مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم    المغرب يعتبر نفسه غير معني بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري        إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    أساتذة كليات الطب: تقليص مدة التكوين لا يبرر المقاطعة و الطلبة مدعوون لمراجعة موقفهم    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث الجمعة في الذكرى المائة: لنداء الوحدة والتضامن في مواجهة مؤامرة التجزئة والتقسيم
نشر في العلم يوم 15 - 01 - 2016

«كنا ندرك أننا بحاجة إلى عامل جديد في الشرق، قوة ما أو عرق ما، ترجح كفته على كفة الأتراك عددا و نتائج ونشاطا فكريا، لم نلف في صفحات التاريخ ما يشجعنا على التماس هذه الخصال جاهزة مكتملة من أوروبا.. وكان منا من يخمن أن هناك قوة كامنة منتشرة في الشعوب العربية (المكون الأعظم للإمبراطورية العثمانية القديمة) تكتل سامي خصب وأعد، عظيم في فكره الديني مجد إلى حد معقول له روح تجارية وميول سياسة غير أنه ذو طبيعة تميل إلى الذوبان أكثر منها إلى الهيمنة».
هذه الفقرة أوردها البرت حوراني في كتابه (تاريخ الشعوب العربية) ص386 منسوبة إلى الورنس المنسوب إلى العرب والذي جسد بإتقان دوره المعروف في مرحلة الإعداد لما تعرفه المنطقة العربية اليوم في الشرق من أوضاع التجزئة والتقسيم والصراع مع الصهيونية العالمية حول فلسطين، وبقطع النظر عن الأوصاف التي أوردها الرجل في تحليله للإنسان العربي أو الأمة العربية فهي لا تخلو مما تعود الاستشراق بصنفيه الاستعماري التبشيري أو العلمي أن يصف به العرب أو الأمة العربية غير أن المهم أن الرجل يعبر عن فلسفة السياسة الغربية تجاه الشعوب العربية ومقوماتها الأصيلة وكيف يمكن استثمار واستغلال الايجابي منها والانتفاع بالسلبي كذلك، ولكن المهم هو هل استفاد العرب والمسلمون من هذه الحقائق السياسية والخلفيات التآمرية التي تكمن وراءها؟ الظاهر أن النظام العربي الذي نصبه الانجليز والمتمثل في الجامعة العربية بقي وفيا للخطة المنسوبة ل "لورنس" ومن جاء بعد لورنس، لان كل الويلات التي عاشها العرب لم تكن لتجدي هذه الجامعة لتستفيد منها وتقوم برسم سياسة لصالح الشعوب ولصالح الأنظمة نفسها وبقطع النظر عن كل المراحل السابقة لنلقي نظرة على حصيلة النظام العربي خلال الخمس سنوات الأخيرة فسنجد أن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي انتهى من أجندة الجامعة وأن إسرائيل أصبحت في مأمن من جهة هذه الجامعة وعلى الفلسطينيين أن يدبروا أمرهم أو يقبلوا الخنوع لإسرائيل ونجد كذلك أن كل القرارات كانت ضد المصلحة العربية العامة وأنها خضعت لتصفية الحسابات بين الأنظمة أو الشخصيات أو الأشخاص الفاعلة أو المؤثرة في الأنظمة بل أنه تم إحياء النعرات المذهبية والطائفية لدق اسفين العداوة وتركيز هذه العداوة بين الشعوب العربية والشعوب الإسلامية ومحاولة دفع الجميع إلى التطاحن والتقاتل وليس هذا سرا أو أمرا غائبا عن الناس فيكفي الاستماع إلى المحللين في وسائل الإعلام لإدراك اتجاه الأمور.
لقد كان خصوم العرب والمسلمين يخشون التقدم التكنولوجي الذي تكتسبه بعض الدول العربية أو الإسلامية وبما أن باكستان اكتسبت تكنولوجية علمية في المجال النووي فهم ما انفكوا سيمون ما أنتجته بالقنابل الإسلامية ولا يريدون أن تضيف إيران قنبلة أخرى جديدة ليصبح لدى الإسلام والمسلمين طموح إلى المزيد وهم يسعون اليوم لطمس كل معالم التقدم العلمي لدى الجميع.
