إعداد: زينب مركز نشهد حربا دبلوماسية شديدة على المملكة، بدأت معالمها تطل برأسها منذ أشهر قليلة، من الصراع المفتوح مع الجزائر إلى الصراع الصامت الذي تقوده فرنسا، وما له من ارتدادات كثيرة على مصالح الطرفين، حتى فورة الغاز والبترول التي تضع أوراقا عديدة بيد حكام الجزائر، ثم التحولات السياسية التي تعرفها دول أمريكا اللاتينية التي أتت باليسار الراديكالي إلى سدة الحكم في العديد من دولها، مما كان له تأثير على مواقف حكومات مثل البيرو وكولومبيا وبوليفيا وغيرها من قضية الوحدة الترابية للمملكة، التي اعتبرها الملك محمد السادس المنظار الذي يقيس به المغرب علاقاته مع كل شركائه. وكل هذا يطرح تحديات كبيرة على الدبلوماسية المغربية في المستقبل القريب. الجزائر والمغرب: خطان متوازيان كان قرار الجزائر بقطع العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد مع المغرب، الصيف الماضي، مفاجئا. رغم أن العداء طويل الأمد بين الجارين اللدودين قائم منذ أمد بعيد. اشتدت التوترات بشكل كبير بعد ملحمة الكركرات واحتدت في دجنبر 2020 بعد اعتراف الولاياتالمتحدة على عهد ترامب بسيادة المغرب على صحرائه، واحتدمت بقوة عندما أعربت إسبانيا عن دعمها لخطة الحكم الذاتي، بل طال سلوك السلطات الجزائرية الفلاحين المغاربة الذين كانوا يزرعون الأرض منذ فترة طويلة عبر الحدود، في واحة العرجة بمنطقة فكيك، والذين تم طردهم من قبل السلطات الجزائرية. عانت الجزائر من هزائم متتالية وأصبحت معزولة دبلوماسيا بشكل متزايد. ولم يكن ما أثاره السفير المغربي لدى الأممالمتحدة عمر هلال من الدعم الصريح لتقرير مصير منطقة القبايل ردا على الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو الانفصالية سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. غضب القادة الجزائريون واتهموا المغرب بدعم حركة تقرير المصير في منطقة القبايل وحركة رشاد الإسلامية وتم استدعاء سفير الجزائر في المغرب. بل أصبحت كل تحركات الدبلوماسية الجزائرية والقوة العسكرية موجهة ضد الجار الغربي، ووصلت الأمور إلى الكثير من الإسفاف حين اتهمت الجزائر المغرب – الذي عرض مساعدتها في إخماد النيران – بوقوفه وراء حرائق الغابات في منطقة القبايل دون تقديم أي دليل. وبلغ الصراع ذروته بإغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطائرات المغربية ورفض الجزائر تجديد عقد خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي، الذي كان يمد إسبانيا بالغاز عبر المغرب. في كل هذا الصراع المفتوح مع الجزائر، والذي تحول إلى عقيدة عسكرية ودبلوماسية مع بداية الألفية الثالثة، كان الموقف المعلن هو قضية الصحراء. حيث يدعي حكام الجزائر أنهم يدعمون تقرير المصير، لكن ما يوجد في الخلفية العميقة هو الصراع على القيادة والريادة في المنطقة المغاربية، بعد أن حقق المغرب مكاسب عديدة من الاستقرار السياسي واستقطاب الاستثمار الأجنبي، وانتصارات غير مسبوقة بسبب دبلوماسية السفارات والقنصليات بالعيون والداخلة منذ عودته الناجحة إلى حضن منظمة الاتحاد الإفريقي، في مقابل العزلة التي عاشتها الجزائر لأكثر من عقد بسبب مشكل الخلافة الرابعة والخامسة لبوتفليقة وعدم استقرار الرئاسة بقصر المرادية، زيادة على حراك الشارع الذي مرت منه الجزائر، وانخفاض أسعار البترول يومها في السوق الدولية. لم يحدث أي تحسن في العلاقة بين المغرب والجزائر خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة التي استمرت عشرين عاما. وكانت آخر محادثات رسمية بين الملك محمد السادس والراحل بوتفليقة عام 2005 على هامش قمة جامعة الدول العربية في