لم يتجاوز الأربعين، حج مرتين واعتمر خمسا، في حانوته الصغير داخل سوق شعبي بمدينة مراكش كان يجلس السيد عبد الله على كرسي خشبي ويتكئ على منضدة، حين ألقينا التحية عليه رد بأحسن منها، عدل من جلسته ليستقبلنا بابتسامة عريضة، لا يستقبل بها إلا أهل القلوب الكبيرة، حين فاتحناه في موضع استطلاعنا هذا، أحسسنا وكأننا لمسنا وترا حساسا في نفسه ومساحة واسعة في ذاكرته، تغيرت ملامحه حتى بدت حزينة بعض الشيء وأصبح صوته مبحوحا إلى حد ما، استجمع بعض قواه ليحدثنا بصوت المسلم عن مناسك تشوق إلى أدائها مرة أخرى قبل أن يطلق نفسا عميقا. وبدأ يحكي عن ذكريات راسخة كأنها وقعت البارحة على حد قوله، ليعيد اكتشاف معه معاني جميلة لحدث كبير .. حسرة القعود إنها سمة غالبة على نفس كثير ممن التقيناهم، فلا تكاد تفتتح موضوع الحج مع أحدهم، سواء حج في مرة سابقة أو لم يحج بعد، حتى يبادرك بالقول والحسرة بادية على وجهه لا تذكرني فالعين بصيرة واليد قصيرة. حتى أولئك الذين أغناهم الله من فضله، ولم يحبسهم عن إعادة تأدية هذه الفريضة إلا قلة الصحة أو ظروف طارئة، يقولون هذا، مثال ذلك السيد عبد الله: كيف لا أتحسر وموسم الحج أكبر حدث إسلامي سيعرفه العالم في الأيام المقبلة، وستتبعه كل العيون من مختلف بقاع الأرض، فيه يلتقي الكبير والصغير، الملك والوزير، الغني والفقير، العزيز والحقير، والقوي والضعيف، يلبسون ثوب أبيضا موحدا، مزدحمين في مشهد كأنه مشهد من مشاهد يوم القيامة، يحمل الحاج كفنه فوق ظهره لا يدري أيموت بعد ساعة أم يطيل الله في عمره ليعود إلى أهله وبلده، يسعى بين الناس بالخير واليمن والبركات. الإحساس نفسه وجدناه عند السيدة أمينة (إطار تربوي) التي لم تحبذ أن ألقبها بالحاجة، قالت لي مازحة هل تريد أن يقول الناس لقد كبرت، قبل أن تضيف حسرتي نابعة من كوني تعودت الذهاب إلى الحج منذ ثماني سنوات مع زوجي الذي توفي هذا العام، ولم أستطع السفر دونه، وأبكي كلما تذكرت بره بي وإمساكه بيدي طوال وقت الحج رغم مشاق السفر والتنقل الذي نتحمله في هذه الرحلة المباركة، فرحم الله زوجي هذا.. كان الأب بعد أبي والأخ بعد أخي، وكان دائما يحرص على الذهاب ليتزود من هذا المعين فنملأ جوانحنا خشية وتقوى وعزما على طاعة الله وتجديد العهد الذي جمعنا أول مرة.. لقب كالجمر .. الحسرة البادية على أغلب من لم يذهبوا هذا العام.. وحديثنا مع السيدة أمينة دفعنا لطرح سؤال يبدو محرجا حول لقب الحاج الذي يكتسبه الحجاج بعد عودتهم، لكن الكثير من الإجابات بدت مقنعة. قال السيد حاتم وهو تاجر كذلك إنه ليس افتخارا بين الناس، أو بمعنى أنه المعني بالأمر أصبح من أغنياء البلد ويجب أن يضرب له ألف حساب لأنه قدر أن يجمع من المال ما أنفقه في سبيل أداء هذا الفريضة، ولكنها مسؤولية ثقيلة، أنا شخصيا أشعر بكثير من الحرج حين أنادى بهذا اللقب، لأنه كالجمر، يحرق كل من خالف أمرا من أمور الدين، ومال عن منهجه القويم... والجميل أن في ثقافتنا التي لا يحلو للبعض أن يذكرها يضيف السيد حاتم نجد أن لقب الحاج جاء من باب التذكير والتكليف وليس من باب التشريف، وانظر كيف تقال هذه الكلمة لصاحبها هنا في مدينة مراكش، بنوع من الحزم