ولا بأس من أجل ذلك للسعي لتركيز الصراع والتقاتل بين العرب بعضهم مع بعض وبينهم وبين المسلمين من غير العرب.
وعلى أي حال فإننا في حديث الجمعة نستضيف اليوم رجلا عاقلا من عقلاء العرب وجه إلى العرب نداء منذ مائة سنة لعلنا نستفيد ونتعظ، إنه الأمير شكيب ارسلان.
*********
مائة سنة
في شهر يناير 1916 أي منذ مائة سنة انطلقت بكيفية جدية خطوات متسارعة لتحديد ساعة الصفر لحدث مهم كان له الأثر الكبير بل هو المؤثر الذي يرجع إليه ما آلت إليه البلاد العربية شرقا من تجزئة وتقسيم وكان نقطة انطلاق العمل المباشر لما عرف بعد ذلك بنكبة 1948م أي ضياع فلسطين وسقوطها بيد الصهاينة وطرد أهلها منها، ففي يناير 1916 انتقل إلى دمشق فيصل بن الحسين بن علي للإشراف على انطلاق الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، بعد ما تم تهيئة الجو بسبيل من المراسلات واللقاءات بين الشريف الحسين بن علي وأبنائه وممثلي الحكومة البريطانية التي كانت تعد العدة للانقضاض على تركة الرجل المريض الذي يحتضر والذي سيتم الإجهاز عليه أثناء الحرب العالمية الأولى.
اللعب على المحاور
لقد كان الانجليز وهم يراسلون ويتصلون بالعرب يضعون الاتفاقات السرية ويضبطونها مع الفرنسيين لاقتسام التركة، وهم في نفس المرحلة التي يتفقون فيها مع الحسين بن علي الذي نصب نفسه متحدثا باسم العرب كان هناك في نفس البلاد، من ارض العرب اعني شبه الجزيرة أطراف أخرى يفاوضها الانجليز ويتفقون معها، وهكذا كان ما تعرفه هذه المنطقة من إمارات وصراعات على النفوذ وسيلة بريطانيا لتلعب لعبتها التي انتهت كما هو معروف إلى الوضعية التي عليها ليس شبه الجزيرة فقط أو ما يعرف حاليا بدول الخليج، ولكن بالدول التي تعرف اليوم بأسماء مختلفة.
أوهام الخلافة
لقد كانت بريطانيا مع حليفتها فرنسا تعد الخرائط للتجزئة والتقسيم، وهي تمنى الحسين بن علي وأولاده بالخلافة العربية الكبرى التي ستبعث من جديد، ولكن العرب والنخبة العربية كذلك لم تكن في مستوى ما يتطلبه الموقف حيث غلبت عليها النعرة القومية، وتأججت مشاعر النفور من الأتراك الذي هم بدورهم أصبحوا طورانين بدل أن يبقوا مسلمين كما كانوا من قبل يشملهم ويعميهم ما يعم غيرهم من المسلمين.
ولقد انطلقت الحيلة على الطرفين معا، واستطاعت المكائد المنبعثة من أحقاد وصراعات قديمة والمؤامرات المدبرة بالليل أن تدق اسفين التفرقة وتملأ العقول بالعصبيات والقبليات التي اكتوى بنارها الجميع.
أهمية التاريخ
إن أهمية دراسة التاريخ وتتبع أحداثه لها أهمية كبرى بالنسبة للشعوب والأمم ولكن يظهر أن العرب ليس لهم حظ في قراءة التاريخ أو تدبر معانيه وأحداثه وما تحمله وتنطق به عن عبر ودروس والغريب في أمر هؤلاء العرب أنهم الآن يتحدثون بإسهاب وإطناب من مؤامرات التجزئة والتقسيم وتحضير خرائط جديدة والتماس السبل لتنفيذها ولكنهم مع ذلك فهم ماضون في طريقهم لتسهيل المأمورية لدى خصومهم كما سهلوها عليه بالأمس.
