من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. *************** لمحة موجزة عن قراءة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. (تابع) أريد قبل أن أواصل الحديث عن قراءة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن ألخص ما رأينا من قراءاته. لقد بحثنا فيها من بداية القرآن الكريم، وهكذا رأيناه في البقرة يقرأ في الآية 55: «فأخذتكم الصعقة» عوض: «فأخذتكم الصاعقة» وفي الآية 158 منها: «ألا يطوف بهما» مكان: «أن يطوف بهما» وفي الآية 234 «يتوفون» بفتح الياء مبنيا للفاعل، وفي الآية 106 من المائدة: «ولانكتم شهادة الله» ويقرأ في الآية 30 من سورة يوسف: «قد شعفها حبا» بالعين في «شغفها» وفي الآية 11 من سورة الرعد: «يحفظونه بأمر الله» وفي الآية 31 من نفس السورة: «أفلم يتبين» من بينت كذا إذا عرفته. وفي الآية 43 منها: «ومن عنده علم الكتاب». وفي الآية 37 من سورة إبراهيم: «تهوى إليهم» وفي الآية 46 من نفس السورة: «وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال » بالدال ولتزول «بفتح اللام الأول وضم الثانية وقرأ في النحل في الآية 41 «لنثوينهم في الدنيا» بالثاء بين النون والياء وفي الاسراء، آية 5 «بعثنا عليكم عبيدا لنا» وفي نفس السورة آية 16 «آمرنا مترفيها» وفي الكهف، آية 77 «ينقاص» بالصاد غير معجمة وبألف، وفيها في الآية 102 «أفحسب الذين كفروا» بسكون السين وقرأ في مريم، الآية 6 :« يرثني وارث» بضم اللام وقرأ «فدمرانهم تدميرا» في الفرقان، آية 36 بالنون الشديدة. وقرأ «صللنا» في السجدة وفي يس، آية 52: «ياويلنا من بعثنا من مرقدنا» كما رأيناه يقرأ في الصافات: «فلما سلما وتله للجبين» بغير ألف ولام مشددة، وقرأ في الآية 77 من الزخرف: «ونادوا يامال» رخم، الاسم وحذف الكاف وأواصل اليوم البحث في قراءته، رضي الله عنه فأقول: كما قرأ علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في الآية 4 من سورة الأحقاف، وهي: «قُلْ أرءَيْتُم ماتدْعونَ منْ دون اللهِ أرُوني ماذا خَلَقُوا من الأرْض أمْ لَهُمْ شرْكٌ في السَّماوات ائتوني بكتابٍ من قَبْل هذا أوْ أثارَةٍ منْ علْم إن كُنْتُم صادقينَ»؛ قرأ فيها: «أوْ أثْرَةٍ» ساكنة الثاء؛ فأصبحت هذه الآية عنده: «قُلْ أرءَيْتُمْ ماتَدْعونَ منْ دونِ اللهِ أرُوني ماذا خَلَقُوا من الأرْض أمْ لَهُم شِرْكٌ في السَّماواتِ ائتوني بكتابٍ من قبْل هذا أوْ أثْرَةٍ منْ عِلْم إن كُنْتُمْ صَادقينَ». شارك علياً بن أبي طالب في هذه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي. يرى بعض الباحثين وعلى رأسهم أبو الفتح عثمان بن جني، وأنا لا أشاركهم في رأيهم هذا: «أن ّ قراءة علي ومن شاركه فيها هي أبلغ معنىً لأنها، كما يقولون، هي الفعلة الواحدة من هذا الأصل؛ يقولون: هي كقولنا : «ائتوني بخبر واحد، أو حكاية شاذة، أي: قد قنعت في الاحتجاج لكم بهذا القدر على قلته وإفراد عدده»؛ (المحتسب الجزء الثاني صفحة 264). أقول: لاأشاركهم في رأيهم الذي ذكرناه لأن القراءة المتواترة المتعبد بتلاوتها هي عندي، لايفوقها شيء لأنها كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. كما قرأ، رضي الله عنه في الآية 15 من سورة الأحقاف: «بوالدَيْه حَسَناً»؛ بفتح السين والحاء. بعض من جمهور القراء يؤديها كما يلي: «ووصَّيْنَا الإنْسان بوالديه إحسانا حملته أمُّهُ كُرْهاً ووضعَتْهُ كُرْهاً وحمْلُهُ وفصالُه ثلاثونَ شهْراً..». كنت ملزماً أن أقول: «بعض من جمهور القراء يؤديها كما يلي» لأن القراء الذين يقرأونها كما قلت هم فقط: الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي.والذين لم يُذكروا هنا يقرأون: «ووصَّيْنا الإنْسانَ بوالدَيْهِ حُسْنا حملتُهُ أمُّهُ كَرْها ووضَعَتْهُ كَرْهاً وحمْلُهُ وفصالُه ثلاثون شهْراً..» وهؤلاء هم: نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وهشام الراوي الأول عن ابن عامر الشامي قرأوا: «بوالديْهِ حُسْناً» بضم الحاء وسكون السين، كما قرأوا: «كرْهاً» في الموضعين بفتح الكاف. اما ابن ذكوان الراوي الثاني لابن عامر الشامي فإنه يقرأ اللفظ: «حُسْناً» كما يقرأه نافع ومن معه ومنهم هشام لكنه يقرأ هو: «كُرْهاً» بضم الكاف. قد يكون اللفظ: «حسَناً» هنا مصدراً مثل المصادر التي اعتقب عليها (الفُعْلُ) و(الفَعَلُ)، نحو الشُّغْلُ والشَّغَلُ، والبُخْلُ والبَخَلُ. ويحتمل أن يكون (الحَسَن) هنا اسماً صفة لامصدراً، ولكنه رسيل القبيح (معنى رسيل القبيح، أي: يقابله ويقرن إليه)؛ أقول: ولكنه رسيل القبيح كقولنا: الحسن من الله والقبيح من الشيطان، أي: وصَّيْناه بوالديه فعلاً حسناً، ونصبه (وصيناه به)؛ لأنه يفيد مُفاد ألزمناه الحسن في أبويه، وإن شئت قلت: هو منصوب بفعل غير هذا، لابنفس هذا، فيكون منصوباً بنفس ألزمناه، لابنفس وصَّيْنَاه؛ لأنه في معناه. وقرأ علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في الآية 15 من سورة محمد: «أمْثالُ الْجَنَّةِ التي وُعِدَ المُتَّقُونَ» بجمع «مثل» وهي تقرأ من طرف الجمهور كما يلي: «مثل الجنة التي وعد المتقون فها أنهار من ماء غير آسن» قال أبو الفتح: هذه القراءة دليل على أن القراءة العامة التي هي: «مثل» بالتوحيد، بلفظ الواحد ومعنى الكثرة وذلك لما فيه من معنى المصدرية؛ ولهذا جاز: «مررت برجل» مثل رجلين برجلين مثل رجال، وبامرأة مثل رجل وبرجل مثل امرأة. ألا ترى أنك تستفيد في أثناء ذلك معنى التشبيه والتمثيل. ومثل ومثل بمعنى واحد كشبه وشبه وبدل وبدل. فإن قيل: فإنه لم يأت عنهم : «ضربت له مثلا» ، كما يقال: «ضربت له مثلا» قيل: المعنى واحد وإن لم يأت الاستعمال به، كما أتى الآخر في هذا المعنى، ألا ترى أنك لا تضرب مثلا إلا بين الشيئين اللذين كل واحد منهما مثل صاحبه ولو خالفه فيما ضربته فيه لم تضربه مثلا؟ (المحتسب 2/270). وفي الآية 22 من سورة محمد وهي:(فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) قرأ أيضا علي كرم الله وجهه: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض» بضم التاء والواو وكسر اللام» وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري المعروف عندنا برويس عن إمام أهل البصرة ومقريها يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله الحضرمي، أحد القراء العشرة. المعنى المقصود عندي بهذه الآية هو: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم». قد يستغرب بعض من قرائي الأفاضل حين يراني أقول هنا: «المعنى المقصود عندي بهذه الآية هو، «مستعملا اللفظ» عندي. «أقول» أقول هذا لأنه قد يكون لهذه الآية معنى آخر عند غيري، ويكون هو أيضا صحيحا. لماذا؟ لأنني أنا أومن إيمانا قويا أن الآية القرآنية متعددة المعاني. وكل معنى فيها من معانيها المتعددة صحيح ونحن ملزمون بتصديقه والامتثال له. وفعلا لقد أحصيت لهذه الآية سبعة معان؛ وكلها، في نظري، صحيحة يجب اعتمادها إلا أن الظرف أو الزمن أو غيرهما يحمل المتأمل لها على تبني معنى من هذه المعاني دون أن يرفض المعاني الأخرى؛ هذه المعاني هي: 1 فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. 2 فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظّلم. 3 فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. 4 فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام وتقطعوا أرحامكم. 6 «فهل عسيتم»، أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئت اللفظة «عسيتم» بفتح السين وكسرها. أما الكسر فانفرد به الإمام نافع المدني وأما الفتح فقرأ به الباقون. شارك نافعا في قراءته بالكسر كل من الحسن البصري وأبو عبد الله الهمداني الكوفي طلحة بن مصرف. قال الإمام القرطبي: «القراءة بالفتح هي الأشهر» وقال أبو حاتم «وليس للكسر وجه». أنا استغرب أن يصدر هؤلاء الفضلاء هذا الحكم على قراءة الإمام نافع هذه مع أنّ قراءته متواترة تلقاها إمامنا نافع بالسند الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي إذن كلام الله؛ وليس في كلام الله ماهو أشهر وما هو غير ذلك فهو كله سواء؛ وليس أحسن منه في الكلام كلام. قال مكي في اسم الفاعل: عس «فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في ذلك السين هي اللغة الفاشية. قال أبو علي: «ووجه الكسر قول العرب: «هو عس بذلك مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عست وعسيت فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عسي زيد. مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس، وإن لم يقل فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. وقرأ علي كرم الله وجه الآية 15 من سورة النجم التي يقرأها الجمهور كما يلي: «عندها جنة المأوى»، أقول يقرأها هو هكذا: «عندها جنة المأوى» بالهاء. شارك عليا بن أبي طالب في هذه القراءة ابن الزبير بخلاف عنه وأبو هريرة وأنس بن مالك بخلاف عنه كذلك وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب. يقال: «جن عليه الليل، وأجنه الليل» كما يقال أيضا :«جنه» بغير همز ولا حرف جر. يقول لنا ابن جني عن هذه القراءة في الجزء الثاني من محتسبه، صفحة 293 «روينا عن قطرب، قال: سأل ابن عباس أبا العالية: «كيف تقرءونها يا أبا العالية؟»، فقال: «عندها جنة المأوى» فقال: صدقت، هي مثل الأخرى: «جنات المأوى» (المذكورة في الآية 19 من سورة السجدة) فقالت عائشة رضي الله عنها من قرأ : «جنه المأوى»، يريد: «جن عليه» فأجنه الله. قال قطرب أيضا: «وقد حكي عن علي كرم الله وجهه أنه قرأ: «جنه» يعني فعله. قال أبو حاتم: روي عن ابن عباس وعائشة وابن الزبير قالوا: من قرأ «جنه المأوى» فأجنه الله، قال: وقال سعد بن مالك، قيل إن فلانا يقرأ «جنه المأوى» فقال: ما له أجنه الله؟ وروى أيضا أبو حاتم عن عبد الله بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرؤها: «جنه المأوى» بالهاء البينة، قال: يعني فعله المأوى، والمأوى هو الفاعل. والذي عليه اللغة أن «جنه الليل»: أدركه الليل، وجنّ عليه الليل وأجنّه: ألبسه سواده.