(2) إحياء العلوم الإسلامية نواصل نشر الكتاب الصغير الهام الذي وضعه الأستاذ محمد بلبشير الحسني تحت عنوان الدراسات الإسلامية بين الحاضر وآفاق المستقبل، في إطار مشروعه الفكري والأكاديمي لتطوير مناهج الدراسات الإسلامية في الجامعة المغربية، وهو مشروع حمله الأستاذ بلبشير على عاتقه منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن. وفي هذا الكتاب، الذي نقدمه للقارئ والباحث والطالب المغربي على حلقات، دعوة واضحة إلى تطوير مسيرة الدراسات الإسلامية في الجامعة المغربية في أفق عصرنتها وفتحها على مجموعة من المباحث والمجالات الفكرية والعلمية، والبداية بمقدمة الكتاب. نقد ذاتي إن مما يثير الانتباه، في الوقت الراهن، كثرة الحديث عن أزمات الفكر وتقهقر كثير من الإيديولوجيات، وخيبة الأمل في المذاهب الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه اجتاحت كثيرا من المجتمعات الأزمات النفسية لدى الأفراد من مختلف الفئات والمشارب، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، واشتدت الرغبة في الاطمئنان والأمن والسكينة على المستوى الفردي والجماعي. وفي مقابل هذا الوضع، ظهرت إرهاصات فكرية جديدة ناتجة عن التقدم العلمي والاكتشافات العلمية الحديثة وتسخيرها في الميادين التكنولوجية والمواصلاتية والصحية وغيرها. ورغم ذلك نجد بعض العلماء والمفكرين قد أدركوا قصور العقل البشري عن بلوغ الحقيقة المعرفية المطلقة، وانبهروا أمام سعة العلم اللامنتهي، إذ كلما تقدموا في البحث والاكتشاف، كلما زادوا يقينا بسعة ما يجهلون، بالمقارنة مع ما يعلمون. يقول سوليفان في كتابه الشهير حدود العلم (ص. 32): لقد أصبح العلم شديد الحساسية ومتواضعا نسبيا، ولم نعد نلقن الآن أن الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد الناجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة... إن عددا من رجال العلم البارزين يصرون بمنتهى الحماس على حقيقة مؤداها أن العلم لا يقدم لنا سوى معرفة جزئية عن الحقيقة. ونتيجة لهذين الأمرين، تقوم الحضارة الغربية المهيمنة حاليا بنقد ذاتي على لسان بعض مفكريها وعلمائها وتشكك في قيمها وقواعدها، وتتوقع تفككها وانقراضها. وفي نفس الوقت يبحث المتبصرون من أبنائها عن البديل المحتمل. ويمكن الرجوع إلى ما كتبه بعض هؤلاء كالمفكر الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في مؤلفه: الكتب المقدسة والعلم والمفكر الفيلسوف الفرنسي رجاء كارودي في أحد كتبه: الإسلام دين المستقبل. من المعلوم أنه ظهرت في مجتمعات الدول المتقدمة، وبالتبعية في الدول المتنامية ظواهر مخيفة، مثل تزايد الأمراض النفسية والعقلية عند الأفراد من مختلف الفئات والأعمار، وابتلاؤهم بالانهيارات العصبية والأزمات القلبية واقترافهم الجرائم والتجاؤهم إلى الانتحار، أو الشذوذ والإباحة الفكرية والاجتماعية وتجلى عجز المسؤولين عن حل الأزمات المستعصية في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية واختلفوا في وسائل العلاج، كما اهتم علماء الاجتماع وعلماء النفس بخطورة التطورات الجارية والمتوقعة، بحكم انتشار المخدرات والإرهاب والفساد وعمليات السطو والتعدي. ويقوم الآن كثير من المفكرين والمتخصصين، أفرادا وجماعات بدراسات في ثلاثة محاور: 1 تقصي أسباب الفشل الفكري و الحضاري الراهن وبالتالي منابع الأزمات والاضطرابات. 2 البحث عن البدائل الممكنة للأوضاع الحالية، بالرغم من أن الاهتداء إلى بديل صالح من الناحية النظرية لا يعني بالضرورة، إمكانية تطبيقه ولاسيما بعد أن رسخت التقاليد والأساليب الحياتية والاقتناعات التي يصعب تغييرها أو محوها. 