لمحة من مسار المخرجة إشتغلت المخرجة المغربية سلمى بركاش قبل إنجاز فيلمها الروائي الطويل الأول "الوتر الخامس" كمساعدة مخرج مع العديد من رواد السينما المغربية كحكيم نوري في فيلم "مصير امرأة" وفريدة بليزيد في "كيد النساء" وجيلالي فرحاتي في "ضفائر" إضافة إلى أفلام أخرى لسعد الشرايبي وحسن بن جلون وأولاد محند وبضع مخرجين أجانب. وكانت أثناء فترة دراستها قد أجزت عدة أفلام تجريبية متأثرة برواد السينما التجريبية في السينما العالمية كهانز ريشتر وجوناس ميكاس ومرغريت دوراس. لتنتقل بعد ذلك لإخراج أولى أفلامها القصيرة الروائية وهي "لا أبدا" و"المصعد" إضافة إلى فيلم وثائقي عن "عيساوة" موسوم ب"نداء الروح". ثم شرعت في الإشتغال على سيناريو فيلمها الروائي الطويل الأول "الوتر الخامس" الذي تلقت عنه دعما للكتابة ودعوات للمشاركة في ورشات لإعادة كتابة السيناريو تابعة لمهرجان "كان" و برلين ودبي إضافة لمنحة من برنامج "أورو ميد". "الوتر الخامس" مسار وأسلوبان يحكي فيلم "الوتر الخامس" لسلمى بركاش عن مسار موسيقي شاب يكافح من أجل النجاح في مشروعه الموسيقي ذو رؤية تحاول المزاوجة بين شكل موسيقي تقليدي والمتمثل في الموسيقى الأندلسية وموسيقى "كناوة" وبعض الموسيقات الشعبية الأخرى من جهة والموسيقى العصرية الغربية الحديثة من جهة أخرى. ويمكن الجزم أن المخرجة قد جعلت فيلمها مُعبرا عن هذه الإزدواجة من خلال شكل الفيلم الذي يتراوح نوعه وشكله ومرجعياته بين السينما ذات البعد الكلاسيكي و السينما التجريبية التي تأثرت المخرجة ببعض روادها في بداية مسارها السينمائي، مستطيعة المزاوجة بدورها وعلى خطى بطلها "مالك" بين أسلوبين سينمائيين متناقضين. إذ ينفتح الفيلم وينتهي بتصوير وبطريقة مونطاج كلاسيكيين، لكننا نجد المخرجة داخل الفيلم وخصوصا أثناء بحث البطل المُضني ومحاولته الوصول إلى أسلوبه الخاص في الموسيقى بتجريبه لأشكال موسيقية غير تقليدية إنطلاقا من موسيقى تقليدية، تتماهى مع "مالك" في مساره وتتابع هذا المسار بشكل سينمائي حداثي وتجريبي. ويبدو أن الإشتغال الجيد على السيناريو -الأمر الذي يَنقُصُ العديد من الأفلام المغربية - وذلك بكتابته وإعادة كتابته أكثر من مرة أتى أُكله لا من حيث تماسك الأحداث وانسيابيتها أو من حيث تطور الشخصيات، خصوصا شخصية "مالك" التي نتابع مسار تطورها وتعقدها نفسيا بموازاة مع تطور مشروعها الموسيقي وتأثير الشخوص الأخرى فيها إيجابا أو سلبا (العم، الأم، الأب روحي والحبيبة)... "مالك"، زرياب آخر يحاكي فيلم "الوتر الخامس" أحداث حكاية المغني العربي القديم زرياب الذي اضطر ليهجر موطنه ويبتعد عن معلمه إسحاق الموصلي الذي ناصبه العداء خوفا على مكانته بعد ما رءاه من إعجاب هارون الرشيد به. وفي فيلم سلمى بركاش نجد أن "مالك"، الذي أراد عمه "أمير" أستاذ الموسيقى أن يخط له مسارا يرتضيه ، يقرر في آخر المطاف بعد أن تصل بينهما