حتى يتخيل لسامعها أنها تلقى في المسامع لتوقظ الهمم وبجعل المرء يكون على بال لأنه علم ما لم يعلم به كثير من الناس، وتذوق حرارة زيارة قبر النبي، والطواف بالكعبة، وما عليه إلا أن يلزم .. لكن عندي ملاحظة أريد أن أذكرها في هذا المقام فكثير من الحجاج حين يعودون أقولها صراحة يحسون أنهم ولدوا من جديد، ويبدؤون في النظر إلى الناس وكأنهم كلهم مذنبون عصاة، فيبدأ بالكلام القاسي في حقهم، بل منهم من يذهب إلى حرمان أهله وأولاده من زينة الدنيا بعدما أحس هو أنه زاهد فيها، وهذا يترتب عليه أمور خطيرة، لذا أحبذ ألا يكون هناك تغيير مفاجئ في حياته وحياة أهله ولكن يكون ذلك بالتدريج وسيلته الموعظة الحسنة وحسن الخلق وخفض الجناح. حج غير متوقع أما السيد عبد الرحيم (أستاذ) فلا يبالي باللقب كثيرا، وتعود أهله أن ينادوه باسمه فقط ، كما أن عمره لا يسمح بحمل هذا اللقب، لكنه جرنا إلى حديث آخر حول حجه غير المتوقع، فقليل منا يسر الله لهم هذا العام وذهبوا لأداء فريضة الحج، وكثير منا يتشوق لأدائها في أقرب فرصة، وإذا كان البعض تغمره تلك الحسرة بعدم الذهاب، فإنه يشعر ببعض الراحة ويشكر الوهاب المنان الذي يسر له بعدما لم يكن أبدا يتوقع أن يذهب في سن مبكرة (25سنة)، يقول سي عبد الرحيم لم أتوقع أبدا أن يستجيب الله لدعائي سريعا، فحالتي المادية لا ترشحني أن أذهب لأداء مناسك الحج، لكني هما يساورني كلما حل موسم الحج خاصة وأنني موظف بسيط وأحضر سفر كثير من الأصدقاء والأحباب لهذه الديار، وزوجتي تشدني معها أثناء شهر كامل لمكة المكرمةوالمدينةالمنورة حيث نتقصى أخبار الحجاج بما أن واحدا من عائلتها كان يذهب كل سنة، ولا أجد غير التنقل بين قنوات التلفاز أشاهد صورا رائعة لهذه الفريضة الغالية، مرة فاضت عيني بدمع غير متوقع، عرفت أنها وقت استجابة فمددت يدي إلى السماء أطلبه ألا يحرمني أجر هذه الفريضة وأنا الذي كنت أقرأ عنها طويلا حتى رسخت معانيها في نفسي وروحي، لن أخفيكم سعادتي وأنا أتلقى هاتفا من أخ زوجتي يحدثني عن تهيء نفسي للسفر بعدما تبين أن أب زوجتي لم يجد من يرافقه في رحلة هذا العام، وهو الرجل الكهل الذي يخشى أهله أن يذهب وحده، عرفت أنها استجابة من الرحمن، ووعدت نفسي أن أرجع المال الموهوب لي عن طيب خاطر إلى أصحابه. بعد حديثنا أرشدني إلى أخ زوجته عله يزيدني من عنده، وجدنا السيد خالد (بائع ثوب) رجلا في نهاية عقده السادس، يحدثنا عن صهره الذي حج مرتين، لكنه قرر أن يجتهد من أجل يحج كل أقاربه فهو يقول من جهز غازيا فقد غزا، إنها مكافأة سنوية يقوم بها لوجه الله، والغريب يحكي هذا الرجل ما أن يذهب الحاج المختار من هنا، حتى يرزقه الله أحسن من ذلك المال، في ولد أو مال آخر، أو حدث سعيد أسعد به، وحين لا تظهر أية إمارة يقول إن الله أخر ذلك إلى يوم القيامة.. الحاجة زينب (مستخدمة) كانت فرحتها شديدة، العام الماضي، فهي مقبلة على التقاعد، وقد عملت في شركة لمدة ثلاثين سنة، لم تصدق نفسها حين قيل لها أن تجهز نفسها للحج، بعدما قررت إدارة الشركة مكافأتها بحج مبرور.. العودة.. العودة.. اتفق أغلب من سألناهم على أن أقوى اللحظات التي عاشوها في موسم الحج، هي ذلك الوقوف المهيب