ليس بمقدور أحد الادعاء بأن الكراهيات موضوع مستحدث، إنها موضوع تاريخي ثقافي يتم تشييده في التاريخ ويتطور معه انطلاقا من آليات واستراتيجيات متفاوتة يصنعها لنفسه. وللكراهيات صلة بتشكّل الهويات وتمثلات الآخر؛ فهي نتاج ثقافي موروث يتم التعبير عنه وتصريفه أحيانا عبر بنيات لغوية لها القدرة على تأجيج هذا الخطاب في سياقات عدة؛ إذ إن جملة واحدة تستبطن هذا الفعل، كافية لتثير الاحتجاج والغليان إذا ما شُم منها رائحة الكراهية. ورغبة في فهم أفضل لهذا الخطاب وكشف التبريرات التي ينطوي عليها حاولنا أن نفكر مع الناقد والمفكر البحريني الدكتور نادر كاظم انطلاقا من الرمز وسلك طريق التأويل، التأويل الذي يفكك سنن اللغز الأصلي لهذا الخطاب ، انطلاقا من الوعي الذي يقيم علاقة بين اللغة الرمزية وفهم الذات، وهذه العلاقة هي التي تجعلنا نحقق النزر الأكثر عمقا للهرمينوسيا لأن أيّما تأويل لهذا الخطاب إنما يتجه نحو تكسير المسافة ومقاومة بعده واغتراباته بهدف امتلاك معناه. والدكتور نادر كاظم أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين ويسهر على إدارة مجلتي العلوم الإنسانية ومجلة ثقافات البحرينية، وقد صدر له من الكتب: "الهوية والسرد: دراسات في النظرية والنقد الثقافي" و"المقامات والتلقي" و"طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية" و"تمثيلات الآخر" و"استعمالات الذاكرة" و"خارج الجماعة"، وله تحت الطبع كتاب "كراهيات منفلتة: قراءة في مصير الكراهيات العريقة"، وهو كتاب ينتظر الصدور في بيروت عن "الدار العربية للعلوم ناشرون".... إضافة إلى العديد من الدراسات منشورة في دوريات عربية محكمة.... ركز ريكور في مستهلّ مشروعه الفلسفي على "مسألة الإرادة"، وهو يقارب مفهوم الخطيئة الأصلية دلاليا، وكان الهاجس الذي دفعه للبحث أكثر، هو تحديد الأبعاد البنيوية لمسألة الشّر في حدودها وأبعادها المشخصة، ومن أجل ذلك ارتأى أن الأمر يقتضي التنقيب والبحث أوّلا في عالم الرموز ودلالة الأساطير, وهو ما دفعه بهذه الطريقة إلى إحداث قفزة تتجاوز تقاليد الممارسة المنهجية المتبعة عادة في ميدان الظاهراتية الهوسرلية، لأن الكوجيتو الذي تقوم عليه يستند إلى الوعي المباشر، فكان لا بدّ، من تطعيم هوسرل بالهرمينوسيا التي تقوم على وجود معنيين مختلفين في كل نص أو في مختلف الرموز الثقافية. فهل يمكننا أن نتحدث مع المفكر نادر كاظم عن نفس المسار في الكراهيات باعتبار هذه الأخيرة لا يمكن أن تخرج عن دائرة الشر ؟ وما علاقة الكراهيات بحرية الإرادة؟ طبعاً، تقع الكراهيات في دائرة الشر، لكني أضيّق دائرة اشتغالي على شرّ الكراهيات في كونه شراً اجتماعياً بالدرجة الأولى. صحيح أن هذا التضييق يمكن أن يقرأ بوصفه رغبة في تركيز الاهتمام على عواقب مشكلة الشر الميتافيزيقية ومآلها الأخير، وذلك حين تكشف عن نفسها في التأثير في حياة البشر وطبع علاقاتهم بانعدام خطير في التواصل، وهو ما يخلق حلقة من سوء التواصل المزمن والمعقد. وبدل الحفر الأسطوري والتنقيب في عالم الرموز الأسطورية، أراني معنياً أكثر بالحفر التاريخي والتنقيب عن الجذور البعيدة وعن السياقات التاريخية والثقافية التي تشكّلت فيها تلك الكراهيات التي أسميها بالكراهيات العريقة في التاريخ كما هو الحال في الكراهيات العرقية والدينية