الذاكرة المفقودة
لقد كتب الانجليز والفرنسيون مآت من الكتب والدراسات على هذه المرحلة وكيف دبروا الأمر، ومع ذلك فان العرب وهم يعاودون الكرة من جديد يقدمون لهم نفس العون والتسهيلات كما قدموها بالأمس، وليس الغرب وحده يستفيد من عدم وجود الوعي التاريخي بل عدم الاهتمام بقراءة التاريخ وأحرى الاستفادة منه لدى العرب بل ان كل من له خصومه مع العرب يستفيد من هذه الخاصية خاصية تجاهل التاريخ وعدم الاهتمام به وبغيره لدى العرب ومن هنا كان العرب بدون ذاكرة.
وقود الحرب
وبما أن الانجليز كانوا مضطرين لإيجاد وقود للحرب التي يخوضونها سواء ضد ألمانيا أو الدولة العثمانية حليفة ألمانيا في هذه الحرب فقد لجأت إلى المجموعة العربية التي كانت تهيئها منذ أمد غير قريب، فهي خلال القرن التاسع عشر بصفة خاصة وحماية لمصالحها في الهند وفي غيرها من المناطق المختلفة فقد رأت كغيرها من دول الغرب الاستعمارية في الدولة العثمانية ما يهدد هذه المصالح ولذلك سعت ليس في طرد هذه الدولة التي أضحت ضعيفة من دول البلقان ولكن كذلك في مشيجات الجزيرة العربية حينذاك ولم لا في كل المناطق المدعوة عربية وذلك صيانة لمصالحها الاستعمارية في آسيا وإفريقيا.
صناعة امة
ومن هنا كانت نتآمر مع العرب ضد تركيا وتتآمر مع بعض العرب ضد البعض وتتآمر على العرب مع حليفتها فرنسا ويعبر (لورنس) عن هذه الحقيقة حقيقة صناعة القوة العربية المعادية لتركيا بقوله (كنت اعتزم صنع أمة جديدة، ان أعيد النفوذ المفقودة مرة ثانية إلى الوجود ثائية) ويعلق البرت حوراتي على هذه الفقرة بقوله وسواء تم قطع وعود فعلا، وان صح فما هي هذه الوعود» لينتهي إلى القول أنه ما هو واضح فعلا فهو انه للمرة الأولى لافت مطالب أولئك الذين يتحدثون العربية أنهم بأنهم يشكلون أمة وان لهم الحق باتخاذ دولة لهم قبولا إلى حد ما لدى قوة عظمى» (تاريخ الشعوب العربية ص:386).
لم يعد هناك شك
إن أمر قطع الوعود وعقد اتفاقيات واقتراح الحدود وغير ذلك مما تضمنته المراسلات السرية والعلانية والمذكرات بين الشريف الحسين وأبنائه وغيرهم من مشايخ وحكام الجزيرة ومن كانوا يعتبرون أنفسهم نخبة سياسية في البلاد العربية وأن الأمر في الحقيقة لم يعد فيه شك أو تساؤل ولكن الذي حدث أن العرب وقعوا ضحية وفريسة الغدر والتآمر الغربيين كما وقعت تركيا نفسها وقادتها، كما عبر عن ذلك أحمد رضا بك في كتابه المهم (الخيبة الأدبية للسياسة الأوروبية).
شخصية المبادئ
ولكن كان هناك شخص لم تنطل عليه الحيلة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الشعوب العربية، ذلك لأنه كان ينظر إلى الأمور من زاوية المبادئ والقيم ولم يكن ينظر إليها من زاوية المصلحة الشخصية الضيقة أو اكتساب النفوذ والسلطة كان ذلك الرجل الذي لم يستسلم بعد ذلك لما حصل ولكنه بقي صامدا ومجاهدا ومقاوما حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يناضل من أجل الأمة وحريتها واستقلالها، ولم يكن بفصل بين الدين وبين السياسة كما راح الكثيرون عربا وأتراكا ضحية سياسة الفصل بينهما ذلك الرجل هو الأمير شكيب أرسلان.
