يرى سعيد الصديقي أستاذ العلاقات الدولية ومدير مختبر الدراسات السياسية والقانون العام، أن الأزمة بين فرنسا والمغرب عميقة بالفعل. ويبسط في هذا الحوار مع "الأيام" مختلف الملفات التي وقع فيها اختلاف بين المغرب وفرنسا، مرجعا التباعد أيضا إلى عدم وجود مقربين من ماكرون كانوا دوما على تواصل مع المملكة وجسورا للتواصل بين البلدين. ويؤكد أستاذ العلاقات الدولية ومدير مختبر الدراسات السياسية والقانون العام بجامعة محمد بنعبد الله بفاس أن أي تغير في توازن القوى بالمنطقة قد يؤدي إلى اضطرابات أمنية تكون لها تداعيات عابرة للحدود.
هناك تجليات عديدة لوجود أزمة بين فرنسا والمغرب كعراقيل منح التأشيرة وعدم تبادل زيارات وازنة بين مسؤولي البلدين، ما هي الأسباب العميقة لهذه الأزمة؟
أرى أن أزمة التأشيرات وغياب الزيارات الرسمية رفيعة المستوى هي مجرد مظاهر لأزمة أعمق، ترتبط بتراكم تناقض المصالح وسوء فهم بين البلدين في ملفات متنوعة على المستوى الإقليمي، وفي علاقتهما الثنائية. ويمكن إيجاز أهم القضايا الخلافية بين البلدين التي يمكن أن تكون ساهمت بدرجات متفاوتة في هذه الأزمة في ما يلي:
أولا: تعتبر قضية الصحراء أهم هذه القضايا حيث لا تزال فرنسا تمسك العصا من الوسط فيما يخص موقفها من هذه القضية، وهذا لا يفيد المغرب. ففي الوقت الذي تستفيد فيه فرنسا اقتصاديا من المغرب بشكل كبير، وثقافتها الفرنكوفونية محمية في البلاد، إلا أنها لا تقدم حتى الآن دعما واضحا للمغرب في قضيته الوطنية الأولى من شأنه مساعدته على حلها، وقد تعزز هذا التوجس المغربي بعد اعتراف أمريكا بالسيادة المغربية على الصحراء وتعبير الحكومة الإسبانية عن موقف متقدم من مشروع الحكم الذاتي.
وثانيا: هناك اختلاف في وجهات النظر في ملفات إقليمية مهمة للبلدين وخاصة في ليبيا ومنطقة غرب إفريقيا.
وثالثا: التنافس الاقتصادي بين البلدين في منطقة غرب إفريقيا، وتنافس شرِكاتهما الاستثمارية في هذه المنطقة، حيث أصبح المغرب منافسا لفرنسا. وبات الفرنسيون كما نتابع في بعض وسائل الإعلامي الفرنسية يتساءلون كيف أصبح المغرب باعتباره إحدى مستعمرات فرنسا السابقة ينافسها في فضاء نفوذها التقليدي.
ورابعا: قضية بيغاسوس، واتهام جهات فرنسية المغرب باحتمال تجسس أجهزته الأمنية على سياسيين فرنسيين، من ضمنهم ماكرون.
وخامسا: اتفاقيات أبراهام التي انخرط فيها المغرب في الأيام الأخيرة لولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي لم يكن لفرنسا فيها أي دور. إذ لا شك أن هذا التهميش لفرنسا، أو عدم رغبة هذه الأخيرة في الانخراط يمثل عنصرا غير جيد في العلاقات المغربية الفرنسية.
سادسا: سمح النظام الدولي متعدد الأقطاب للمغرب بالتحرر من الاعتماد كثيرا على فرنسا في ما يتعلق بالتجارة والاستثمار، وأصبحت له خيارات مختلفة مع شركاء جدد ومن ضمنهم الصين.