والطائفية. وهناك مستويين في هذه القراءة، في المستوى الأول أقرأ الكراهيات كما لو كانت طبعاً بشرياً، مشاعر تتمتع بالرسوخ والثبات في نفوس البشر تماماً كما لو كانت مشاعر غريزية، وهنا لا بد من التذكير بسيغموند فرويد؛ لأن الكراهيات مشاعر متحدرة مباشرة من تلك الغريزة العنيدة التي كان فرويد يرى أنها تتمتع بتجذر أعمق حتى من الغريزية الجنسية وهي الغريزة العدوانية. هذا يعني أنها ترتكز على ميول ونوازع غريزية عند الإنسان، وهي ميول ونوازع لا يمكن اقتلاع جذورها، ولا يمكن قمعها بصورة كاملة، ولهذا فلا جدوى من محاولة التخلص منها. وكل ما يستطيع البشر عمله تجاه هذه الميول والنوازع الغريزية هو تجنب استثارتها أو محاولة تصريفها في قنوات أخرى غير قنوات الحروب والصراعات المدمرة. وعلى هذا، فالحروب لم تكن سوى ضرب من ضروب التصريف العنيف للكراهيات القاتلة والنوازع العدوانية عند البشر. وفي المستوى الثاني أقرأ مسار الكراهيات في التاريخ كما أقرأ مصيرها وإلى ماذا سوف تؤول إليه في ظل عالم مختلف بصورة جذرية عن ذلك العالم القديم الذي شهد انطلاقتها وتناميها طوال التاريخ. فإذا كانت الكراهيات العريقة قد انتعشت في التاريخ بسبب العزلة الاجتماعية بين الجماعات والطوائف، فإن العزلة سياق آخذ في التلاشي يوماً بعد آخر بفضل التسهيل المتنامي والمتسارع للاتصالات والتواصلات بين البشر، الأمر الذي يجعل من العزلة مطلباً شبه مستحيل في هذا العالم الذي تقاربت وتشابكت أطرافه. ومع هذا فإني أتصور أن الاتصالات والمواصلات التي تسهّلت ليست أكثر من وسائل مرنة وطيعة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة "قرية كونية"، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة. لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك "التسهيل اللامتناهي للمواصلات" والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها، وبدل العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية. ويمكن لهذه العزلة التواصلية أن تعيد إنتاج نفسها بالتوسل بتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وذلك حين لا يجد أبناء الجماعات حاجة ملحة إلى التواصل إلا مع نظرائهم من أبناء جماعتهم، وحين يتوسّل هؤلاء بأحدث تقنيات الاتصال لا لشيء سوى خدمة التواصل الخصوصي المغلق فيما بينهم وتعزيز الروابط بين أبناء جماعتهم فقط. وبهذه الطريقة سيكون لكل جماعة فضاءاتها وفضائياتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها. وفي مثل هذه الظروف يمكن لذلك "التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات" والاتصالات أن يؤدي وظيفته بطريقة عكسية، فبدل أن يعزز التواصل والانفتاح والعيش المشترك، ويهدد بزوال الفواصل وكبت الكراهية، إذا به يعمّق عزلة الجماعات الافتراضية والمتخيلة، ويعيد إنتاج الفواصل والتنافر والكراهيات والحساسيات المتبادلة. إن مكمن الخطر، هو عندما تتحول هذه الكراهيات إلى إيديولوجيات تحريفية تحاول من خلالها الجماعة ( سياسية أو دينية أو عرقية...) استغلالها لتبرير شرعيتها؛ أي تبرير ظاهرة الهيمنة وإضفاء المشروعية على السلطة القائمة هل من مسوغ لهذا التبرير؟ كل سلطة لا تستطيع الاستمرار من دون إضفاء المشروعية على نفسها، وهي تبحث عن هذه المشروعية بأي ثمن ومن أية مصدر جاءت، وهي إذا وصلت إلى قناعة بأن الكراهيات يمكن استثمارها أيديولوجياً بحيث تسهم في تثبيت مواقعها فإنها لن تتردد في ذلك. إلا أننا لا ينبغي أن نتساهل مع هذا الفهم. فليس ثمة سلطة تفكّر في تهديد مواقعها من خلال الكراهيات وخاصة الكراهيات الداخلية بين الجماعات والطوائف التي تشكل الدولة؛ لأن الكراهيات الجماعية المتبادلة قد تهدد استقرار أية دولة مهما كان ثباتها. إلا أن الدولة أو أية سلطة أخرى قد تستخدم الكراهيات من باب "فرّق تسد"، بمعنى أنها قد تعمد إلى استثارة الكراهيات العرقية والدينية والطائفية بين جماعات وطوائف بهدف ضرب الجماعات بعضها ببعض، وإشغالها بهذه الكراهيات بحيث لا يكون لدى هذه الجماعات من الوقت والجهد والصفاء الذهني ما يمكن تصريفه في المطالبات السياسية أو منازعة أصحاب السلطة في سلطتهم. ومن هذا المنطلق كذلك قد تجد سلطة ما/دولة ما أن مصلحتها أن تنتج كراهيات ضد جماعة أو طائفة بعينها لأسباب سياسية. وأنا أسمي هذا النوع من الكراهيات باسم "الكراهيات المصطنعة" وهي كراهيات مغرضة (أي لها غرض محدد) وتستهدف جماعات بعينها لمآرب سياسية بالدرجة الأساس. إنّ أسوأ الكراهيات هي التي نستطيع تفسيرها أو تبريرها. فحين نفسّر كراهية ما أو نبرّرها، نمنحها شرعيّةً، وندخلها في دائرة المنطق والمقبول عقلياً، بينما سمة الكراهية هي اللاّمنطق واللاّعقل أليس كذلك ؟ علينا أن نميّز بين التفسير والتبرير، لأن التفسير نشاط معرفي، في حين أن التبرير، في الغالب، نشاط أيديولوجي. إذا كان التفسير يعني أن نفهم كيف حدث ما حدث، وما الظروف والسياقات التي أحاطت بذلك، فهذا نشاط معرفي مطلوب حتى تجاه الفظائع والإبادات. وبهذا المعنى أيضا فإن كل شيء قابل للتفسير بما في ذلك أفظع الإبادات في تاريخ البشرية، إلا أن التفسير شيء والتبرير وإضفاء الشرعية شيء آخر. لا يمكن أن نقول، على سبيل المثال، أن ميشيل فوك كان يبرّر ولادة السجون والعيادات وأشكال الانضباطات العمومية حينما كان يقرأ تاريخ تكوّنها ويفسّر أسباب انبثاقها في زمن بعينه وفي سياق محدد، كما لا يمكن أن نقول إن إدوارد سعيد كان يبرر ويضفي شرعية على الاستشراق والإمبريالية حينما كان يقرأ هاتين الظاهرتين وينقّب في ظروف تشكلهما تاريخياً. هذا يعني أننا يمكن أن نبحث عن سبب للكراهيات وأن نفهم ظروف تشكلها تاريخياً، إلا أن هذا لا يعني أننا نبررها ونبحث لها عن مسوّغ، كما لا يعني أننا نضفي عليها طابع الشرعية على الإطلاق. نعم أنا أتفق معك في جزئية فيما ذهبت إليه، لأن ثمة نوعاً من التفسيرات قد يفهم منها أنها تبرر لشرّ ما حينما تستهدف تفسيره بشكل بارد وكسول، وهذا أكثر ما يكون في القراءات التي تستهدف تفسير الشرور الفظيعة التي يتعرّض لها البشر الذين يدفعون حياتهم ثمناً لإرضاء غريزة الشر لدى هذا الطاغية أو ذاك الديكتاتور عديم الرحمة. هنا على التفسير أن يتحلل من لبوس الحياد العلمي الزائف وأن يسمي الأشياء بأسمائها لا أن يبحث عن مبررات لهذا الشر. هرمينوسيا الكراهيات ليست شيئا أو خطابا معزولا ،ولكنه الأكثر دلالة، ويمكن لهذا الخطاب أن يكون مكان ولادة الإشكالية الهرمينوسية كما كان مع خطاب الشر حسب ريكور يتعلق الأمر، بإعادة طرح وفهم هذه الإشكالية لأنها مرتبطة بمفاهيم أخرى مثل العنصرية والمعاناة وغياب العدالة... كيف يمكن للهرمينوسيا إزالة أقنعة الكراهيات ؟ حسناً، هذا سؤال مهم ويتطلب إجابة مفصّلة، ولكن علينا، قبل ذلك، أن نميز بين نوعين من الكراهية: فهناك كراهية صريحة وأخرى مستترة ومضمرة أو لنقل كراهية مقنَّعة. في الحالة الأولى يكون أصحاب الكراهية واضحين وصادقين مع أنفسهم، ولذلك تجد كراهيتهم صريحة حد الوقاحة والبذاءة، وهذه، في تصوري، نوع من الكراهيات المفلتة والتي لا تحترم لا ضوابط الأخلاق والأعراف والآداب العامة ولا القوانين. وأنا أتصور أن هذا النوع من الكراهية قد انتعش طوال التاريخ بسبب العزلة التي كانت تفصل بين الجماعات والطوائف المتكارهة أي التي كانت تتبادل الكراهية فيما بينها، إلا أن زوال العزلة القديمة سوف يهدد هذا النوع من الكراهيات، ولهذا أقول إنها كراهيات في طور الاضمحلال اليوم، لأن نماذجها محدودة وهي تتناقص باستمرار بحكم أن كلفتها باهظة لأن المرء قد يخسر حياته في حال جاهر بهذا النوع من الكراهية. إلا أن اضمحلال هذا النوع من الكراهيات لن يكون بلا ثمن، والثمن هو أن الكراهيات سوف تتوسّل بقنوات التواصل السرية والخفية، والإنترنت واحد فقط من هذه العوالم الخفية المهولة التي تسمح لأي كاره في هذه الدنيا بأن يكشف بكل جرأة ووقاحة عن أفظع كراهياته دون رقيب أو حسيب وتحت اسم مستعار. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكراهية سوف تتقنع وتستتر وراء أقنعة المجاملة والنفاق والمداراة والمسايرة. وفي هذه الحالة لا تختفي الكراهية بل تبقى مضمرة وتفعل فعلها في الخفاء لكن أصحابها يضطرون إلى الظهور أمام الآخرين وفي العلن بمظهر المحب السمح الودود...إلخ، وليس هذا المظهر الجميل سوى قناع تختفي وراءه كراهية حقودة يمكن أن تكشف عن نفسها متى وجدت الفرصة المناسبة. ولكن هل معنى هذا أن ندافع عن حق غريب لنسمه هنا حق البشر في التعبير عن كراهيتهم بكل جرأة ووقاحة؟ إذا عدنا إلى التحليل الفرويدي فسنقول إن ثمة كبتاً قد مورس على الكراهية الصريحة، وأن قوى الوعي ممثَّلة في القوانين وقوى المجال العام قد مارست قمعاً ضد أي كراهية علنية منفلتة. ونحن نعرف من فرويد أن ما يتعرّض للكبت في مستوى الوعي لا يختفي نهائياً بل يظل قابعاً في مستوى اللاوعي وينتظر الفرصة المواتية للظهور في فلتات اللسان وفلتات التصرّف وفي الأحلام وفي أي شكل آخر من أشكال الظهور المقنّع الموارب داخل ساحة الوعي. طبعاً هناك من يذهب، متأثراً بالتحليل الفرويدي، إلى أن ما يتعرّض للكبت ينعكس في صورة أعراض مَرَضية، وأن المكبوتات - إذا سنحت لها الفرصة - تعود للظهور بقوة وبصورة عنيفة. وهنا تأخذ "عودة المبكوت" صورة الثأر والانتقام. إلا أني أتصور أن هذا الربط بين الكبت والمرض وعودة المكبوت العنيفة لا يعدو كونه ربطاً ميكانيكياً، وهو لا يستقيم في كل الحالات. كما أن هذا النوع من الربط يقوم على منطق يبرّر العنف والكراهية وتعبيراتها العنيفة بحجة أن كبت العنف والكراهية سوف يؤدي إلى عنف أشدّ وكراهية أقوى. وهذا المنطق، يجعلنا نجازف بالسماح لكل أشكال الممارسة العنيفة مثل القتل والاغتصاب بحجة أنها إذا ما منعت هنا أو هناك، فإنها سوف تعود بقوة متى وجدت الفرصة مناسبة لذلك! وعلى الضد من هذا المنطق وحججه، فإني أتصور أن الكراهيات ما إن جرى كبتها في المجال العام وتوسّلت بقنوات التواصل الخفية والسرّية