التلاعب بالمشاعر
لقد أدرك الرجل قبل ذلك أن الغرب يتلاعب بمشاعر بعض عناصر النخبة العربية، وان الغرب لا إخلاص عنده ولا وفاء لما يقطعه من التزامات لأنه ينطلق من مبدأ راسخ وقناعة ثابتة فهو يرى أنه لا يمكن تحقيق أطماعه وأهدافه في التحكم والسيطرة وإنهاء الوجود الإسلامي مع إنشاء دولة عربية قوية وبالأحرى إعادة الخلافة العربية إلى الوجود. لقد كان الرجل ينظر إلى الأمور نظرة مختلفة، وقد أدرك بعض العرب الذين كانوا مخلصين حقيقة ذلك ولكنه بعدما فات الأوان، وكان ما كان من التجزئة وفرض الانتداب وتبخر الوعود والمكاتبات والاتفاقات السرية ولم يصح من كل ذلك إلا الاتفاقات السرية بين الدول الأوروبية وبالأخص بين انجلترا أو فرنسا، اتفاقيات سايكس بيكو عام 1916.
التشرذم
وإذا كان الواقع العربي اليوم واقعا متشردما أكثر من أي وقت مضى ونشطت السياسة الأوروبية في إذكاء النعرات القبلية والاثنية والخلافات المذهبية ومحاولة ضرب بعض الدول الإسلامية بعضها ببعض عربية وغير عربية ومن سوء الحظ أن المسؤولين العرب وقعوا من جديد في أحبولة السياسة الغربية الماكرة فبعضهم يردد سياسة بداية القرن العشرين ضد إرادة الهيمنة العثمانية التي تمثلها أطماع الحكومة التركية الحالية والبعض الآخر يتحرك ضد أطماع الدولة الفارسية التي تشخصها الحكومة الإيرانية الحالية ولكن الصهيونية والاستعمار القديم والجديد فهم حلفاء الأطراف كلها والكل يردد حذار من سايكس بيكو جديدة.
الأمة العربية
بعد أن يستعرض الطبيعة البشرية في التنافس يتحدث عن الأمة العربية في هذا الشأن يقول:
«وقد امتازت الأمة العربية، وهي امة واحدة بين جميع الأمم بالغلو في العصبيات، والتمسك بالكلالات، فهي تجعل هذا الأمر فوق كل أمر، وتجد من غضبها لأنسابها، وحميتها لأصولها، ما لا تجده في أمة أخرى من الأمم الشرقية ولا الغربية، وما ترى الغارات لأجله متصلة، والثارات غير نائمة لحظة إلى يومنا هذا، فهذه سنة الله في خلقه على تفاوت في درجات التمكن، غلب سلطانها على الأمم البادية، ولم تخلص من تأثيرها الأمم الحاضرة، بالأمم المتمدنة الراقية، فترى في أوربا أشد المناظرات قائما بين أقسام الشعب الواحد، الذي تجمعه جامعة واحدة، ويظله لواء فرد، نظير غيرها من الممالك الألمانية، ونظير النمسة والمجر، ونظير غيرهما من الممالك التي تنطوي أحشاؤها على نزاع كثير، ولا يأخذ بحجزاتها عن إعلان الانفصال سوى الخوف من شر أعظم، والاستهداف لسهم أنفذ، بل تجد الدول العظام، التي بينها من الإحن القديمة العصور، والحزازات المتراكمة في صدور ما لا يكاد يسعه التاريخ قد سبقت الى الاتحاد من جهة أخرى، حفظا للتوازن الذي هو أقوى شرط على حد قول القائل من شعراء الحماسة.