الأمور إلى الطريق المسدود أن يهاجر إلى مدينة طنجة حيث سيستقي من معين الموسيقيين شعبيين إقاعات أخرى سيمزجها بكل ما تعلمه ليبدع موسيقاه الخاصة. وتظهر محاكاة مسار زرياب واضحة في الفيلم إبتداء من العنوان باعتبار المغني العربي القديم هو من أضاف الوتر الخامس إلى آلة العود مبتكرا أنماطا موسيقية جديدة من بينها الموشح. علامات ورموز و نجد بالفيلم علامات ورموزا عملت المخرجة على بثها طيلة لحظاته بشكل غير مقحم ومن داخل سياق الفيلم ونسيجه العام، وذلك حتى يُغني عن الذي لا يُقال، وليس كإعادة له أو كخطاب على خطاب كما نجد في بعض الأفلام المغربية الأخرى. وكمثال على ذلك المشهد الذي نتابع فيه "أمير" عَم "مالك" واقفا من وراء نافذة مُغلَق زجاجها وفي الخارج بالحديقة فراشة ، وإذا بعم "مالك" يقوم بحركة خفيفة من يده وكأنه يريد الإمساك بها لكنها تطير بعيدا من وراء الزجاج الذي يفصله ويفصلنا عنها، وهذا المشهد يختزل ربما كل أحداث الفيلم... الموسيقى كشخصية وإيقاع مشهد آخر نرى فيه "مالك" يعزف على العود وينقر إيقاعا موازيا بشوكة مائدة موضوعة بين أصابع رجليه على زجاجة، بحيث تزاوج المخرجة في مونطاج متواز بين لقطات مكبرة على يد "مالك" وهي تعزف و رجله وهي تنقر الزجاجة وعلى أمه وهي تعمل على آلة الخياطة. وقد كان مشهدا موفقا وجميلا إستطاعت فيه سلمى بركاش تصوير وتتبع حالة الخلق والإبداع خصوصا في جانبها الموسيقي الذي يعتمد على الإيقاع معبرة عنها بواسطة الإيقاع الفيلمي المرتكز على المونطاج أساسا، إضافة إلى حضور ذلك التشبيه بين فعل الخياطة الذي تزاوله الأم وفعل "خياطة" و "حياكة" أنواع موسيقية مع بعضها البعض من أجل خلق شكل أو نوع موسيقي جديد هو مزيج بين التقليدي الكلاسيكي والحداثي، الأمر الذي كان "مالك منكبا عليه ساعتها. وهنا تجدر الإشارة أن أسلوب التقطيع والمونطاج في فيلم "الوتر الخامس" كانا يسايران ويوازيان الإيقاع الموسيقي طيلة لحظات الفيلم وليس في هذا المشهد فقط. إذ يمكن اعتبار الموسيقى هي الشخصية الرئيسية في الفيلم والتي تقول المخرجة أنها تخيلتها "مثل شخصية غائبة حاضرة، وكان على هذه الشخصية أن تتطور كأي شخصية أخرى.."*. أداء متميز إعتمدت المخرجة في فيلمها "الوتر الخامس" على نوعين من الممثلين، الأول يجر وراءه تجربة ومسارا مهمين كالممثل التونسي القدير هشام رستم ، في دور "أمير" عم "مالك"، الذي يمكن اعتباره دون مبالغة ممثلا عالميا بحكم مشاركته في عدة أفلام عالمية وتألقه فيها، والممثل المغربي المقتدر محمد الخلفي الذي يجر وراءه تجربة تلفزيونية ومسرحية مهمة ، أما النوع الثاني من الممثلين فمازال في بداية مساره في التمثيل و يمثل هؤلاء الممثل علي الصميلي الذي أدى دور "مالك". لكن يبدو أن سلمى بركاش إستطاعت خلق الإنسجام بين هؤلاء ليحملوا الأحداث و الشخصيات على أكتافهم ويخرجوا بالفيلم بدون أعطاب تذكر فيما يتعلق بالتشخيص.