3 الاهتمام بالأديان وبالإسلام خاصة، رغم الجهود التي يبذلها آخرون من المغرضين لإخفاء حقائق الإسلام أو تزييفها. الإسلام بساطة وعقلانية ويعرف الإسلام ببساطة عقيدته، ودعوته الملحة إلى الإنسان للتسلح بالعقل والعلم، وشمولية نظرته إلى الوجود بجميع عناصره، ورؤيته الواقعية إلى الإنسان بجميع مكونات كيانه، والحياة بجميع مظاهرها. ولكن الشيء الذي يمتاز به الإسلام هو اعتماده من جهة على مصدر ثابت، يشكل المرجع الأسمى والملجأ الأقصى للإنسان في معركة حياته، ومن جهة أخرى على المجال الواسع للمتغيرات: مجال ما عناه باستخلاف الإنسان وتحمله الأمانة. وقد كثرت في الوقت الراهن الأصوات التي تشهد بالمذهبية الشاملة للإسلام وربطه لحياة الإنسان، في آن واحد بالله وبالكون. فقد جاء في كتاب رجاء غارودي الإسلام دين المستقبل (ص 190) قوله: وفي علاقة الإنسان بالطبيعة يمكننا أن نتعلم من الإسلام أن نعكس موقفنا الذي، منذ عصر النهضة، يجعلنا نتعامل مع الطبيعة بروح عدائية غازية، هدفها الوصول إلى فرض علاقات بيننا وبينها كمالك ومملوك، سيد وعبد... إن التعاليم القرآنية مختلفة تماما: إذ أنه يمكننا أن نكتشف في الإنسان بعده الكوني، فالإنسان حسب الإسلام يحمل في ذاته كل درجات وجود الكون وهذا العالم الصغير فقط، هو الذي قبل المسؤولية القصوى، مسؤولية الوعي والإيمان<. إن مناط كرامة الإنسان ورفعة قدره، في حقيقة الأمر، في نظر الإسلام هي: 1 في كونه، وهو يشعر، فطرة، بالحاجة إلى قوة عليا يحتمي بها، يجد هذه القوة في الله تعالى، الخالق، المتصف بالقدرة والعلم اللامتناهيين. 2 في أن علاقته بهذه القوة المطلقة علاقة مباشرة، لا تحتاج إلى واسطة فهو يدعوه ويخاطبه ويعتمد على عونه ورحمته في كل لحظة، وفي كل أمر مهما اشتد. 3 في أنه هو المخلوق الحر الذي شرف بالتكليف وبالخلافة والذي زود بالأدوات التي لم يزود بها غيره من المخلوقات وخاصة منها العقل والبيان. وإذا كان الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الاقتصاد يعتمدون على افتراضات وتخيلات ذهنية أو على ممارسات واقعية يستنبطون منها مذاهبهم ونظرياتهم فيتخذونها بعد ذلك ثوابت ومراجع، وإذا كان علماء الرياضيات والطبيعيات لا يجدون مناصا من الاعتماد على مسلمات وعلى قواعد ثابتة وقفوا عليها واتخذوها أساسا للتقدم العلمي، فإن مفكري الإسلام وعلماءه وفقهاءه يعتمدون هم بدورهم علي الثوابت مما جاء في الكتاب والسنة، في مجال العقيدة والشريعة والمعطيات الغيبية المتعلقة بعالم الشهادة أي بالإنسان والكون وعلاقاتهما مع نفسهما ومع بعضهما. لذا فإن مبدأ المرجعية والمعيارية في الفكر والعلم والحياة أمر يفرض نفسه. الفرق بين وجهة النظر الإسلامية وغيرها يكمن في طبيعة ما يتخذ كمرجع ثابت. إن الإسلام، سواء من حيث الفكر أو العلم أو التشريع يعتمد على معطيات أو تشريعات ثابتة تتناسب مع الحق والخير والعدل الذي تنادي به الأديان السماوية وترشد إلى سبيله، لأنه صادر عن الله تعالى، المتصف بصفات الكمال في الحق والعدل والخير. وهو أيضا الذي خلق كل شيء وخطط لهذا العالم وبرمجه وهيأ الإنسان لاكتشاف بعض مكنوناته وأسراره. وجاء القرآن، وهو خاتم للتذاكير الإلهية إلى الناس، ليوعي الإنسان بمهامه وحقيقة كيانه وحدودية مداركه ومؤهلاته العقلية والنفسية، خاطبه كمخلوق مكرم ولكنه مكلف ومبتلي، بلغ درجة الرشد والنضج واكتملت مداركه ومقوماته، لقد أصبح الإنسان الآن على استعداد وقابلية أكثر من ذي قبل لاكتشاف الحقيقة واجتناب سبل الهوى والضلال، والاقتناع بضرورة الإيمان بالله واتخاذه المرجع الأعلى والحكم العدل. وفي نفس السياق، اتضح للإنسان أن ما اكتشفه