مرت ليالي رمضان سريعة مؤذنة بالرحيل، بعض المغاربة عمروها علما وتزكية وجعلوا منها مناسبة للتراحم العائلي، وآخرون سرق منهم السهر معظمها، ولم يبق منها إلا العشر الأواخر تدعو المشمرين لاغتنام فضلها، لا تلبث هي الأخرى أن تنقضي، ويبقى السؤال أين يصرف المغاربة ليلهم الرمضاني؟ ذلك ما يقربنا منه الاستطلاع الآتي... ليالي ضائعة من العمر بمجيء شهر رمضان تنقلب أحوال الأسواق والبيوت وتنقلب معها سلوكات الحياة لدى الكثير من الأفراد، ويتغير توزيع الزمان رأسا على عقب، فيصبح الليل نهارا، والنهار ليلا، على شاكلة التصوير الغنائي لمجموعة ناس الغيوانأن صيفهم أصبح شتاء، ويقتنص أصحاب الفنادق والمقاهي هذا الانقلاب لتنظيم سهرات فنية يستدعى لها أجود الفنانين، ويتم الإشهار لهذه الحفلات بشتى الوسائل، عبر اللوحات الإشهارية بالشوارع، وفي أجهزة الإعلام، ويختار لها الليل،لأن النهار للصيام، وهو لا يتناسب مع ما سيتخلل هذه السهرات الفنية من رقص وربما غناء فاحش وأشياء أخرى. فتيان وفتيات وعائلات بأكملها تعج بهم الشوارع ليلا، وكل شيء تضافر ليجعل النشاط في الليل مزدهرا، والسهر إلى الوقت المتأخر أمرا عاديا، إجماع شبه كلي تحاول عوامل كثيرة إقناع الرافض لهذا الانقلاب بطبيعيته، برامج تلفازية مغرية موزعة على فترات متفرقة تستوعب الليل كله، توزيع زمني خاص برمضان، فأبو عبد الرزاق مثلا، يستسلم في النهار لنوم عميق يعوض به سهر ليلة الأمس، وعند صحوه بعيد آذان المغرب يصبح نشاطه دؤوبا، ولا يدخل إلى المنزل إلا قبيل الفجر لتناول السحور، وحتى إذا ما جاءه شخص لغرض ما أثناء نومه فإن العائلة تخشى إيقاظه. وبانتشار الصحون المقعرة أوالبرابول تم تعويض الخروج للسهرات الليلية الخارجية لدى الكثيرين، تقول خديجة عن أخيها الذي يصلح أجهزة التلفاز والراديو:أخي يصرف ليله معالبرابول ولا يستيقظ إلى عمله إلا في حدود الحادية عشرة نهارا، أما الوالد(يعمل جزارا)، فبعد الفجر مباشرة وبعد قراءة القرآن يقصد دكانه، ولا يفطر معنا. السلوك نفسه تنهجه سعاد، فهي ترى أن السهر مع برامج القنوات التلفازية يجنبها الكلام في الناس حسب ما تبرر به سهرها في مشاهدة التلفاز، فهي تملأ الليل (أو تضيعه) في متابعة عدة أفلام موزعة على قنوات متعددة، وكثيرا ما تتفاعل وجدانيا مع مجريات هذه الأفلام والمسلسلات فتنهمر الدموع منها إشفاقا على المنهزم أو الضعيف. بالنسبة لمنير الوزاني، فهو يعتبر الليل مناسبة للقاء بين الأصدقاء في المقهي للنقاش بخصوص القضايا الخاصة والعامة، وعما إذا كان لا يتضايق بروائح الدخان المنبعث يجيب:ذلك شر لا بد منه، والإنسان أثناء مجالسته لأصدقائه لا يعير ذلك أي اهتمام. ويتعجب أبو أسامة من إبداع صاحب مقهى مجاور لبيته، فقد تفتق ذكاؤه على استثمار مربح، فقام بتحويل محل كان في أيام غير رمضان مخصصا لبيعالحرشةوالشاي، ليبيع فيه خلال شهر رمضان حلوىالشباكية قبل أذان المغرب، وبعد الإفطار ينصب طاولات ويضع كراسي وتبدأ جولات لعب الورق، ويشترك في ذلك الشيوخ والشباب بدون حاجة إلى ترخيص !! ليل لجمع الشمل والتراحم سيد الأشكل، شاب من الجنوب المغربي( من مدينة العيون)، تزوج لتوه، يبدو فخورا بعادة الصحراويين واجتماعهم العائلي على ارتشافالزريق (الحليب) ويقول:بعد صلاة التراويح تتم برمجة جلسة للشاي الصحراوي، ويوضع المجمر والربيعة والزنبيل/برميل الشاي، ويصنع الزريق ثلاث مرات، وتدوم هذه الجلسة ساعة إالى ساعة ونصف، وتكون الجلسة وسيلة لإحياء النقاش العائلي مع أفراد الأسرة أو مع الأصدقاء وتكسير الصمت داخل الجماعة، ويعتبر الخروج على هذا العرف -حسب سيد الأشكل-جريمة واستخفافا بالضيف، وبابتسامة خفيفة، يتابع قائلا:أما عندما تزوجت الآن، فأنا ملزم بالالتحاق بالبيت في وقت معين