لمحة موجزة عن قراءة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه (تابع) رأينا في الحلقتين السابقتين كيف قرأ الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: «فأخذتْكُمُ الصَّاعقة» وكيف أدى «ألاَّ يطَّوَّف بهِما» وكيف قرأ «يُتوفَّوْنَ منكُمْ» ثم رأيناه في الآية 147 من سورة البقرة «ناصباً قوله تعالى: «الحقَّ من ربّك» كما رأينا في الآية 146 من سورة آل عمران لماذايقرأ «رُبّيُّون كثير» بضم راء ربيون ولماذا في الآية 106 من سورة المائة قرأ: «ولانَكْتُمُ شهادَة الله» بنصبهما وتنوين «شهادة» وعلى ماتدل قراءته في الآية 24 من سورة الأنفال لقوله تعالى: «لتُصيبَنَّ» ورأينا، أخيراً قراءته لقوله تعالى في الآية 23 من سورة يوسف «هِئْتُ لَكَ». وأواصل بحول الله وقوته الآن البحث في قراءته، رضي الله عنه؛ فأقول: قرأ رضي الله عنه وأرضاه في الآية 30 من سورة يوسف التي يؤديها الجمهور كما يلي: «وقالَ نسْوَةٌ في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نَّفْسهِ قد شغَفَها حُبا إنَّا لنراها في ضلالِ مُبين» ؛ قرأها هو: «وقالَ نِسْوَة في المدينةِ امْرأةُ العزيز تُراودُ فتاها عن نفْسهِ قد شعفَهَا حُباً إنَّا لنَراهَا في ضَلالٍ مبين» بالعين في «شَغَفهَا». شارك عليا بن أبي طالب في هذه القراءة الحسن البصري وقتادة والأعرج ومجاهد وحميد والزهري وجميع هؤلاء القراء شاركوه في القراءة لكن بِخُلْفٍ عنه وشاركه في هذه القراءة أيضاً لكن بدون خلاف عنهم كل من أبي الرجاء ويحيى بن يعمُر وثابت بن أسلم أبي محمد البنانيِّ وعوف الأعرابي وأبي عبد الله سعيد بن الحكم بن أبي مريم وابن محيصن ومحمد بن السَّميْفع وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد. قال الجوهري: شَعَفهُ الحب أحرق قلبه، وقال أبو زيد: أمرضه. وروي عن الشَّعْبي أنه قال: الشَّغف بالغين المعجمة: حبّ، والشَّعفُ بالعين غير المعجمة: جنون. قال النحاس: وحكى «قد شَغفَها» بكسر الغين؛ ولا يعرف في كلام العرب إلا «شغَفها» بفتح الغين وكذا «شَعَفَهَا» بالعين غير المعجمة، أي: تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عرُوبة عن الحسن: الشِّغاف: حجاب القلب، والشَّعاف: سويداء القلب. فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت. وقال الحسن: ويقال: «إِنَّ الشَّغَافَ: الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبّه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب فكاد يحرقه لحدته وأصله من البعير يهنأ بالقطران فيصل حرارة ذلك إلى قلبه؛ قال الشاعر امرؤ القيس: اتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعفَ المهنوءة الرجلُ الطّالي (المهنوءةُ: من هنأتُ الناقة: إذا طليتُها بالقطران، وهي تستلذه حتى تكاد يغشى عليها. يريد قد بلغت منها هذا المبلغ، فكيف يقتلني، وهو لو فعل لكان ذلك سبب القطيعة بينها وبينه لفرط حبها إياي. وقرأ رضي الله عنه وأرضاه في الآية 11 من سورة الرعد التي يؤديها الجمهور كما يلي: «له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم..»، أقول: هو يؤديها هكذا: «لهُ معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه بأمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم..» شارك عكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمد عليّا في هذه القراءة. قال أبو مجلز: جاء رجلٌ من مراد (مراد قبيلة من قبائل العرب سميت باسم أبيها) إلى علي فقال: احترس فإن ناساً من مراد يريدون قتلك؛ فقال إنّ مع كلّ رجل ملكيْن يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإنّ الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا : «يحفظونه من أمر الله» أي: بأمر الله وبإذنه؛ ف (من) بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: «من» بمعنى «عن»؛ أي: «يحفظونه عن أمر الله»، وهذا قريب من الأول؛ أي: حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم، وهذا قول الحسن؛ نقول: كسوته عن عري ومن عري، ومنها قوله عز وجل في الآية الأخيرة من سورة قريش: «أطعمهم من جوع»، أي: عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر. نلاحظ، بعودتنا إلى القراءة التي نحن بصددها أن المفعول فيه محذوف؛ أي: يحفظونه من أمر الله «فليس معناه أنهم يحفظونه من أمر الله أن ينزل به، لكن تقديره له معقّباتٌ من أمر الله يحفظونه مما يخافه. ف (من) على هذا مرفوعة الموضع لأنها صفة للمرفوع الذي هو «معقبات»، ولو كانت كما يظن أنهم يحفظونه من أمر الله أن ينزل به لكانت منصوبة الموضع، كقولك: حفظت زيدا من الأسد، فقولك: «من الأسد» منصوب الموضع لأنه مفعول «حفظتُ». وقرأ رضي له عنه وأرضاه في الآية 31 من سورة الرعد التي هي عندجمهور القراء كما يلي: «ولو أنّ قُرْآنا سُيّرتْ به الجبالُ أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموْتى بل للّه الأمر جميعا أفلمْ يايئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعا..» قرأ هكذا: «ولوْ أن قرأنا سيّرتْ الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى بلْ للّه الأمرُ جميعا أفلم يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاءُ الله لهدى النّاس جميعا». لقد قرأ إذاك «افلم يتبيَّن» من بينت كذا إذا عرفته، وتدل هذه القراءة على أن معنى: «أفلم يايئس» هنا بمعنى العلم، كما تضافرت النقول: أنها لغة لبعض العرب كما سنبينه قريبا بحول الله.