
وأكد أن هذه الزراعة لا تستقيم دون احترام مجموعة من المعايير اللازمة، في مقدمتها زرع الوحدات وفق عدد محدود ينطلق من وحدتين إلى ثلاثة أو أربعة، إضافة إلى ضرورة وجود فارق بين الوحدات أثناء عملية الزرع يتمثل في 10 إلى 20 سنتيمترات.
واسترسل قائلا إن عمر بذور بصيلات الزعفران، يمتد على مدى خمس أو ست سنوات وهو الوقت الذي تولد فيه بصيلات أخرى، مبيّنا أن موسم الزراعة يبتدئ من شهر شتنبر وهو الشهر الذي تُلقى فيه البذور في التربة وفي شهر مارس تُزال الشوائب، في حين شدّد في المقابل على أن هذه العملية تكون بحاجة إلى التتبع إلى أن يحين قطاف "شعرات الزعفران" وجني المنتوج قبل عرضه للتسويق بعد أن تينع زهراته ذات اللون البنفسجي ويتزايد سنة تلو أخرى إلى أن ينتهي موسمه.
ويعتمد الزعفران في سقيه على طريقتين، الأولى تقليدية والثانية عصرية، إذ أن طرق السقي التقليدية ترتكز على قنوات السقي التي تحتاج إلى الجهد البدني، بينما يُروى ظمأ بذور الزعفران في الحقول الشاسعة باعتماد طرق سقي حديثة تستند على أنابيب الريّ المثبتة فوق المساحة المزروعة، يوضح محمد، كاشفا أن توقيت السقي يبتدئ من شهر شتنبر إلى شهر مارس.
قطف الزعفران
تخضع عملية قطف الزعفران على حد تعبير محمد لاعتبارات معينة لا يستوجب تجاوزها، خاصة بالنظر إلى مرونة النبتة، ما يفرض التأني في قطفها خوفا عليها من التلف لكونها حساسة، وهو أمر لا يتقنه سوى من يعرفون خبايا هذا المجال ويعملون في حقول الزعفران الشاسعة بمنطقة تالوين، يفسّر محمد، قبل جهره بالقول: "لا بد أن يكون الشخص الذي يعمل في هذا المجال متسلّحا بالتجربة والخبرة، فنبتة الزعفران الكبيرة هي المسموح بقطفها بعد أن تعلو وتستقيم لتأذَن بجنيها، غير أن النبتات الصغيرة غير المكتملة في نموها لا ينبغي الاقتراب منها بتاتا، لأنها حينئذ تتعرض للتلف وبالتالي يُقبر أمر الاستفادة منها".
وكشف أن عملية جني الزعفران تكون على عاتق مجموعة من النساء والرجال على اعتبار أن جمع نبتات الزعفران بعد أن يحين قطافها، يحتاج إلى تظافر جهود عدد من الأشخاص الذين تتوفر فيهم مواصفات معينة، معتبرا أن إتقان القطف يظل أمرا لا مناص منه لنجاح العملية من ألفها إلى يائها.
وذكر أن هذه المهمة غالبا ما يُعهد بها إلى النساء ممن يتعاملن مع نبتة الزعفران بحنوّ ورفق دون أن ينفي دور الرجال في هذا الجانب، قبل أن يوضح أن جمع الزعفران يكون في ساعات مبكرة من الصباح قبل الفجر وقبل بزوغ أشعة الشمس الحارقة، لأن تسلل هذه الأخيرة فوق زهرات الزعفران يعمل على انفتاحها، الأمر الذي يجعل عملية القطف مستعصية.
وأبان في المقابل أن النساء يهرولن إلى الحقول لجني الزعفران في ساعات مبكرة وهن يسارعن الزمن قبل أن ترخي الشمس بأشعتها اللاّفحة وهو أمر اعتدن عليه في موسم الجني.. ويبقى الطلب على زعفران منطقة تالوين تبعا لقوله، سيّد الموقف، خاصة وأن التجربة على أرض الواقع، أبانت عن احتلاله للمرتبة الأولى بعد أن حصل على شهادة الجودة، متفوقا على زعفران إيران وإسبانيا واليونان.
وبعد أن توغّلنا في عمق الإنتاج، توجهنا بأسئلتنا إلى حمزة عبدو، وهو تاجر يتحدر من المنطقة ويمتهن بيع الزعفران في مختلف ربوع المملكة ولم يبخل علينا بقوله إن ساكنة المنطقة يتباهون بالزعفران لكونه الأجود عالميا وأصبح البعض يتهافت على زراعته بعد أن تسلّمت مدن أخرى مشعل إنتاجه بكميات قليلة، مثل مدينتي الناظور وتزنيت.
وأثار الانتباه إلى أن الفلاحين الصغار يتوجهون إلى السوق الأسبوعي الرئيسي بمنطقة تالوين يوم الاثنين وإلى أسواق ثانوية يومي الثلاثاء والأربعاء ويبيعون منتوجهم من الزعفران ابتداء من 16 درهم للغرام الواحد وما يحصلون عليه ينفقونه في توفير قوتهم وتدبير احتياجاتهم اليومية، مؤكدا أن الثمن يتذبذب بين الصعود والهبوط تبعا لقانون السوق وقانون العرض والطلب.
وجزم حمزة عبدو أن الانفتاح على أسواق خارجية، مكّنه من كسب ثقة مجموعة من الزبناء وبالتالي تصدير منتوجه إلى دول الخليج، من بينها الإمارات والسعودية وقطر.
وباح بأن الحصول على كيلوغرام واحد من الزعفران ليس أمرا سهلا، لأنه يحتاج إلى جني 140 ألف زهرة ويتطلب فصل مياسيم الزعفران عن الزهرات، ثم تجفيفها الذي لا يخلو من صعوبات جمّة.
وأضاف: "تكتسي عملية إنتاج الزعفران صعوبة فائقة لا تخلو من تعب، وهو ما يجعل سعره يرتفع، علما بأن الجارة الجزائر تبيعه بثمن غال محدد في 100 درهم للغرام الواحد وتكمن صعوبة الإنتاج في مروره بمراحل معقدّة ومضنية وغاية في الدقة، تحتاج إلى طاقة مكثّفة من طرف المشتغلين في ظله، كما أن زرع البصيلات وإزالة الشوائب الضارة وجني الأزهار وفصل المياسيم، تمرّ عبر مراحل يدوية كما هو الشأن بالنسبة لمرحلتي التجفيف والتخزين، ولا يفوتني أن أشير إلى أن زعفران المنطقة يتميز بمذاقه ولذّته التي لا غبار عليها وبقيمته الغذائية التي لا يستهان بها".
القيمة الغذائية
تعد المادة الحمراء في نبتة الزعفران التي يُطلق عليها اسم المياسيم ذات قيمة غذائية رفيعة، حسب العديد من الدراسات المنجزة في هذا الاتجاه والتي تؤكد أن النبتة الحمراء في الزعفران توفّر مجموعة من الخصائص الكيميائية والعضوية.
وتتوزع العناصر الكيمائية بين مواد مسؤولة عن اللون والمذاق والنكهة ومواد متحكمة في الرائحة دون إغفال أهمية مواد أخرى متوفرة في الزعفران، من قبيل الدهنيات، إضافة إلى معادن وأملاح وفيتامينات لها فوائد علاجية، من بينها تشكيل الخلايا والحفاظ على مستوى ضغط الدم والحماية من أمراض القلب.