وما هي إسقاطات هذه الأزمة على مستقبل العلاقات الثنائية بين المغرب وفرنسا؟
إذا استثنينا مرحلة حكم الرئيس جاك شيراك الذي كان صديقا للمغرب وكانت تربطه علاقات شخصية مع العائلة الملكية، فإن العلاقات المغربية الفرنسية لم تكن في صورة وردية على الدوام، بل كانت دائما تتخللها توترات عابرة، لكن الاتجاه العام ظل عموما مستقرا رغم هذه المطبات لأنه حتى وإذا لكم تكن هناك صداقات شخصية بين الرئاسة الفرنسية والمؤسسة الملكية المغربية، فإن المصالح الاستراتيجية للبلدين الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية كانت ركيزة قوية لهذه العلاقات، كما كانت هناك أيضا باستمرار شخصيات في النخبة المحيطة بالرؤساء لها علاقة مباشرة مع المغرب وكانوا يشكلون ما يشبه جسور تواصل غير مباشرة، أو وسائد هوائية لامتصاص الصدمات التي قد تحدث في هذه العلاقة، لكن ما نلاحظه حاليا هو غياب عناصر في النخبة السياسية المحيطة بماكرون لها علاقة وطيدة بالمغرب، كما هو الشأن مع الرؤساء السابقين. هناك اليوم جيل جديد من السياسيين لا يرتبطون بعلاقات خاصة بالمغرب وهذا أيضا أحد عوامل استمرار هذه الأزمة.
قد تظهر الانعكاسات المباشرة لهذه الأزمة الباردة في الجانب الاقتصادي، حيث يمكن أن نشهد تضييقا من المغرب على الاستثمارات الفرنسية في المجالات التي تدر أرباحا كبيرة مثل مشاريع البنية التحتية، ويشاع أن منح صفقة القطار الفائق السرعة بين مراكش وأكادير للصين إذا تم ذلك بدل فرنسا، أحد هذه التداعيات... ويمكن إضافة منح مشروع ميناء الداخلة إلى شركتين مغربيتين SGTM وSomagec بعدما كانت فرنسا تأمل أن تحصل عليها شركاتها وقد يكون ذلك سبب استياء باريس.
لكن تراجع المكانة الاقتصادية لفرنسا في المغرب لا يعني تراجعا عاما بل هو تراجع نسبي فقط مقارنة مع باقي منافسيها وعلى رأسهم إسبانيا، بمعنى آخر هناك صعود أسرع لمكانة إسبانيا مقارنة مع فرنسا، ولكن لا يزال الاستثمار الفرنسي يشهد نموا في مختلف القطاعات. كما أنه رغم سعي المغرب لتنويع شركائه، فإن هذا لا يعني تخليه عن شركائه التقليديين ومن ضمنهم فرنسا، بل يبحث فقط عن شركاء جدد لتنويع خياراته الاقتصادية، وحتى مصادر تسلحه عند الضرورة، مع الحفاظ على شركائه التقليديين. لكن المغرب يحتاج اليوم إلى إعادة التفكير في الأسس التي حكمت هذه الشراكات التقليدية والتفاوض على أسس جديدة لشراكات استراتيجية وعادلة على أساس قاعدة رابح-رابح مع فرنسا وغيرها من شركاء المغرب التقليديين.
ترتقب زيارة ماكرون للرباط في أكتوبر القادم، هل تتوقعون فرصة لعودة الدفء بين فرنسا والمغرب؟
يجدر التذكير أولا أن ماكرون لم يزر المغرب منذ يونيو 2017، في زيارة عمل دامت فقط 24 ساعة، وأجلت زيارتان كانتا مبرمجتين في 2019 و2020 مما أكد وجود أزمة حقيقية بين البلدين. الزيارات الرسمية هي دائما مؤشر على حسن العلاقات، لذلك فإذا تمت هذه الزيارة ستكون إشارة إلى انفراج في الأزمة الصامتة بين البلدين، لكن أتوقع ألا تتحسن علاقتهما وعودتها إلى طبيعتها حتى نهاية ولاية ماكرون، وحتى إذا تحسنت هذه العلاقة فلا أعتقد أنها ستتطور إلى وضع مثالي. كانت لفرنسا دائما امتيازات اقتصادية وتجارية بالمغرب، ومصالحها الثقافية لا تزال تحظى بهذه بالامتيازات، لذلك إذا أرادت فرنسا أن تكون فعلا شريكا حقيقيا للمغرب، فعليها أن تسانده سياسيا في قضية الصحراء ولا تظل ممسكة العصا من الوسط.
