يذكرنا فيلم المخرجة الشابة سلمى بركاش" الوتر الخامس" بقدرة السينما المتجددة على صهر كل الفنون بداخلها .فهي فن شره استوى منذ بداياته على اعتبار كل الإرث الإبداعي للبشرية، بغناه وتعدد موضوعاته. وسواء في حبكات الأفلام والتشكيل البصري للمناظر أوفي الأمور المرافقة تقنيا ودلاليا للفيلم، كانت السينما ملتقى حقيقيا لتلاقح الفنون في ما بينها وتخصيب بعضها البعض واستشراف أقدارها الجديدة داخل هذه السلطة الإبداعية الجديدة والكاسحة: سلطة الصورة. وكم من فن نفخت فيه السينما روحا جديدة وكم من مبدع كان سيلفه النسيان لولا جماهيرية السينما وقدرتها على تحويل كل ما تلمسه إلى مشاع بين الناس . للوهلة الأولى يمكن القول بان فيلم سلمى بركاش سار في طريق عبدته السينما العالمية منذ زمن طويل. فهو يحكي قصة شاب ،مالك، شغوف بالموسيقى في رحلة بحثه عن الوتر الخامس. وككل شغف في مجتمع يعيش على الكفاف ويعتبر فيه الفن ترفا صالحا للأثرياء فقط فإن مالك سيصطدم برفض أمه لهذا الطريق البئيس الذي أودى بالأب. لقي مالك في صراعه مع أمه مساعدة من عمه أمير الذي كان أستاذا له في رحلة تعلمه الصعبة للموسيقى، بما يفرضه هذا التعلم من إخلاص وانضباط وتفان. وكلها خصال كان مالك يتصف بها لأنه وببساطة نذر حياته للموسيقى. تنتهي علاقة مالك بعمه أمير كما انتهت دوما علاقة المريد بالشيخ. تنتهي حين يريد المريد التحليق بجناحيه الخاصين. حين يريد تنشق هواء جديد. حين يريد تلمس أفق أخر لا يحدد مداه الشيخ. وكما اضطر زرياب للابتعاد عن أستاذه إسحاق الموصلي اضطر مالك أيضا للا بتعاد عن استاذه. لن يحقق التلميذ أبدا ذاته في ظل الأستاذ . لن يحقق التلميذ أبدا ذاته في ظل الأستاذ، عليه أن يبتعد مكانيا ونفسيا وإبداعيا عنه ليختبر صوته الجديد. ألم يعتبر جويس في صورة الفنان في شبابه بأن المنفى والابتعاد عن الديار شرط لكل من يريد أن يغير العالم بالدين أو الإبداع أو السياسة. فيلم سلمى بركاش إذن فيلم تعلم : « film d'apprentissage ». بالمكونات الكلاسيكية لأفلام التعلم، غير أنها ولنعترف لها بهذا، تمكنت ومن خلال مستوى ثان من الدلالة في الفيلم من أن تبدع داخل هذا الإطار المستهلك للحبكة فقدمت لنا متواليات بصرية يمكننا اعتبارها مديحا للإبداع سواء كان شعرا أم معمارا أم رسما أم نحتا. وكأنها تقول لنا وعلى لسان الجاحظ بأن " المعاني مطروحة في الطريق" والعبرة بتجويد العبارة وصقلها. يقول نيتشه:" بدون الموسيقى تكون الحياة خطا" ويمكن القول بأنه بدون إبداع تكون الحياة جريمة. فيلم الوتر الخامس هو احتفاء بالإبداع حين ينهل من باقي الفنون سواء كانت شعرا أم رسما، مسرحا أم نحتا. فهو سمفونية عذبة تجعل من الموسيقى محركها الأول ومن باقي الفنون مرجعيات أساسية في الحبكة الدرامية. الفيلم دعوة للسفر في المكان والزمان. يحمل المشاهد رأسا إلى عوالم الفن وما يحفها من صعاب وكل المعاناة التي يعيشها الفنان من أجل إثبات الذات. إثبات لا يستقيم دون إبداع، دون لمسة شخصية، دون وثر خامس. بالنسبة للمخرجة، مسار الفنان واحد سواء كان الفنان زريابا أم مالكا. فالموهبة وحدها لا تكفي، والتعلم وحده لا يكفي وحتى الانتماء لعائلة فنية كما هو الحال بالنسبة للبطل (الأب والعم أستاذان في الموسيقى)، لا يعفي ممّا سبق، ليبقى السفر مرحلة حاسمة في حياة المبدع لتجاوز كل ما تعلم وإبداع أشكال فنية جديدة. سيسافر مالك إذن كما فعل زرياب، هته الشخصية التي شكلت خلفية للبطل منذ البداية . يعالج الفيلم صعوبة العملية الإبداعية وما تحتاجه من تشبع بكل أشكال الفن سواء الأكاديمي أو الشعبي وهو ما سيحققه انتقال البطل إلى مدينة طنجة والانفتاح على أشكال موسيقية جديدة (الغيطة والطبل).