الجزائر العاصمة. حدث تفاوت بين اللاعبين السياسيين في البلدين، بين نخبة شابة وملك جديد في المغرب، وبين نخبة شائخة في السلطة الجزائرية جلها قادم أو مدعوم من طرف الجيش. وفي غياب أي لقاءات رسمية بين الطرفين، يكاد معظم الفاعلين السياسيين لا يعرفون بعضهم البعض، بل أكثر من هذا، فإن لغة العداء والشحن الإعلامي أفرزت جيلا جديدا يستهلك الكليشيهات التي تكرسها وسائل الإعلام، وليس ما حدث من اعتداء على شبان المنتخب الوطني لكرة القدم بالجزائر مؤخرا سوى قمة جبل الجليد الناتج عن نقل الصراع السياسي إلى فصم عرى العلاقات الاجتماعية بين أبناء البلدين الجارين. لا يمكن أن نضع البلدين على نفس درجة العداء. ففي مناسبات عديدة، بادر المغرب لمد اليد بغرض المصالحة، ودعا الملك محمد السادس إلى الحوار وفتح الحدود، فيما لا يُظهر حكام الجزائر، الذين ينتمون إلى جيل أكبر سنا وتحاصرهم أزمات سياسية داخلية متصاعدة، أي استعداد أو اهتمام سياسي بالمصالحة. وتبدو الأيام القادمة غير مبشرة بأي انفراج، فمع فورة الغاز والبترول، وحاجة الاتحاد الأوربي وبلدان إفريقية عديدة إلى الطاقة، يتوفر عسكر الجزائر على أوراق عديدة حيث سيتم تسخير كل الإمكانيات ضد المغرب. وإن كانت الحرب بين الجارين مستبعدة في الوقت الراهن على الأقل، بسبب توازن القوى العسكري ومصالح الدول العظمى، لكنها برأي الخبراء ليست مستحيلة. ستحاول الجزائر العودة إلى الساحة الدبلوماسية من موقع قوة لاستعادة أدوارها في المحيط الإقليمي مستغلة عائداتها من الطاقة وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية الآخذة في التصعيد، واستغلال حاجة دول الاتحاد الأوربي للطاقة، وقد لاحظنا مغازلة سانشيز الإسباني للجزائر وزيارة ماكرون لثلاثة أيام في نهاية غشت الماضي، ومن المتوقع أن تحلّ رئيسة الوزراء الفرنسية، إليزابيث بورن، بالجزائر في 29 أكتوبر المقبل بهدف تدعيم الشراكات الاقتصادية التي اتفق عليها رئيسا الدولتين خلال الزيارة الرسمية السابقة. وبهذا، سيكون المغرب أمام هجمة دبلوماسية جزائرية في كل المحافل والتظاهرات بشكل أكثر شراسة، وإذا كان غير متوقع أن تحدث أي مفاجآت في مؤتمر القمة العربية المتوقع انعقادها في أكتوبر القادم بالعاصمة الجزائرية، لأن مدخلات القمة تم الاتفاق عليها في آخر لقاء بالجامعة العربية بالقاهرة، إلا أن اللعب على أوتار القضية الفلسطينية قد تستثمره الجزائر لمحاولة الإضرار بالمغرب، وليس ما حدث في قمة تيكاد 8 وجر النظام التونسي إلى استقبال زعيم الجبهة الانفصالية بشكل غير مسبوق سوى بداية وشكل من الحرب الدبلوماسية القادمة ضد المملكة. فرنسا تستفيد من صراع الجارين لا تبدو العلاقات المغربية الفرنسية على خير بدورها، برغم وصفها بالأزمة الصامتة، وعدم إدلاء أي طرف من البلدين بما يوضح طبيعة الجفاء الذي تمر منه العلاقة بين أكبر شريكين في الاتحاد الأوربي ومنطقة المينا (شمال إفريقيا الشرق الأوسط) يزيد الأمر أكثر غموضا. فمنذ أكثر من سنة، هناك فتور ملحوظ يشوب العلاقات الثنائية بين المغرب والمستعمر السابق، منها عدم تبادل زيارات رسمية بين مسؤولي البلدين، استعداء الإعلام الفرنسي ضد المملكة، استثناء المغرب ضمن دول شمال إفريقيا في تخفيض عدد التأشيرات من المصالح الفرنسية لفائدة المواطنين المغاربة إلى الحد الذي مس مسؤولين كبارا ورجال أعمال بسبب ما اعتبر سوء تفاهم حول استعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى المملكة. لكن الأسباب الصامتة توجد أبعد من شماعة بيغاسوس، وتعود أساسا حسب العديد من المراقبين إلى النفوذ الاقتصادي المتزايد للمغرب في القارة السمراء. ورغم أن