تعدد الأجناس
داخل الدولة العثمانية مما أنهك قواها يقول الأمير:
ولقد وجدت السلطنة العثمانية أكثر الممالك أجناسا، وأحصاها طوائف، وأغربها عناصر، وفيها العرب، والترك، والكرد، واللاز، والأرناؤوط، والروم، والارمن، واليهود، وغيرها، وكل من هذه الشعوب قائم بنفسه، مستقل بلغته، حافظ لقديمه، متمسك بأحاديثه وتواريخه، لم تكن الدولة العلية أيدها الله لتزعجه في شيء من جهة قوميته، ولم يعهد أن دولة بلغت مدى هذه الدولة من جهة إعطاء الحرية للأديان والألسنة، حتى جعل كثير من علماء الاجتماع ذلك هو السبب في كثرة مشكلاتها، وتوالي فتوقها، وما أنهك قواها من مصائبها».
وعن الحيلولة التي تنشأ عن التنافس والاختلاف يقول:
«وبديهي أن اختلاف الأديان واللغات، وافتراق الأصول والأجناس هما مما يورث المناظرات والمنافسات، ويقف حائلا دون الالتحام التام، والالتئام الذي يكمل به النظام، ومما يوجد الوحشية بين القلوب، ويمنع أنسة الأجناس بعضها ببعض، فلذلك طرأ على عصبية الدولة العثمانية من الوهن، وداخلها من الاسترسال ما تظهر لنا آثاره يوما بعد يوم، ما لو كان في مملكة أخرى لا نحل نظامها، وانتثر سلكها، ودخلت في خبر كان منذ أزمان.
الإسلام والوحدة
وعن دور الإسلام وأنه الرابطة التي جعلت الدولة العثمانية حينذاك لا تزال متماسكة يقول:
ولكن الذي نسأ في أجل الدولة العثمانية، مع ما هي مصابة به من أمراض الداخل، ومحاطة به من دسائس الخارج، هو كون مادتها الكبرى هي الإسلام، وأن المسلمين مهما افترقت أجناسهم، وتباينت لهجاتهم يجمعهم الدين جمعا لا يجمع أمة غيرهم، ويزيل من الفروق العميقة والأبعاد السحيقة بينهم ما لا يزيله شيء، وأن المسلم العربي يرى المسلم التركي والمسلم الأرناؤوطي أخا له نظير أخيه العربي، بدون فرق، عملا بمحكم الكتاب الذي نزل فيه «إنما المؤمنون إخوة» (الحجرات الآية:10) واقتداء بسنة الشاعر الأعظم صلى الله عليه وسلم القائل: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فضل الإسلام على العرب
عن فضل الإسلام على العرب يقول:
وكذلك غلبت العصبية الدينية في الإسلام على كل عصبيتها سواها وطمستها، فلا تكاد تجد لغيرها أثر بين المسلمين، لأن هذه الشريعة السماوية وإن جاء بها اعرب العرب، ونزل كتابها بأفصح لغات العرب، هي شريعة عامة مبنية على المساواة التامة، وبعيدة عن أثرة الجنسية، وصاحبها يقول: (ليس منا من دعا إلى عصبية)، ويقول أيضا: (إنما بعثت إلى الأحمر والأسود).
ولو كان في الإسلام أدنى أثر للأثرة الجنسية ما انتشرت شريعته في الأرض، ولا أتبعها الأحمر والأسود، ولا ضربت من المشرق إلى المغرب، حتى ولا اجتمع عليها العرب أنفسهم، الذين هما قبيلان كبيران، متناظران متنافسان، قحطان وعدنان، فإن الأثرة الجنسية كان يمكن أن تلقي العداوة والنفاسة لقحطان على عدنان، بمكان هذه من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه من سرة بطحان قريش، والعرب أشد الناس حمية للعصبيان، فلا يعقل أن تطيعه العرب بأجمعها، لو لم يكن نبيا مرسلا الى الكافة، ناشرا دعوة المساواة، صادعا بآيات «إن أكرمكم عند الله اتقاكم» (الحجرات الآية:13) ولو لم يكن نزل عليه من ربه «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله» (الأحزاب:40).