يعالج فيلم الوتر الخامس، والذي يعد أول تجربة سينمائية للمخرجة سلمى بركاش، قضايا كثيرة أهمها صراع الأجيال بين الأم والإبن من جهة وبين مالك والعم من جهة أخرى. إذ يمثل العم الاتجاه المحافظ الذي يرفض التجديد. أما الأم، المعيل الوحيد للعائلة، فلا زالت ترزح تحت وطأة تجربتها مع الزوج الذي مات معدما بسبب الولع بالموسيقى لذا أرادت بكل ما أوتيت من قوة منع مالك من تكرار تجربة أبيه. لكن شخصية الجار كانت دائما حليفا فرغم أن الرجل فشل في تحقيق حلمه كربان طائرة على أرض الواقع إلا أنه بقي محتفظا به في دواخله ولم يتنازل عنه حتى ولو أضحى ربانا لطائرات ورقية. الحلم حق إنساني لا مشروط .
من خلال مقاربة الفيلم لمسار الفنان كموضوعة جديدة، إلى حد ما، في السينما المغربية التي تغلب عليها المواضيع الاجتماعية، حدّدت المخرجة نوعين من المتلقين. الفئة الأولى و تتكون من المتلقي العادي الذي تشكل القصة كبناء درامي هاجسه الأول. وفئة ثانية تتجاوز الحكي لتجعل من الشريط مناسبة للالتقاط كل الإشارات والرموز التي تتخلل العمل. وبما أن موضوع الفيلم كان الموسيقى فقد كان للشعر حيزا مهما بحكم الأصل المشترك. وكان للتشكيل أيضا موضعا في العديد من اللقطات خصوصا في تعاطي الكاميرا مع الأم والصديقة الأجنبية. هته الأخيرة ، جعلت منها المخرجة منحوتة رومانية وهي تلتحف إزارا بعد لقطة حميمية أخذت من الأسفل للأعلى لتبرز جمالية الجسد كموضوع فني بامتياز في النحت و السينما على حد سواء. هو إذن الاحتفاء بالإبداع حين ينهل من باقي الفنون ويجعل منها روافدا له.
وتجدر الإشارة إلى أن زرياب الذي شكل ظلاّ للبطل لم يكن ا لإحالة الوحيدة التي خصت بها المخرجة المبدعيين في الشريط فعبر لقطة بداخل نزل شعبي شهير بمدينة طنجة "فندق الشجرة" استطاعت المخرجة أن تتطرق للكاتب المغربي محمد شكري الذي عاش بطنجة وكتب عنها في أعماله. فكانت زيارة مالك للنزل بمثابة بعث لجزء مهم من فضاءات رواية" الخبز الحافي".في لقطة نرى مالكا يطل من غرفة النزل على مشهد اشتباك بالأيدي بين امرأتين كانت باحة الفندق مسرحا له . يبرز هذا التناص أهمية انخراط المبدع في رحاب التجربة الإنسانية بكل أبعادها وخصوصا بالزخم الذي يتيحه النزول إلى الأسفل في مغامرة الكشف والتعلم. هذا التعلم المجاوز لما هو أكاديمي والمعانق للتفاصيل الدقيقة لما هو إنساني محض في تشابكاته وتعقيداته.