في يوم عرفة، لما لذلك اليوم من عظيم الأجر، ويذكرنا أغلبهم بالقول المأثور الحج عرفة ، يقول السيد عبد الله إنه يوم مشهود ينزل فيه الرحيم الرحمن إلى السماء الدنيا يستقبل ضيوفه استقبال الكرماء، ويهنئهم بحجهم تهنئة الشرفاء، إنه شعور عظيم لا تحسه إلا في ذلك المكان وفي ذلك الوقت، وقد عاودني نفس الإحساس في الحجة الثانية وكأني أقف للمرة الأولى، كيف لا والله الرحمن الرحيم ينزل إلى السماء الدنيا، وتحس بالتقاء السماء بالأرض في أروع مقام، ويجود الباقي على الفاني، ويشد القوي بيد الضعيف، ويهب الغني الفقير .. أما بالنسبة للسيدة فاطمة (موظفة بالقطاع الخاص) فأقوى اللحظات التي يستعد فيها المرء إلى العودة إلى بلده، فالكل يلهج بكلمات واحدة ووحيدة في المطار وفي الحافلات: العودة ..العودة، حين سألناها لماذا العودة ألا تكفي حجة واحدة، أجابت هذه السيدة كم منا يزور بلدا فتعجب ماؤها أو سكانها أو مناظرها أو.. أما في موسم الحج فالأمر أكبر من أن يوصف.. إنه لقاء من نوع خاص وسياحة غير عادية، لهذا كيف تسألني لماذا يريد كل من أتى إلى هنا أن يعود مرة أخرى، هل جربت لحظة من لحظات الوقوف بعرفة في ذلك المشهد العظيم في عالم آخر، الناس فيه يبكون ويتباكون لا يفكرون لا في ولد ولا بلد ، هل جربت لحظة يوم النحر حين يتذكر الإنسان فداء إبراهيم ولده إسماعيل، هل جربت لحظة رمي الجمرات تقذف بها الباطل وترجم الضلال، هل جربت ذلك السعي بين الصفا والمروة وتذكرت أمنا هاجر، تشعر بها أما حنونا رغم أنها لم تلدك، هل جرب طواف الكعبة ودورانك حول رمز خالد، تكرر الطلب وتلتفت إلى بيت الجواد المنان، وتهجر ببيوت ما سواه.. هل جربت أن تشرب من ماء زمزم من منبعه الذي لا ينضب وتتفكر في أمره ومآله، قبل أن تقول فيه طعام كعم وشفاء سقم ماء زمزم لما شرب، هل جربت الإحرام فهو طرح لزينة وارتداء الكفن والتهيؤ للموت، هل جربت التلبية نشيد الأحرار وأرجوزة الموسم وهتاف الخالدين وأذان للدهر وإعلان لانتصار الحق على الباطل والرشاد على الغي، إنها حروف صادقة تنطقها حناجر مؤمنة (شعرت بشوق كبير وأنا أتلقى هذا الكلمات الفياضة..) دعوة.. نرجع إلى السيد عبد الله الذي واصل حديثه الشيق معنا بطرفة جميلة، مؤكدا أن موسم الحج خمسة أيام فقط، وكثير من الناس الذين قدموا من بلاد أخرى لا يمكثون غير هذه المدة، ومنهم من يقضي مدة أكبر حتى نصل إلى نصف الشهر، أما نحن المغاربة فقد من الله علينا حتى أننا نقضي بهذه الديار ما يفوق الشهر، نعتمر ونحج ونزور المدينةالمنورة، ثم يختم حديثه الشيق وعيناه تشعان من بعض قطرات الدمع التي ترفض أن تنزل قائلا: أدعو الناس لاغتنام أي فرصة لأداء هذه الفريضة، فبالحج تسع معارف الإنسان عن كثير من البلدان الإسلامية وعاداتها وناسها، ولا أنسى أنه تدريب على التحلي بالمبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام مثل الصبر والإحسان والتذلل لله عز وجل، تكون له مرتكزا لبناء قيمه الاجتماعية والأخلاقية، يربطها بعباداته وشعائره ربطا عميقا، فعليه بالعزم على الحج فضلا عن أن صلاة الجماعة في هذا الموسم الكبير تعني الاخوة والمساواة والحرية والكرامة .. مراكش: عبد الغني بلوط