من أسرار في ذاته (جسما، ونفسا، ومدارك فكرية) وفي الكون المحيط به يشهد بآيات الإله الخالق المتصرف. وقد جاء القرآن بإعجازه العلمي والبياني الإعلامي برهانا ساطعا على ذلك وأدرك المسلمون جوهر هذه الدعوة الإلهية فأطلقوا لفكرهم وعلمهم وإبداعاتهم العنان، انطلاقا من القرآن، واستعانوا بما بينه الرسول عليه السلام، وما أضافه إليه، بوحي وإلهام من الله. فتشكلت بذلك علوم كثيرة عند المسلمين منها، كما هو معلوم، ما يتعلق بالدين من عقيدة وشريعة كأصول الدين وأصول الفقه، وفقه الشريعة ومقاصدها، أو ما يتعلق بعلوم الإنسان وعلوم الكون وبنوا على كل ذلك حضارة واضحة المعالم، تحدد سلوك الفرد والجماعة، وتبين العلاقة بين الإنسان والله وبين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والكون. مسلك آخر الآن إذن، وقد فقدت المصداقية في كثير من التيارات الفكرية والفلسفية وفي كثير من الايديولوجيات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح الإنسان، وخاصة في الدول المتقدمة، يبحث عن مسلك آخر، يكون موضع ثقة ومصداقية أكثر، فيطمئن إليه، ويقوم بمراجعة مواقفه وسلوكه من مذاهب ونظريات في علم الإنسان وعلم النفس والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. وقد أكد فشل هذه المذاهب والنظريات تقدم البحث العلمي، الأمر الذي فند كثيرا من النظريات وخاصة منها المنتسبة إلى اتجاه الفلسفة المادية كنظرية التطور عند دروين، والسيكولوجية الجنسية عند فرويد، والجدلية المادية عند ماركس. إن كثيرا من الاكتشافات العلمية خلال العقود الأخيرة، في ميادين البيولوجية وعلم الوراثة والطب وفي الكيمياء والفلك والفيزياء، فرضت ضرورة الإيمان بقوة خارقة، خلقت وخططت وبرمجت وقعدت القواعد لهذا بكل ما يحتوي عليه، ولعالم الإنسان المتشعب بمختلف عناصر كيانه، ألم تعد الفرصة الآن أمام الإسلام موازية، لأكثر من سبب: تدهور التيارات المادية الملحدة التائهة، وارتباك كثير من روادها أمام الهادمين لحصونهم من لدن كثير من المفكرين المتبصرين والمثقفين ذوي الحصانة الفكرية، وأمام الحقائق العلمية التي تنجلي في أكثر من ميدان، لتفند تخمينات وافتراضات رواد التيار المادي في العلوم الإنسانية والاجتماعية. هذه العوامل مجتمعة تشهد بأن الفكر الإنساني بدأ يعود إلى الإيمان ويكتشف الإسلام، وهو في طريقه نحو الإيمان. فهل سينقض المسلمون على الفرصة ليقوموا بواجب الدعوة والتبليغ؟ رغم ما في الطريق من أشواك وما للإسلام من خصوم وحساد. لقد أصبح بعض مفكري الغرب، فضلا عن كثير من المفكرين المسلمين المعاصرين، يعتقدون أن الإسلام دين المستقبل وأنه البديل الصالح الكفيل بإنقاد البشرية من الهاوية التي تعيش على شفاها. فكيف لا يبدأ أهله من المسلمين بأنفسهم فيتخذوه كمصحح للنهج الغربي التائه، ويعطوا المثال من أنفسهم ومجتمعاتهم. هل نسوا بأنهم مطوقون بمسؤولية التبليغ وأن عليهم أن يكونوا القدوة. إن البشرية الآن تلهث وتبحث عن حلول لمآسيها. إن الأزمة تشتد بين شطري العالم: شطر المتقدمين المتخومين وشطر المتخلفين الجائعين، فتبحث هذه البشرية عن طريق منظمة الأممالمتحدة عن مخرج للأزمة، فتدعو إلى نظام دولي جديد، بمعطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية وإعلامية جديدة. كان هذا بصفة خاصة في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي. وفي هذا الاتجاه، عقدت في يناير 1980 ندوة في جنيف، دعا إليها المكتب الدولي للشغل، وكان موضوعها: الإسلام والنظام الدولي الجديد في أبعاده الاجتماعية. وكان لمؤلف هذا الكتاب شرف المشاركة فيها. وقد صدرت عنها توصيتان: جاء في الأولى: يرى