أخي عبد الرحمن كانت الفاجعة فيك عظيمة بمقدار ماكانت مفاجئة. فلا أنسى أني كنت بجوارك في إحياء ذكرى وفاة زعيمنا علال الفاسي، قضيت معنا السهرة، وأنت تتمتع بكامل عافيتك ونشاطك ووعيك الكامل، تتحدث على قلة كعادتك ولكنك تزن كلامك فلا تقول إلا المفيد الصادق الحكيم، حتى إذا مر يومان على السهرة التي كان يعمرها الذكر الحكيم والأمداح النبوية، فجعنا بنبإ رحيلك الى جوار ربك. قضاء الله وقدره اختارك الى جواره، والأمل مايزال فيك قويا لتستمر في عطائك العلمي نبراسا لعائلتك وأصدقائك تسير المؤسسة العلمية الكبرى التي كنت تشرف عليها: مؤسسة علال الفاسي العتيدة. ما كان أحد يتصور أن تكون المؤسسة بدون عميدها عبد الرحمن الحريشي. كنت التلميذ الوفي، والمرافق المخلص لزعيمنا علال الفاسي، منذ تعرفت عليه في طفولتك وشبابك، حتى إذا قضى، رأيت أن مكانك بجواره ، جوار فكره ونشاطه العلمي والسياسي، ولم يكن هذا الجوار إلا في المؤسسة التي يعيش فيها علال بكتبه وأبحاثه ومكتبته وحياته اليومية والاجتماعات السياسية التي كانت تجمع النخبة من مريديه حوله، وهو يتدارس معهم قضايا البلاد ومستقبل الوطن وتدبير سياسة الإنقاذ، علال الفاسي مايزال حيا في صومعته (المؤسسة) هذه، ولو غاب عنا بحسه، لابروحه، وكنت أنت السادي لهذه الحياة المتحركة لعلال الفاسي من خلال سدانتك للمكتبة في إطار المؤسسة، ولتراث علال الفاسي داخل المكتبة والمؤسسة، اخترت أيها الراحل العزيز بإخلاصك لفكر علال وعمله الرائد في المغرب سادي لعبته العلمية والسياسية. نعم الوفي أنت، ونعم السادي أنت. لقد أصبح كل ما قرأه علال وما كتبه بين يديك، وعرفت كيف تحميه وتحافظ عليه، وتبحث بين أردانه عن ديوانه وكتبه المخطوطة وتقاييده وأوراقه لتبعث كل ذلك من رقاده وتنشره، في إطار المؤسسة، على قرائه ومحبيه، ومقدري علمه وأبحاثه وإنتاجه وإبداعه. كل ذلك كان يتطلب منك الصبر الجميل، والمثابرة الدائبة والعمل العلمي الجاد بحنكة العلماء، ودقة الباحثين، وصبر المنقبين. كثير من تراث علال الفاسي كان معرضا للضياع لولا أن وفقك الله إلى أن تربط جهودك العلمية بهذا التراث فأنقذته وأخرجته من عالم الضياع الى عالم النور كلما تقدمت الى عائلة علال الكبرى العلمية والوطنية والسياسية بكتاب من كتبه الكثيرة، والتي كان بعضها مجهودا، أكبرنا بحثك وصبرك وعملك. وقدرنا ما عانيته، وأنت تبحث بين الأوراق المتناثرة لتخرج منها كتابا أو مؤلفا أو ديوان شعر أو بحثا.. كان سيظل مجهولا لولا الجهد الذي بذلته وصبرك الرائد، وقدرتك على سبر غور الأوراق التي تحبها في المكتبة لتجعل من نشاطك الدائب هذا «العمل» العلمي والوطني والسياسي والأدبي الذي قام به علال، فحال الموت بينه وبين إخراجه، وكنت أنت المنقذ والمحيي لهذا المجهود العلالي الكبير. ليس غريبا عنك ذلك أيها الراحل العزيز فقد كنت منذ عهدك بالطلب في القرويين مثال الباحث الجدي للدراسات العلمية، المتفوق فيما تتعلم وما تدرس حتى تخرجت عالما من القرويين يشهد أساتذتك وزملاؤك بكفاءتك ومقدرتك وإدراكك وعلمك وقد وظفت علمك هذا في أحسن ما يوظف فيه العلم والبحث يوم اعتكفت في مؤسسة علال الفاسي . فكان إنتاجك هذا متصلا بعملك العلمي في القرويين. ولذلك نجحت أكبر ما يكون النجاح بشهادة متتبعي مجهودك ودراساتك ومقدمات الكتب التي أخرجتها إلى الوجود، بشهادة كل من قرأها تفحص ودراسة ودراية. عرفك أيها الراحل العزيز الحقل الوطني والسياسي، وخاصة في مدينة فاس. كنت الحريص على مبادىء حزب الاستقلال والراعي الأمين لكل خلاياه وفروعه في مدينة فاس. وكنت المفكر والمدبر والمسير والمفتش لنشاط الحزب في فاس، مع أعمدة الحزب في المدينة من أمثال الحاج أحمد مكوار، وفي وقت فاس الحركة الوطنية والسياسية في المغرب جميعه، وفي فاس بالخصوص، مثل ضروب الغش والاضطهاد والجحود، وطغيان السلطة والتربص بالوطن وبحزب الاستقلال على الخصوص. كنت مثال الصامدين المجاهدين مع النخبة الاستقلالية، حتى حافظتهم على استقلالية المدينة ونضالها الوطني وريادتها للفكر التحرري. ليس غريبا عنك وعن عائلتك هذا النشاط. فأنت ابن الحاج العربي الحريشي. وقد كنا ونحن طلبة في القرويين نعرف هذا الرجل، ونسمع من أساتذتنا عنه وعن وطنيته ورعايته لأولى المدارس الحرة المدرسة الناصرية في فاس، وعن اجتماعاته في الخلايا الوطنية مع علال الفاسي وغيره من علماء القرويين. مازلنا نذكر الكثير عما كنا نسمع، ومازلنا نقدر أنك كنت من سلالة هذا الرجل العصامي، وأنه لن ينجب غير رجل عالم باحث مجد مخلص في عمله مثل عبد الرحمن الحريشي. رحمك اللّه أيها الراحل العزيز وأثابك على ما بدلت لبلادك ووطنك. وما قمت به من جهد مشكور في إخراج تراث علال الفاسي والمحافظة على الجانب العلمي في مؤسسته، وإخراج ما كان مغمورا من أبحاثه وكتبه. وأثابك اللّه على ما قدمت، وما صرفت من زهرة عمرك لصالح الوطن والعلم والثقافة