نبذ العصبيات
وعن نبذ الإسلام للعصبيات وعلى اختلاف أصنافها يقول الامير:
فكون الشريعة المحمدية السمحاء شريعة عامة للبشر، مبنية على أتم المساواة، سائرة في أمور الدنيا إلى قاعدة العدل، الذي يوفر لكل أحد حقه بدون نظر إلى أصله وفصله وفي أمور الآخرة على قاعدة تقوى الله تعالى، الذي يحاسبهم بأعمالهم يوم لا أنساب بينهم ولا هم يتسائلون- هو الخصلة الكبرى التي نشرتها هذه الشريعة في مشارق الأرض ومغاربها، حتى دان بها إلى يومنا هذا أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة من بني آدم، لا يعلم الواحد منهم نفسه مسلما حتى يرى نفسه متحققا بأخوة محكمة، متينة العرى، تربطه بهؤلاء الثلاثمائة مليون من أصناف السلائل البيضاء والسوداء والصفراء، يشعر بشعورهم في الصراء والضراء، ويشاطرهم وجدانهم في الشدة والرخاء».
المبدأ المقدس
ويتحدث الأمير عن المبدأ المقدس والرابط بين الناس والذي بمقتضاه العرب دانوا لدعوة محمد في الفقرة التالية:
وهذا المبدأ المقدس هو الذي جمع في صدر الإسلام هذه الأمة العربية مع إغراقها في تقديس عصبياتها، وإطاعتها دواعي أحقادها على كلمة واحدة، خرجوا بها من هاتيك الجزيرة القاحلة، ففتحوا الأقطار، ودوخوا الأمصار، وملكوا ما وراء البحار، ووطئوا مناكب الملوك الكبار، وثلوا عروش كسرى وخاقان وقيصر، وورثوا أراضي العجمة والروم والزنج والبربر، ولو لم تتلاشى العصبية الجنسية بالعصبية الدينية لبقي العرب محصورين في جزيرتهم، لا تعلم بهم الأمم، ولا يذكرهم التاريخ إلا لماما، ولا كانوا إلى يومنا هذا طرائق بددا، خضعا رقابهم لعدو يأتيهم من طرف العراق باسم كسرى، ومن طرف الشام باسم قيصر».
بداية التراجع
هذه الروح التي مكنت العرب من بناء المجد العربي الإسلامي وإنشاء الحضارة الزاهرة يرى أنها لن تدوم في حالة تراجع هذه الروح عند العرب وفي هذا الصدد يذكر الأمير.
ولما ضعفت فيهم الملكة الدينية، وبعد عهدهم بعصر النبوة وبخلافة الراشدين، عادت تحيا فيهم عصبيات الجاهلية، وتتجدد مناظرات القيسية مع اليمانية، حتى عاد بدرهم عرجونا، ورجع كوكبهم نورا ضئيلا».
رسالة الإسلام مستمرة
ولكن الإسلام لم يضعف بضعف العرب ولا بعودة العصبية إليهم لأن الإسلام انشأ أقواما آخرين وكان تأثيره واضحا في العالم وكأنه يرجع إلى قوله تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين.
ومع هذا فإن الإسلام كان أثر تأثيره في العالمين، ودخلت فيه الأمم أفواجا، ووجدوا في شريعته من آثار عدم الإيثار ما زادهم فيه رغبة، وعليه إقبالا، فلما ضعف العرب بتشظي عصاهم عن الاستقلال بحمايته، قام مقامهم الترك والديلم والجركس والعجم، وغيرهم من الأمم، فلم يكن لعربي أن يعترض على خضوع المسلمين حتى العرب منهم لسلطان من غيرهم، ما دام قائما بأمر الإسلام، حافظا لحدود شريعة سيد الأنام، وكانت في الإسلام منذ القرون الأولى دول في الشرق كالدولة البويهية، قد فتحوا الفتوحات، ونشروا كلمة التوحيد في قاصية الأرض، ووقف كثير منهم مواقف الخلفاء الراشدين، والأئمة المهدين».