المشاركون أن ما يمكن أن يقدمه الفكر الإسلامي في استراتيجية التنمية يتضح جليا في النظرة الشمولية التأليفية لجميع حاجات الإنسان والمجتمع وفي البيئة المحيطة به من القيم الإنسانية التي ينبغي أن تكشف هذه الستراتيجية وتؤلف بين عناصرها تأليفا إدماجيا. ولعل أكبر ما يمكن للفكر الإسلامي أن يقدمه من خدمات ابتدائية في هذا الباب أن يثير الشكوك حول مقاصد التنمية كما يتم الآن اتباعها في العالم، وأن يبدد الأوهام المتعلقة بجدواها، بعد الذي منيت به استراتيجية التنمية من فشل طيلة الثلاثين عاما الماضية. وماذا بعد ثلاث وعشرين سنة من تاريخ انعقاد هذه الندوة؟ وجاء في التوصية الثانية: وتوصي الندوة بتنسيق الدراسات الاقتصادية المقترحة في نطاق التصور الرشيد والممكن لنوعية المجتمع الإسلامي والإلتزام بها والانطلاق من هذه المقومات للإحاطة بالمشاكل المعاصرة، فهل يعتبر أولوا الأمر من المسلمين، من مفكرين ومثقفين وذوي المسؤولية السياسية في البلاد الإسلامية؟ وحتى لا ينتقد علينا من جديد العودة إلى الماضي والاقتداء بالسلف، نكتفي بالنظر إلى موقع علومنا الإسلامية واجتهادنا من حاجة العالم المعاصر، بل قبل كل شيء من حاجتنا نحن المسلمين، ونحن في وضعية سياسية واقتصادية واجتماعية لا نحسد عليها. لاشك في أن بلوغ هذا الهدف المزدوج يفرض علينا قبل كل شيء أن نتجاوز أوضاعنا الاجتماعية والثقافية لننظر إليها من أعلى، وكأننا ملاحظون أجانب عنها ثم نستعرض أنظمتنا الاجتماعية والتعليمية والثقافية لنفحصها ونبحث عن منطلقاتها وخلفياتها ومردوديتها وفعاليتها. وهنا يتسارع إلى ذهني تساؤل ملح: ألا يكون في حياتنا الاجتماعية والثقافية تناقض سافر؟ ذلك أن شعبنا المغربي اختار عن اعتقاد وطواعية الإسلام دينا ومنهجا، في حين أن الدراسة الجامعية في معظمها، وخاصة منها ما يتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية تتجاهل وتهمل المذهبية الإسلامية ووجهات نظر علماء المسلمين ومفكريهم، ولاسيما وأن للفكر الإسلامي في مجالات الإنسان، والنفس والاجتماع والاقتصاد مشاركة هامة نابعة من معينين أساسيين، الخطاب الإلهي، وهو مصدر إعلام وتوجيه لا يعتريه شك أو باطل، واجتهادات العلماء والمفكرين، وهي، وإن كانت متصلة أساسا بقضايا عصورها وفي سياقها، فهي تشكل نموذجا ومنهاجا يجوز أن نجد فيها ما يفيدنا ويساعدنا. خطة عمل وقد رسم الشهيد المرحوم الدكتور إسماعيل الفاروقي في وثيقة نشرها باسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بواشنطن عن أسلمة المعرفة، خطة العمل التي ينبغي اتباعها في هذا الصدد: 1) اتقان العلوم الحديثة. 2) التمكن من التراث الإسلامي. 3) إقامة العلاقة المناسبة بين الإسلام وكل من مجالات المعرفة الحديثة. 4) البحث عن وسائل الربط الخلاق بين التراث والمعرفة الحديثة. 5) الانطلاق بالفكر الإسلامي في المسار الذي يقوده إلى تحقيق سنن الله سبحانه وتعالى. ويضيف، في نفس الوثيقة، موضحا رأيه فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة هناك ثلاثة أسئلة رئيسية يجب أن تطرح وأن نجد لها جوابا: الأول: ما هي مساهمة التراث الإسلامي ابتداء من القرآن وانتهاء بالمجددين المحدثين في حملة القضايا التي يثيرها هذا العلم؟ الثاني: كيف تتطابق أو تتعارض مساهمات التراث الإسلامي مع ما أنجزه هذا العلم؟ وأن وصل التراث إلى مستوى رؤية هذا العلم وآفاقه وأين قصر عنها أو تخطاها؟ الثالث: بعد معرفة المجالات والقضايا التي كانت مساهمة التراث الإسلامي فيها قليلة أو معدومة، في أي اتجاه يحسن أن تبذل جهود المسلمين مستقبلا لكي تسد هذا النقص وتعيد صياغة المشكلة وتوسع مدى الرؤية. يتبع