ومضبوط. ويميل الباهي، الذي يعمل مستخدما بإحدى المؤسسات الخاصة، إلى الرأي نفسه في استغلال ليل رمضان في التزاور والتراحم العائلي ويصرح: بعد التراويح أقوم بمعية العائلة بزيارة الأقارب والأصدقاء، وهي فرصة لا تتاح لي في الأيام الأخرى، أما بالنسبة لمشاهدة التلفاز فإني أقاطع القناتين الأولى والثانية ولا أملك البرابول، مما ييسر لي وقتا لزيارة الأصدقاء. أما محمد، وهوشيخ جاوز الستين، يحرس إحدى المؤسسات التعليمية بالرباط بالنهار، فهو لا ينام ليلا من تأثير مرض السكري، بل يفضل البقاء في المنزل رفقة زوجته وأولاده لمشاهدة التلفاز:سيرتو surtout الأفلام والأخبار، يفصح محمد بصوت منخفض، أما السهرات فإنها مجرد صور، أما الزوجة فهي تهيئ الطعام وتغسل أواني الإفطار، وعندما سألته أليس من حق الزوجة أن تستريح ويقوم الرجل ببعض أشغال المنزل، أجاب بثقة زائدة:أحنا من الأول ما اتفقين، وعايشين بلا مشاكل والحمد لله. تنافس الجمعيات في رمضان تتجند الجمعيات الثقافية والاجتماعية ودور الشباب على طول التراب الوطني لملء ليل رمضان بالأنشطة والملتقيات وإقامة الأمسيات الفنية، ويتم التنسيق لها مبكرا، يقول(أ،م) فاعل جمعوي من مدينة تمارة:بعد الانتهاء من العمل اليومي والإفطار وأداء التراويح، أقصد دار الشباب للمشاركة في لقاءات لمدارسة المشاكل التي تعترض عمل الجمعيات التابعة للدار(حوالي75 جمعية) من حيث توزيع الأوقات واستيعاب الحضور المتزايد خلال شهر رمضان، ولا يتوقف انخراط (م،أ) في مدارسة المشاكل بل يشارك في تنشيط أمسيات وحفلات فنية في دور شباب أخرى والإسهام في المحاضرات والندوات المنظمة بالدار. بالنسبة لسليمان الهراس، معلم بمدينة الشاون، فهو يقضي ساعتين يوميا في المداومة بالجمعية بعد التراويح والمشاركة في تنظيم الأنشطة بها: لا أسهر كثيرا، فأنا أصل البيت متعبا من عملي بسبب التنقلات اليومية،لأني أدرس في منطقة بدوية بالإضافة إلى المداومة بالجمعية لمدة ساعتين، فالنوم أولى يقول سليمان. ويقاسم سيد الأشكل سليمان في تنشيط العمل الجمعوي ويقول: ليل رمضان يكون فرصة لمساعدة أبناء أختي في المدارسة، وبعد التراويح أقصد الجمعية للإشراف على مكتبة الجمعية، إذ يتم فتحها أمام الزائرين يوميا لتزويدهم بما يحتاجون من كتب ومجلات. أما بالنسبة للأستاذ إسماعيل ، معلم بإحدى البوادي، فتكاد الجمعية ووضع برنامج ثقافي، خاصة خلال شهر رمضان، يمثل الانشغال الأهم له، ويتطلب منه الأمر المبادرة الذاتية دون انتظار مكتب الجمعية بما يود فعله مستعينا في ذلك ببعض التلاميذ أو الطلبة. الليل للقراءة والمدارسة ليالي رمضان سواء بهدوئها أم صخبها، تدفع الكثيرين إلى الانزواء في أماكن تتيح لهم فرصة مداعبة الكتب والأقلام لإنجاز مشاريع علمية، ويعتبر عز الدين الع، صحافي ناشئ من الشمال المغربي( جريدة محلية)، الليل فضاء منتجا للقراءة :خاصة القراءات التربوية بدل الكتب السياسية والفكرية، وفي بعض المرات أضطر للسهر حتى إلى الصباح لإنجاز أو إعداد مقال للجريدة التي أشتغل معها، فالقراءة، يضيف عز الدين،هي نوع من العبادة، ولكن لا يجب أن يطغى البرنامج القرائي على نوافل التقرب إلى الله في هذا الشهر العظيم، ولا يخفي عز الدين تأثير :الآلة الإعلامية بأطباقها الاحتفالية وطعمها الخاص والاجتهاد في تحسينها على الالتزام الحازم والمضبوط بأوقات البرنامج، الذي أعتاده في الأيام العادية من دون رمضان. ويعتبر الدكتور أحمد(ز)، أستاذ جامعي من الرباط، أيام رمضان جميعها سواء ليلها أو نهارها محطة سنوية خاصة للإنتاج العلمي، فكل :بركات أعمالي كان زمنها رمضان، فلا أعود للنوم بعد صلاة الصبح، فبعد قراءة القرآن أقبل على أعمالي ليجتمع لي بركة رمضان وبركة الصباح للحديث النبوي: بورك لأمتي في