خُلِقَ الإنسانُ كامِلاً في نَقْصِه. تقولُ الحكمةُ لو كنّا نُلِمُّ بجميعِ المعارِفِ لانتهينا إلى فسادٍ، ذلك أنّ كثرةَ المُجرياتِ الاجتماعيّةِ والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّةِ تخلق عتمةً بينَنا وبين فهمِ أنساقِها. وهو أمرٌ يدعونا إلى البحثِ والاجتهادِ والمثابرةِ في الإحاطةِ ولو قليلاً بمعاني الأحداث والأشياء التي نعيشُ بينها. ومن ثمّة توجّبَ علينا الاقرارُ بعجزِ الفردِ منّا على تدبُّرِ شؤون معيشِه اليوميِّ بمفرده، وإحساسه بالحاجةِ إلى جهودِ غيرِه لدفعِ عجلةِ الأيّامِ صوبَ غاياتِنا. وليس في إقرارِ الواحد منّا بحاجتِه إلى غيرِه استنقاصًا من فاعليّتِه أو من عناصرِ شخصيتِه الاجتماعيّة، بل إنّ ذلك يدخل في حيِّزِ قول ابن خَلدون "الإنسان مدنيٌّ بالطّبع" لا بل ونؤكِّدُ على أنّ إنسانَ هذا العصر بالذّات لا يمكن أن يكون إلاّ مَدَنيًّا بالضّرورةِ من جهةِ الإعتراف بكثرةِ حاجاتِه وقِصَرِ عُمُرِه الزّمنيِّ، ومن ثمّة كانت النصيحةُ عنوانًا من عناوين التعاون بين الناسِ. *** نزعمُ أنّ النصيحةَ عرفٌ جارٍ في سلوكاتِنا الاجتماعيّةِ، ونزعمُ أيضًا أنّ الإخلاصَ في النصيحةِ عملةٌ نادرةٌ لا تفارِقُ المفهومَ إلى الأجْرأةِ. نحنُ نعيشُ أزمةَ نصيحةٍ. وهي أزمةٌ يمكنُ أن نردَّ إليها أغلبَ خساراتِنا الشخصية والوطنيّة والعالميّةِ. ولعلّ قولَ العامّةِ "إذا نصحكَ أحدٌ فإنَّ فَيْءَ ثلاثةِ أرباعٍ من نصيحتِه راجعٌ إليه" فيه توصيفٌ دقيقٌ لنمطِ التناصُحِ في مجالاتِ الحياةِ المختلِفةِ، وفيه أيضًا اعترافٌ بِمكرِ النصيحةِ. وبالعودةِ إلى أحداثِنا العربيّة السياسيّة والاجتماعيّة الراهنةِ نُلفي بعضًا من أسبابِ انهزاماتِنا فيها راجعًا إلى هذا المكرِ في فعل التناصُحِ. وللتدليلِ على هذا نقولُ إنّ الجيش العراقيّ أجرى قبل غزو أمريكا للعراق بأيّامٍ قليلةٍ استعراضًا عسكريًّا بوسط بغدادَ، ولكنْ لا أحد من الخبراءِ العسكريّين قال لصدّام حسين بأنّ أغلب تلك الدبّابات تعطّلت في الطرقاتِ وتتطايرت منها مساميرُها قبل دخولِ الحربِ. بل إنّ أغلبَ مَنْ تكلّمَ في تلك الفترةِ إلى صدّام حسين امتدح له قدرة جيشه بمُعدّاته وخِبراته على هزمِ أمريكا، فحضرت النصيحةُ وغابَ الإخلاصُ فيها، فكانتِ الهزيمةُ مُرّةً. *** نرى أنّ الإخلاصَ في النصيحةِ مطلبٌ جماهيريٌّ لا بُدَّ من تركيزِه في أذهانِنا حتى إذا سُئِلْنا عن نصيحتنا في أمرٍ قلنا فيه ما يُفيدُ الفردَ والمجموعةَ. وإنّ المغالطاتِ والمكرَ والخديعةَ وخيانةَ الحقِّ كلّها سُبُلٌ إلى الهاويةِ، وإنّ أوّلَ النازلين في أسفلِ مدارِجِها همُ الناصحونَ الكاذبونَ الماكرونَ.