التي تنتعش في الخفاء المظلم الشبيه باللاوعي بحسب الفهم الفرويدي كما هو الحال في خفاء الإنترنت، وخفاء النشر الورقي، وخفاء الكتابة على الجدران، وخفاء الكليبات التي تتوزع بين الموبايلات والإيميلات والمنتديات الإلكترونية، ما إن حصل هذا حتى أصبحت الكراهيات هشّة وسريعة الزوال والنسيان. صحيح أن هذه كراهيات صادمة وصارمة في حدتها الاستفزازية وأنها تمتلك من قوة التأثير والجرح ما لا طاقة للكثيرين من البشر على تحمّله، لكن لا ينبغي أن ننسى أن الكراهيات، بذلك، تحوّلت إلى كراهيات سريعة الزوال والنسيان، فالمرء يصطدم بها بقوة حين يشاهدها أو يقرأها أو يسمعها أول مرة، إلا أنه سرعان ما يرميها وراء ظهره ويتجاوزها وكأنها لم تكن، والأمثلة على ذلك كثيرة. أصبحت الكراهيات المنفلتة تتوسّل بقنوات خفية، وهذا أمّن لها جرأة استثنائية لأن الجبناء عادة ما يستقوون في الخفاء وفي الأجواء السرية، إلا أن هذه الكراهيات فقدت، بذلك، رسوخها وثباتها القديمين. ويبدو أن الكراهية، تماماً كما الحب، شكل من أشكال التواصل البشري، إلا أنه تواصل يتطلب حضوراً مشخَّصاً ليؤدي وظيفته على أكمل وجه. وليس المقصود بالحضور المشخَّص أن الكراهية تتطلب لقاء مباشراً وتلاقياً شخصياً، بل المقصود أن الكراهية لا تصيب أهدافها إلا إذا تجسّدت في شخص معلوم (أو جماعة أشخاص) ظاهر للعيان، يقف وراءها، وتنتسب هذه الكراهية إليه. ولكن الكراهية حين توسّلت، بسبب جبنها وجبن أصحابها وطابعها المصطنع، بقنوات التواصل الخفية، فإنها فقدت طابعها المشخص بحيث لم تعد منسوبة إلى شخص بعينه يتعهدها ويتحمل مسؤوليتها، وهي، بذلك، فقدت قوتها وثباتها ورسوخها. وحين نتحدث عن قنوات تواصل خفية للكراهيات، فإن هذا يعني أن حياة الناس الكارهين أنفسهم قد انقسمت إلى نصفين، وصار هؤلاء مضطرين للعيش في حياة مزدوجة وبوجهين: وجه ناعم ومسالم ومتسامح في العلن وأمام الأضواء في المجال العام، ووجه آخر يمتلئ كراهية وبغضاً وحقداً في الخفاء بينه وبين نفسه أو بين جماعته في الغرف المظلمة. وإذا كان صحيحاً أن أعراض الكبت المَرَضية لم تظهر على أصحاب الكراهيات حين عجزوا عن التعبير العلني والصريح والمباشر عن كراهياتهم، إذا كان هذا صحيحاً فإن الصحيح كذلك أن المرض كان يترصّدهم من جهة أخرى، بحيث أصبحت شخصياتهم شيزوفرينية (تعاني من انفصام في الشخصية) وحياتهم مشروخة إلى قسمين: باطن وظاهر، خفي ومعلن. لقد عاش أصحاب الكراهية القدماء، والأقوياء منهم على وجه الخصوص، بشخصية واحدة وموحدة ومتماسكة، وبوجه واحد لا يعرف الانقسام والتلوّن، وكان الكره الذي يغلي في قلوبهم وعروقهم يجد دائماً فرصته للظهور وللتعبير عن نفسه في العلن وأمام الآخرين وحتى أمام المستهدفين بالكراهية أنفسهم دونما أدنى اهتمام بمشاعرهم. وبتعبير قريب من الاستخدام العامي، كان الذي في قلوبهم على ألسنتهم وفي قبضات أيديهم، ولم يكن ثمة قوة تقف في وجههم وتصرفهم عن ذلك. لم يعرف هؤلاء متاعب كبت الكراهية في صدورهم، ولم يكونوا مضطرين للتعبير عن كراهيتهم في عزلتهم وسريتهم فقط، بل كانت الكراهية، كما القوة، تفيض منهم حتى كان الواحد منهم يتلذذ حين يهين الآخرين ويحتقرهم في العلن. طبعاً هذا الكلام نيتشوي في عمومه، ولكنه يفيدنا في تحليل مآل أصحاب الكراهيات اليوم. لقد كان الكارهون الأقوياء