بكورها، ويصرف ع أبا سيدي، موظف بأحد أسلاك الوظيفية العمومية، معظم ليله في تكوين ملفات خاصة بعمله، ونادرا ما يسهر إلى وقت متأخر من الليل:مرة واحدة، اصطحبت زوجتي لحضور ندوة حول المدونة الجديدةبالرباط، أما ما أفضله فهو قراءة القرآن وقراءة بعض الكتب ذات الصلة باهتمامي. وتبقى أجواء رمضان بالنسبة لعبد الله، طالب جامعي، ميسرة لالتهام المعارف، فليس هناك ما يشغله عن الزيادة في العلم والمعرفة لتأسيس مستقبله المنشود. ليالي صنعت للأمة عزا في مقابل ما نشاهده في ليالي رمضان من هدر للوقت بغير حسبان، هناك وجه جميل لرمضان حيث تغلق الحانات أبوابها، وتؤوب إلى ربها استحياء من هيبة الشهر الفضيل، فيقل ضجيج السكارى. وقد أدرك السلف الصالح فضائل الأعمال في فضائل الزمان، فساروا على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في استغلال ليل رمضان بشد المئزر للعبادة والمسارعة للخيرات، فقد كانوا يستعدون لرمضان قبل مجيئه بستة أشهر، وإذا ما انتهت أيامه، وودعوه، استصحبوا جذوة الإيمان المحصلة منه زادا لحياتهم في الأشهر الستة المتبقية، فهذا مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، رضي الله عنه يفاضل بين عملين كلاهما خير، فيترك الحديث في رمضان وينكب على قراءة القرآن، فكان السلف الصالح يتفرغون من أعمالهم الوظيفية لتلمس حاجات المحتاجين والتزود بالعمل الصالح لمضاعفة الأجر، وكانت المساجد والبيوت مضاءة في الليل كأنها خلية تسمع منها القراءة والمناجاة، فتهذبت بذلك النفوس، وانجلت الأمراض عن القلوب وزالت الذلة، وليس عجبا أن يحفظ التاريخ أنهمكانوا رهبانا بالليل، فرسان بالنهار، فتخرج منهم القادة والعلماء، وعرف الشهر الفضيل في حياتهم بشهر الفتوحات والمكرمات العظيمة للإسلام والمسلمين. هذا ليل، وليلنا غيره، فأين الخلل، ورمضان يؤذن بالرحيل ولم يتبق منه إلا أقل من نصفه؟ عبدلاوي لخلافة سهر يأكل فضائل رمضان... السهر نوعان: سهر مفيد يبني الأمجاد وتنال به المعالي ويستحق أن يواصل لأجله الليل بالنهار، والثاني سهر عبثي يجهز على سنة الله الذي جعل الليل سكنا والنهار معاشا، ويخل بالتوازن والاتساق الذي بنى الله تعالى عليه نظام الحياة والإنسان والكون. فإعطاء الجسم الوقت الكافي من الراحة يحفظ له حالة صحية ممتازة تمكنه من اغتنام رمضان في تحصيل الأجر والثواب. وقد نبه العلماء إلى أضرار عديدة مترتبة عن للسهر العبثي ومنها: - أن الإرهاق الناتج عن السهر يولد عدم القدرة على التركيز، فالسهر يستنزف قدرات الجسم في أداء وظائفه، ويؤدي إلى تقهقر في الإنتاجية العملية والعلمية للساهر. -عدم النوم في أوقات منتظمة ينتج عنه اضطراب في هرمونات الجسم مما يؤثر على الجهاز العصبي، إذ لا يستطيع المرهق نفسيا تحمل الضجيج في العمل والبيت فتتشنج العلاقة بينه وبين الآخرين. -خسران التقوى كغاية وحصيلة من الصوم بسبب اقتراف مجموعة من المنكرات المصاحبة عادة للسهر مثل اللغو والنميمة... -فقدان الاستغلال الحسن لنهار رمضان في الإنتاج والعبادة، إذ تظهر على الساهرين ملامح التثاقل والتثاؤب طول النهار، والمبرر هو السهر. - ضياع صلاة الفجر. فنوم الليل لا يعوضه نوم النهار مهما طال، كما أن الحرص على النوم المبكر يمنح الجسم قوة ونشاطا، وهو امتثال لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها. ويبقى السهر للفائدة والمصلحة العامة مرغوب فيه، ولكن أفضل ما ينهجه المسلم في التعامل مع أوقات يومه هو الاستيقاظ قبل الفجر وعدم النوم بعده، واستغلال هذه الفترة في تحصيل ما ينفع، لأنها ساعات يكون فيها الجسم والفكر أقدر على التركيز والإنتاج:وقد قال الرسول الكريمبورك لأمتي في بكورها، وقديما قال أحد الحكماء:قم باكرا واصح باكرا تكن صحيحا وثريا وناجحا.