اندرج معه في هذه القراءة كل من عبد الله بن عباس وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن الحسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي يزيد المدني وعلي بن بديمة وعبد الله بن يزيد. قال أبو الفتح (المحتسب ج. 1 ص. 358) هذه القراءة فيها تفسير معنى قول الله تعالى: [أفلم يايئس الذين ءامنوا]. وروينا عن ابن عباس أنها لغة «وهبيل»: فخذ من النخع. قال الشاعر رباح بن عدي: الم ييأس الأقوام أنِّي أنا ابنُهُ وإن كُنْتُ عنْ أرْض العَشِيرة نائيا وروينا لسُحيم بن وثيل: أقولُ لأهل الشعب إذ يأسرونيِ ألم تيئسوا أنّي ابن فارس زهدمُ أي: ألم تعلموا. ويشبه عندي أن يكون هذا راجعا أيضا إلى معنى اليأس، ذلك أن المتأمل للشيء المتطلب لعمله ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه. فإذا ثبت يقينه على شيء من أمره اعتقده وأضْرَبَ عما سواه، فلم ينصرف إليه كما ينصرف اليائس من الشيء عنه، ولا يلتفت إليه. هذه اللغة هكذا طريق صنعتها وملاءمة أجزائها وضم نشرها وشتاتها. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في الآية الأخيرة في سورة الرعد وهي الآية 43 التي يقرأها الجمهور كما يلي: «ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب» أقول: يقرأها هو هكذا: «ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم من عنده علم الكتاب» بكسر الميم والدال والهاء في قوله: «ومن عنده» وبضم العين وفتح الميم في قوله تعالى «علم الكتاب»، أذكر أن قراءة الجماعة هي: «ومن عنده علم الكتاب». اندرج معه في قراءته لقوله: «ومن عنده» عبد الله بن عباس وأبي بن كعب رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق والضحاك والحكم بن عتيبة ومجاهد والحسن لكن بخلف عن الأخيرين، ورويت كذلك عن الأعمش. وشاركه في قراءته لقوله: «علم الكتاب» ابن السميفع والحسن. يقوم الإمام ابن جني بتخريج القراءتين على طريقته المعروفة عندنا، فيقول: «قال أبو الفتح: من قرأ: «ومن عنده علم الكتاب «فتقديره ومعناه: من فضله ولطفه علم الكتاب. ومن قرأ: ومن عنده علم الكتاب «فمعناه معنى الأول إلا أن تقدير إعرابه مخالف له، لأن من قال: «ومن عنده علم الكتاب «ف (من) متعلقة بمحذوف و «علم الكتاب» مرفوع بالابتداء كقوله تعالى في الآية 78 من سورة البقرة:» ومنهم أميون». ومن قال: «ومن عنده علم الكتاب» ف (من) متعلقة بنفس (علم)، كقولك: من الدار أخرج زيد، أي: أخرج زيد من الدار، ثم قدمت حرف الجر. وقراءة الجماعة:« ومَن عنده علم الكتاب» فالعلم مرفوع بنفس الظرف؛ لأنه إذا جرى الظرف صلة رفع الظاهر لإيغاله في شبهه بالفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية 37 من سورة إبراهيم التي هي عند جمهور القراء كما يلي: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون: »أقول: قرأها كرم الله وجهه هكذا: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» بفتح الواو. وقرأ مسلمة بن عبدالله: «تُهْوَى إليهم». قال أبو الفتح ابن جني (المحتسب 364/1): أما قراءة الجماعة: «تهوي إليهم» بكسر الواو فتميل إليهم: أي: تحبهم؛ فهذا في المعنى كقولهم: «فلان ينحط في هواك» أي: يخلد إليه ويقيم عليه؛ وذلك أن الإنسان إذا أحب شيئا أكثر من ذكره وأقام عليه، فإذا كرهه أسرع عنه وخف إلى سواه؛ وعلى ذلك قالوا: أحب البعير: إذا برك في موضعه، قال: حلت عليه بالقطيع ضربا ضرب بعير السوء إذا أحبا ومنه قولهم: هويت فلانا، فهذا من لفظ: هوى الشيء يهوي؛ إلا أنهم خالفوا بين المثالين لاختلاف ظاهر الأمرين وإن كانا على معنى واحد متلاقيين، فقراءة علي كرم الله وجهه : «تهوى إليهم» بفتح الواو هو من هويت الشيء إذا أحببته، إلا أنه قال: (إليهم)، وأنت لا تقول: هويت الى فلان، لكنك تقول: هويت فلانا؛ لأنه كرم الله وجهه حمله على المعنى ؛ ألا ترى أن معنى هويت الشيء: ملت إليه؟ فقال: تهوى إليهم لأنه لاحظ معنى تميل إليهم. وأما «تهوى إليهم» فمنقول من تهوي إليهم وإن شئت كان منقولا من قراءة علي رضي الله عنه «تهوى» كلاهما جزئز على مامضى».