يمتلكون الشجاعة للتعبير عن كراهيتهم، ويتمتعون بقوة البأس والتحمل لمواجهة انعكاسات هذا التعبير المرهقة والقاصمة لظهر الضعفاء. لقد امتاز هؤلاء الكارهون الأقوياء بصراحتهم وصدقهم مع أنفسهم ومع الآخرين حتى في قسوتهم وتهوّرهم الطائش، في حين كان الضعفاء العاجزون الحاقدون حذرين، وتنقصهم الصراحة؛ ولهذا تراهم يحبون الخلوات والقنوات الخفية، وفي الخفاء فقط يجدون عالمهم وأمنهم وعزاءهم؛ لأنهم عاجزون عن الاحتفاظ بصراحتهم المزعجة أمام الآخرين وفي العلن، وعاجزون حتى عن رد الإساءة التي توجه إليهم، وهو ما يولّد الحقد في نفوسهم. كان القوي صريحاً وصادقاً في قسوته وعنفه مع نفسه ومع الآخرين، كان ظاهره هو عين باطنه. إلا أن أمثال هؤلاء أصبحوا، اليوم، عملة نادرة. وكان نيتشه قد رصد انقراضهم وأفول نجمهم بحرقة وأسى كبيرين في أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة بعد أن اكتملت، كما يقول، عملية "تدجين الحيوان الإنساني" الكامن في أعماق "كل الأعراق القوية". لم يكن غرض التدجين سوى إضعاف الأقوياء الباطشين تماماً كما يحدث في ترويض الحيوانات المتوحشة بغاية إضعافها والتقليل من خطرها. وكما جرى إضعاف الحيوانات المدجّنة، فقد أصبح "الإنسان المدجّن" ضعيفاً وشديد الوهن و"أكثر رقة ومسالمة وحذراً". ومع هذا لا ينبغي أن نسلّم لنيتشه بهذا الاستنتاج، فالإنسان "المدجّن" أصبح ضعيفاً وشديد الوهن وأكثر حذراً، إلا أن هذا ليس سوى وجه واحد من وجهي هذا الإنسان، أما وجهه الآخر فيفيض كرهاً وحقداً. هذا يعني أن عملية "تدجين الإنسان الحيواني" الذي يتحدّث عنها نيتشه لم تنجح في جعل الإنسان مخلوقاً مسالماً ورقيقاً، ولكنها حكمت عليه بتحويله إلى مخلوق شيزوفريني بحيث تكون حياته منقسمة ومجزّأة، ففي الخفاء يتجلّى "الإنسان الحيواني" الكامن في أعماقه بكل بطشه الغاشم وكراهيته العنيفة، إلا أنه مضطر لإخفاء هذا الوجه "الحيواني" في العلن، والظهور أمام الناس بوجهٍ "أكثر رقة ومسالمة وإنسانية". وينطبق هذا الكلام على الأفراد والحكومات والجماعات السياسية، ألا ترى أن ثمة حكومات دكتاتورية لا تتورّع، في السرّ، عن ممارسة أبشع أنواع التعذيب والقتل بحق مواطنيها الضعفاء والأبرياء، إلا أنها تنكر ذلك وتكذّبه في العلن، بل إنها تتظاهر بأنها حكومات ديموقراطية ومسالمة؟ ألا تجد كثيراً من جماعات الموالاة في بلداننا تتظاهر في العلن بولائها الصميمي لهذا النظام السياسي أو ذاك في حين أنها لا تتورّع عن سلقه بألسنتها الحداد في السرّ وفي فضاءاتها المغلقة؟ ألا ينمُّ هذا الكذب عن ضعف هذه الحكومات والجماعات وجبنها؟ لأنها لو كانت قوية بما فيه الكفاية لما اضطرت إلى الكذب؛ فالأقوياء لا يكذبون لأنهم لا يخشون أحداً، ولا يأخذون أحداً بعين الاعتبار. هذا يجعلني أقول بأن اضمحلال الكراهيات الصريحة وانتعاش الكراهيات المقنّعة إنما هو مؤشر على ضعف عمومي آخذ في الانتشار في كامل الجسد الاجتماعي والسياسي. وإذا استعنا بميشل فوكو لتوضيح هذه القضية فإن علينا أن نقلب نموذجه عن القوة أو السلطة رأساً على عقب. كان فوكو يقول إن القوة أو السلطة حاضرة في كل مكان ومنتشرة في نقط كثيرة، في حين أن الذي يجري اليوم هو أن الضعف (لا القوة) حاضر في كل مكان وينتشر في نقاط تبدأ من الأفراد إلى الحكومات والأنظمة والجماعات.