تراجع نفوذ فرنسا في إفريقيا، يعود أساسا إلى النفوذ الروسي والصيني والإسرائيلي المتزايد، والناتج أيضا عن أخطاء استراتيجية لماكرون في دول الساحل الكبرى، حيث اعتقد أن التواجد العسكري وحده سيضمن استمرار النفوذ الفرنسي، فتعرضت فرنسا للإذلال في مالي، وفي العديد من الدول الإفريقية، لذلك ترى في النفوذ الاقتصادي المغربي مزاحمة في إفريقيا، في ظل عدم تقاسم عائداته وخيراته مع فرنسا. بعد آخر أغضب الدولة الفرنسية العميقة المتحكمة في الاقتصاد والإعلام والأجهزة الحساسة، يتعلق بتوسيع المغرب نطاق حلفائه. وكان قرار اعتراف الولاياتالمتحدةالأمريكية في دجنبر 2020 بسيادة المغرب على الصحراء مقابل التطبيع مع إسرائيل في اتفاقية أبراهام، واستقواء المغرب بهذا الدعم الأمريكي غير المسبوق على العديد من الدول الأوربية، بما فيها ألمانيا وإسبانيا، أكبر صفعة تلقاها الفرنسيون، الذين ينظرون إلى أبعد مدى حيث يخشون النفوذ الأمريكي في أغلب المستعمرات الفرنسية في القارة السمراء، لذلك تحاول الإدارة الفرنسية اللعب على تناقضات البلدين الجارين لخدمة مصالحها الاستراتيجية. ولم يكن تغيير الموقف التاريخي لإسبانيا بتعبير حكومتها عن دعم الحكم الذاتي والزيارات المتبادلة بين إسبانيا والمغرب في مختلف المجالات، سوى القطرة التي أفاضت كأس الغضب الفرنسي من المملكة. في حديث موثق عن الجنرال دوغول، حين أبلغ بحرب الرمال بين المغرب والجزائر عام 1963، قال: «دعهم يتصارعون في ما بينهم، فهم اتحدوا مرة واحدة ضدنا وانتصروا، وكلما اشتد نزاعهم ازدهرت مصالحنا». ما عبر عنه الرئيس الفرنسي يومها يعكس شعور الدولة الفرنسية العميقة الآن وهنا. ففي مقال له بعنوان «المواجهة في شمال إفريقيا: كيف يؤجج نزاع الصحراء الغربية توترات جديدة بين المغرب والجزائر» كتب المحلل بمجلس الاتحاد الأوربي للعلاقات الخارجية أنطوني دووركين Anthony Dworkin دراسة مما جاء فيها: «إن السماح للمغرب بتحديد شروط علاقاته مع الاتحاد الأوروبي يهدد بتشجيع البلاد على أن تصبح أكثر حزماً ويعرض صورة الاتحاد الأوربي للضعف الاستراتيجي الذي يتعارض مع هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في أن يصبح قوة جيوسياسية. كما أنه يقوض قدرته على لعب دور معتدل في شمال إفريقيا وبالتالي يهدد بإلحاق الضرر بالمصالح الأوروبية الأوسع في المنطقة. يجب على الاتحاد الأوروبي إعادة ضبط سياساته حتى يتمكن من تحقيق طموحاته طويلة الأمد بشكل أفضل في علاقاته مع كل من المغرب والجزائر، بما في ذلك التأثير على ديناميكيات التصعيد بين الخصمين». لقد زاد دعم إسبانيا لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء والتقارب بين الجارين اللذين دارت بينهما حرب دبلوماسية مشتعلة، من الغضب الفرنسي. وتعتبر قضية الصحراء أهم ملفات الخلاف، لأن المغرب يرى ضرورة خروج أقرب صديق وأكبر شريك من المنطقة الرمادية وإعلان دعمه المطلق لخطة الحكم الذاتي في الصحراء، لتأكيد مغربيتها خاصة بعد الاعتراف الأمريكي، خاصة وأنه كانت هناك وعود من ماكرون نفسه – تقول مصادر عليمة – بأنه سيعلن هذا الموقف مباشرة بعد إعادة انتخابه للولاية الثانية، لكنه أخلف وعده. هذا بالإضافة إلى اختلاف وجهات النظر في ملفات مشتركة أو في قضايا إقليمية مثل الوضع في ليبيا… ورغم إشارة الطمأنة التي بعثها الرئيس الفرنسي من الجزائر، حين أشار إلى أنه سيزور المغرب في أكتوبر القادم، إلا أن كل شيء متوقف اليوم في انتظار «غودو» الشهر القادم. * حوارات قيّمة ضمن هذا الملف المنشور في النسخة الورقية ل"الأيام" عدد 1007، ننشرها متفرقة على شكل سلسلة تجدونها في الموقع الالكتروني.