وأخيرا خرجت مدونة السير الجديدة إلى حيز الوجود بعد مرورها على صراط مستقيم ومخاض عسير بين منابر المؤسسات الدستورية والنقابية والمهنية، مبرهنة على الإرادة السياسية الصلبة للحكومة من خلال وزارة التجهيز والنقل في مواجهة الصعاب القانونية والسياسية والتقنية والمهنية العادية والاستثنائية. إن الرأي العام الوطني يسجل لصالح الوزارة الوصية على قطاع النقل جرأتها في خوض ورش وطني عالي العيار من هذا القبيل، حيث اتصفت بصبر أيوب في اختيار منهجية حوارية تشاورية توافقية موثقة مع مختلف تيارات قطاع النقل الطرقي، وفي مناقشة نتائج هذه اللقاءات مع ممثلي الأمة بغرفتي البرلمان،وعرض ذلك على المجلسين الحكومي والوزاري ، ثم إشراك المهنيين في مناقشة المراسيم التطبيقية قبل عرضها على المجلس الحكومي، وعرض هذه المراسيم التطبيقية بشكل غير مسبوق على أنظار البرلمان قبل مصادقة المجلس الوزاري عليها، بالرغم من كون ذلك ليس من اختصاص البرلمان ،الأمر الذي كانت له نتائج إيجابية على العديد من الجهات، وخاصة المهنية منها بما فيها الحركات الاحتجاجية الوهمية المدعومة من طرف بعض تيارات المعارضة السياسوية. إن قوة مدونة السير تتجلى في العديد من النقط الإيجابية كتقليص عدد حوادث السير والحد من إزهاق الأرواح البريئة، وتأهيل قطاع النقل الطرقي كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونشر ثقافة سير جديدة تسودها مبادئ التسامح وحرية التنقل السلمي وثقافة المسئولية الجنائية والمدنية والمحاسبة العسيرة للسائقين المتهورين، بتحديد المسئوليات واقتسامها فيما بين الفاعلين والمتدخلين في السير على الطرقات، ونشر قيم الشفافية في الرقابة ومعاينة المخالفات ومحاربة الرشوة، وتمتيع محاضر الشرطة القضائية بمصداقية أكثر، وإدخال مفهوم السياقة المهنية ذات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك دون إغفال أن وفاء الوزارة الوصية بما التزمت به أثناء المصادقة على المدونة مع لجنتي البرلمان والمهنيين. وإن من سوء حظ مدونة السير الجديدة تزامن بداية مناقشتها لأجواء الانتخابات قبيل انتخابات سنة 2007 وتزامن عملية المصادقة عليها لأجواء انتخابات 2009 الجماعية ، وتزامن دخولها حيز التنفيذ أيضا لعمليات التربص والإعداد لانتخابات 2012 التشريعية، كما أن من سوء حظ هذه المدونة ابتلاؤها بمعارضة سياسوية ضعيفة المستوى، حيث فشلت المعارضة الإسلاموية في ثني مساعي الحكومة بشأن تأجيل المصادقة النهائية على المدونة، وتجرعت شر هزيمة بحصول المدونة على شبه إجماع أصوات البرلمانيين بالغرفتين معا، حيث افتضح أمرها أمام الشعب المغربي في معارضة مدونة صارمة ضد إرهاب السائقين المتهورين على الطرقات المغربية في إزهاق الأرواح البريئة للنساء والأطفال والشيوخ، ولقد عجب الجميع كيف سمحت هذه المعارضة لنفسها بأن تناقش المراسيم التطبيقية للمدونة خلال الأسبوع الماضي وتبدي ملاحظاتها الإيجابية والسلبية بشأنها، بعد سبق رفضها للمدونة جملة وتفصيلا، أليس هذا من قبيل النفاق السياسي؟ ومن سوء حظ مدونة السير الجديدة ابتلاؤها أيضا بمعارضة برلمانية جديدة ، صادقت على المدونة علنا أمام الرأي العام الوطني باليد اليمنى، وتعارضها اليوم خفية باليد اليسرى، حيث تستغلها مطية لتحريض بعض المهنيين ضد الحكومة أثناء عرض وزارة التجهيز والنقل لمشاريع المراسيم التطبيقية على النقابات والمهنيين قصد إغنائها، مدافعة في ذلك عن لوبيات النقل المستفيدة من سياسة الريع في هذا القطاع، عوض الدفاع عن شغيلة القطاع ذات الوضعية المتردية من جراء استغلالها البشع من طرف هذه اللوبيات. ويتجلى نفاق هذه المعارضة الجديدة في العديد من النقط الواضحة، حيث بعد أن طالبت وزير التجهيز والنقل باستحضار رجال الدرك والأمن الوطني من أجل محاسبتهم على موضوع الرشوة بالطرقات، بهتت لما عمل الوزير على استحضار هاتين الإدارتين الأمنيتين، حيث وجهت سهام النقد اللاذع للوزير الوصي، دون أن تفوه بكلمة في موضوع تخليق عمليات المراقبة الطرقية من طرف رجال الدرك والأمن، كما استغرب الرأي العام لتراجع هذه المعارضة الجديدة عن مساندتها للمدونة بادعاء توافرها على عقوبات صارمة، وأن لا ينبغي أن يكون هدف المدونة تخفيف الحوادث، بل إحقاق التنمية، مما استغرب معه الجميع عن كيف لا يمكن أن يكون هاجس المدونة هو تقليص عدد القتلى والضحايا بدرجة أساسية. وإن من أخطر ما أوقع ممثلي المعارضة الجديدة في فخ دعم الحركات الاحتجاجية الحالية الرافضة للمدونة، هو زعمهم أن الإضراب الذي كان مقررا بتاريخ 20 شتنبر الماضي لم يتم إلغاؤه، بل تم تأجيله فقط، إذ ترى هذه المعارضة بأن لا تزال أسباب الدعوة إلى الإضراب والتهديد به قائمة، بالرغم من المكتسبات المهنية والاجتماعية المحققة لصالح المهنيين،مما يجعلها ترى التهديد بالإضراب مبررا اليوم، بعد زعمهم فشل الحكومة في إصدار مدونة متكاملة، وإن من أخطر ما فاه به أحد ممثلي المعارضة بأن على الحكومة اتقاء شر إضراب قطاع النقل، لما قد ينجم عنه من نتائج وخيمة على البلاد ،كما وقع في السابق بدولة الشيلي، التي عرفت انقلابا ثوريا على النظام السياسي آنذاك (ضد أليندي) من طرف مهنيي النقل، مشيرا إلى أن المس بحقوق مهنيي النقل هو مس باقتصاد ونمو البلاد ككل، وهي مقارنة خطيرة مع وجود الفارق، كمقارنة غير صائبة بل خائبة أصلا، من منطلق أن مهنيي النقل بالمغرب سبق أن قاموا بالعديد من الإضرابات في عهد الحكومات السابقة، ولم يصل الأمر أبدا إلى تهديد النظام بالمغرب، فلماذا تعمل هذه المعارضة على تهويل الأمور وتخويف المواطنين بشبح ما حصل لنظام الشيلي، أليس في ذلك إشعال لفتيل الأزمة بالبلاد، سيما وأن جلالة الملك في مهمة رسمية خارج التراب الوطني، حيث في وقت يناضل فيه جلالته دوليا من أجل تنوير الرأي العام الوطني بالتطور الديموقراطي والمجهود التنموي الاقتصادي والاجتماعي لحكومته بمنابر الأممالمتحدة تقوم المعارضة بتأجيج الأوضاع وتأليب حركاتها الاحتجاجية على الحكومة وعلى المكتسبات الديموقراطية بالبلاد.