تتقاسم الفيلم ثلاثة فضاءات رئيسية لثلاث مدن مغربية عريقة وهي على التوالي :الصويرةوالدار البيضاء و طنجة . شكلت الصويرة نقطة بداية ونهاية في الشريط بحركة دائرية دامت عشر سنوات .هي مكان اللقاءات المصيرية في حياة مالك( اللقاء الأول مع الجمهور وكذا اللقاء مع الصديقة الأجنبية التي ستربطه بها علاقة حب فيما بعد) . ثم الدارالبيضاء كمكان لإقامة العائلة. هذا الفضاء الذي حاولت المخرجة انتشاله من كليشي المدينة الغول الذي ترسّخ في جل الأعمال السينمائية التي تطرقت للمدينة( كزا نيكرا، كزا باي نايت، الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء..) لتجعل منها مدينة فنون وتاريخ معماري تشكل في مراحل عديدة. وبذلك يكون الوتر الخامس احتفاء ا بالذاكرة البصرية للأمكنة التي قد يتبين المشاهد بعض معالمها العمرانية وقد يغفلها ولكنها حاضرة في الفيلم ولو مرت لمح البصر. هكذا، وبحركة فنية استطاعت الكاميرا أن ترصد حجم الدمار الذي ألحق بمعلمة عمرانية في قلب مدينة الدار البيضاء وهي فندق أبرهام لينكولن الذي خرب دون مراعاة لأهميته التاريخية الكبرى. فهو رمز لمرحلة تاريخية في تطور المدينة وخصوصا فترة الإنزال الأمريكي التي وهبت الدارالبيضاء فيلم Casablanca فالمدينة حينما تسمح لنفسها بموت معلمة كمعلمة أبراهام لينكولن، تسمح بموت بعد من أبعاد نسيجها التاريخي كمدينة متعددة و مفتوحة.
نفس الإشارة ستكون من نصيب معلمة أخرى بمدينة طنجة وهي مسرح سيرفانتيس بكل حمولته الفنية والثقافية في زمن كان فيه ارتياد المسارح وقاعات السينما من الطقوس اليومية لساكنة المدينة. هو الحنين لمرحلة كان فيها الفن في صلب الحياة العامة. وهي دعوة صريحة لإنقاذ هته المعالم التاريخية وهذا الإرث الحضاري من كل الدمار الذي طاله بسبب الإهمال ومافيا العقار التي تتربص بكل شبر وسط المدن الكبرى.
تختزل الأمكنة التي اختارتها المخرجة تاريخا من التعايش والتلاحق بين الحضارات بكل مكوناتها خصوصا المكون الأندلسي والذي كان له النصيب الأوفر سواء من حيث الموسيقى أو الزخرفة في مواضع عديدة كمنزل العم والمعهد الموسيقي. الأندلس كانت حاضرة أيضا عبر الأصل الإسباني لصديقة مالك أو من خلال العرّافة الغجرية التي كانت أول من التقاه البطل عند وصوله لمدينة طنجة. وهي لقطة من نسج خيال المخرجة في محاولة لإبراز التعددية الثقافية للمدينة وتجاوز الكيلوميترات القليلة التي تفصل مدينة البوغاز عن إ سبانيا وا سترجاعا لما عرفه المكان من نزوح للأ ندلسيين بعد سقوط غرناطة في أواخر القرن الخامس عشر.
في الأخير، يمكن القول بأن فيلم الوتر الخامس للمخرجة سلمى بركاش، يحتفي بآلة موسيقية عربية كانت صناعتها حصيلة للتداخل الحضاري الذي عاشته الثقافة العربية الإسلامية في العصر العباسي. فالعود ورث عدة آلات وترية شامية و فارسية و مصرية و رومية و اعتبر تطويرا لها جميعها. هو رمز حضاري للمثاقفة بمعناها الخلاق. تمكن زرياب من أن يضيف وترا خامسا للعود لأن زرياب وضع في سياق تثاقف آخر بالأندلس دعي فيه العود لتمديد مساحته المقامية والنبرية ليوائم الأشكال الموسيقية المعقدة القائمة بالأندلس. هذه الأشكال المرتبطة بشعر تطور حتى بلغ تعقيد الموشحات. فانتقال زرياب في الجغرافيا كان ايضا انتقالا موسيقيا. فالموسيقى هي روح العالم، وهذه الروح لها مورفلوجيا تناظر مورفلوجية الأرض. لذا، وبالتفاتة ذكية جعلت المخرج عود مالك و الموسيقى المحيطة به تنفتح تدريجيا على أشكال موسيقية أخرى (موسيقى كناوة) وآلات موسيقية أخرى (القيثارة) في إشارة إلى أن الموسيقى فن منفتح في جوهره. وأنها دوماً في حركة دؤوبة للإنصات للأصوات القادمة من كل تخوم اللحن و الإيقاع و المقام. فكان المشهد الأخير في الفيلم الذي امتزجت فيه الآلات و الإيقاعات القادمة من هنا و هناك دليلاً على إمكانية تعايش الثقافات المختلفة في بلد ضل على الدوام منفتحا على العالم.