تنامى الصراع بين المغرب والجزائر بشكل غير مسبوق، في ظروف تعرف بأزمة غير مسبوقة في الطاقة وحاجة الاتحاد الأوربي إليها، هل يؤثر هذا الأمر على التوازن الإقليمي في المنطقة؟
يتعامل الاتحاد الأوروبي مع كل من المغرب والجزائر بحذر شديد، ويعرف جيدا أنه يمشي على حبل رقيق في ما يتعلق بالتعاطي مع القضايا التي تشكل حساسية للبلدين، لذلك فرغم حاجة الأوروبيين الملحة في هذه الفترة إلى غاز الجزائر ونفطه، فإن المغرب يتوفر على مصالح استراتيجية اقتصادية وأمنية كبرى للأوروبيين... حتى في ما يتعلق بمصادر الطاقة فالمغرب قد يكون مصدر أمن طاقي لأوربا مستقبلا عبر خط أنابيب الغاز من نيجيريا، والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والاحتياطي الطاقي المحتمل في المغربي... لذلك سيسعى الأوروبيون للحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من المغرب والجزائر التي قد تشهد بعض الاختلالات الظرفية لكن التوجه العام هو التوازن في هذه العلاقات.
الأوروبيون براغماتيون ويعرفون مصالحهم، لذلك هم المستفيدون. فلو كانت العلاقات طبيعية بين المغرب والجزائر وكان الاتحاد المغاربي منظمة إقليمية حقيقية لتفاوض المغاربيون مع شركائهم الأوروبيين وغيرهم من موقع قوة، واستفادوا أولا من الفوائد التي يحققها التكامل الإقليمي من جهة، ومن فوائد علاقات ندية مع شركائهم في أوروبا وغيرها.
ستلتئم القمة العربية في فاتح نونبر القادم، فهل يمكن أن يستغل عسكر الجزائر المناسبة للإساءة للمغرب بالرغم من الاتفاق على مدخلات الاجتماع بالجامعة العربية بالقاهرة؟
الأمر يتوقف عن مستوى مشاركة المغرب في هذه القمة، والترتيبات التي سيتفق عليها قبل انعقادها. وفي جميع الأحوال لا أرى أن من مصلحة الجزائر الإساءة إلى المغرب بما قد يسبب فشلا أو حتى تشويشا على هذه القمة، خاصة وأن الدول العربية لن تسمح بحدوث أي استفزاز أو إساءة للمغرب، كما أن الجزائر حريصة على نجاح هذه القمة والسعي لمشاركة أكبر عدد من الدول بوفود رفيعة المستوى.
ومن جهة أخرى، تشهد دول أمريكا اللاتينية تحولات كبرى مع صعود اليسار الراديكالي كما حدث في كولومبيا والبيرو، ما هي إسقاطات ذلك على الوحدة الترابية ومصالح المملكة الاستراتيجية؟
أعتبر أن قضية الصحراء هي قضية إقليمية بالدرجة الأولى ولا يمكن الوصول إلى حل نهائي لها إلا في الإطار الإقليمي. نعم هذه الاعترافات مهمة من الناحية السياسية والدبلوماسية، ونحن نعرف هذه الحرب الدبلوماسية بين المغرب والجزائر في مختلف المواقع، لكن بعض الانتصارات الدبلوماسية قد تكون ظرفية فقط ولا تؤثر على الموقف العام من القضية، لذلك لا أرى فائدة كبيرة للرهان على التغيرات السياسية الداخلية في هذه البلدان أو غيرها.
وماذا عن التحولات الجيواستراتيجية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والتحديات التي تطرح بقوة على المغرب؟
توجد في المنطقة العربية عموما دول متقاربة نسبيا من حيث قوتها رغم بعض الفوارق، وليست هناك دولة قادرة على فرض نفسها كقائدة بدون منازع، لذلك فقد فشلت كل محاولات تغيير موازين القوى القائمة سواء في الخليج أو الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا. لذلك فإنني أرجح أن تميل جل دول المنطقة إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة لأنها الأضمن لمصالحها، لا سيما أن تغيير خريطة توازن القوى قد يؤدي إلى اضطرابات أمنية تكون لها تداعيات عابرة للحدود. إن الأنظمة الإقليمية الفرعية، في الخليج والشرق الأوسط والمنطقة المغاربية، تتجاذبها محددات تزيد من حالة عدم الاستقرار واللايقين، فمن جهة، هناك غياب الثقة المتبادل بين الأنظمة العربية لا سيما المتجاورة جغرافيا، وثانيا تدخل العناصر الأجنبية التي تعمق حالة التوجس والشك مما يعيق أي محاولات للتقارب وبالأحرى تحقيق التكامل الإقليمي، لذلك أرى من الناحية البرغماتية وعلى المدى المتوسط أن تسعى البلدان العربية إلى الحفاظ على مواقعها الحالية إقليميا ودوليا وتجنب السياسات التي من شأنها أن تعزز الخوف المتبادل الذي قد يؤدي إلى صدام مباشر.