وعن دور البربر ودولة المرابطين وغيرهم من الكرد والترك يقول الأمير شكيب وكذلك في الغرب، قامت دولة المرابطين العريقة في البربرية، فكان لها من الأثر في الذب عن بيضة الملة، والنشر لكلمة الإسلام في المغرب والأندلس ما لا يحتاج إلى بيان في مثل هذه العجالة.
ولو لم تكن عصبية العرب الدينية هي الغالبة، ولو كان قد قام العرب ينافسون ابن سلجوق لكونه تركيا، وابن أيوب لكونه كرديا، وابن تاشفين لكونه بربريا، وأوصى علماؤهم بخلع طاعة هؤلاء الملوك لمخالفتهم لهم في الجنس، أو سمحوا بنقض بيعتهم، أو قيل لأهالي مصر والشام ما لكم تطيعون هذا الكردي وأنتم عرب وهو ليس منكم، ولا ممن يفتخر بقحطان، بل ممن يعتز بالإسلام –لكان وقع الخلف، وتفرقت الكلمة، ولكان الإفرنج أخذوا جميع بلاد الإسلام وغير الإفرنج أخذ الباقي، وصيروا المسلمين خولا، وطمسوا معالم الإسلام من كل بقاع الأرض، وصارت هذه الأمة أثرا بعد عين».
ويورد شكيب أرسلان أشكال القومين العرب الذين بدؤوا آنذاك يبرزون في مواجهة القومية الطورانية التركية ويجيب عنه فيما يلي:
وربما قال بعض أولئك الذين نعلم ما هي مبادئهم: وماذا هناك من المصيبة بزوال الإسلام، وسيبقى لنا قحطان، وما أشبه ذلك من الأقاويل.
فعندها نقول لهؤلاء: نحن إنما نتكلم مع من يريد أن يبقى مسلما، فأما الذين يقولون علنا إننا نفضل عربيتنا على الإسلام، وإننا عرب في الدرجة الأولى، ومسلمون في الدرجة الثانية، كما أخذ يشيع ويذيع الآن، ولو كان ذلك القول خلافا للشرع، فلا كلام لنا معهم حينئذ.
لولا من أسلم
وإن أردنا أن نجود عليهم بجواب قلنا لهم: إنه لولا أولئك الذين أسلموا من الترك وسائر الأعاجم لم يكن فقط سقط الإسلام، بل لسقط قحطان الذي تفتخرون به نفسه، وأصبح من ينتمي إليه أذل من النقد، نقول لهم ذلك ولو ثقل عليهم الأمر، لأن الحقيقة مقدمة كل شيء، والحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
ويختم شكيب هذه المرافعة بقوله:
«لو قال عرب الأندلس أصح العرب الطارئين على الآفاق نسبا للمعتمد بن عباد صاحب اشبيلية: مالك تستصرخ ذلك البربري، الذي لا يفقه من العربية حديثا، وهو إذا ملك الأندلس انتزع من يدك ملكك، ولو أطاعهم ابن عباد في هذا القول لما كان ظهر المسلمون في وقعة الزلاقة ذلك الظهور الهائل، ولما تأخر إخراج المسلمين من الأندلس مئات من السنين، ولكن ابن عباد العربي القحطاني اللخمي اليماني آثر دينه على دنياه، وفضل أن يأخذ بلاده البربر، وهم مسلمون، على أن يبقى هو تحت سيطرة الإفرنج ولو ملكا، وقال: فإن كنتُ مأكولا فكن أنت آكلي، ورويت عنه تلك الجملة السائرة عندما نبهوه إلى ما يخشى عليه من ذهاب ملكه لو استصرخ افريقية وهي: رعي الجمال خير من رعي الخنازير».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.