بعد أن يتلاشى الضوء في ظلمة الليل الدامس ، ساعة بعد صلاة العشاء ، يخيم الهدوء على قريتنا ، ما عدا حركة بعض الحشرات التي تلف على أعمدة الضوء الخشبية ، واحد قبالة باب القرية ،حيث ينزوي السي المكي ‘ داخل جلبابه النتن ،و ثان قبيل المسجد ،وثالث يطل بضيائه على مقر الجمعية النصف مغطى و يبعث أشعته إلى المقبرة لينفث وحشة السكون السمج و يطرد خيالات العالم السفلي عن حارسها التهامي ، قبل أن تستسلم هي الأخرى لأفيون الليل البهيم عند حدود الساعة الثانية ليلا ، ساعتئذ أجدني وحيدا أتمطط على حسير ردئ الأعواد، من فوقه "بحطيط" مطرز بأوبار الغنم . تساورني أوهام كثيرة ، أتخيل الملاءة من فوقي تطير مستسلمة لأشباح الظلام . آه كيف للنوم أن يخدر جفون عيني؟,و أنى للسنان أن يغشاني؟ ، فالكل من حولي قد غط في السهاد ،حتى الحيطان لم تعد تسمع لهلوساتي و عذباتي ،والهواء المتدفق من الكوة توفق عن التموج و التهادي ،أوهم نفسي بأن لي رغبة في معانقة الكرى،فيخيل إلي سربروس بأفواهه الثلاثة يحاول أن يلتف حول جسدي المحطم الصموت ،يتحلل جسدي حينها دون رغبة في الحركة ، أقاوم الكابوس ،أهمهم ،أدندن ،أغرد في صمت كالقمرية على فرع غصنها المياد ، لكن الظىلام يخيل إلى من جديد يتكوم في صورة أشباح تظهر ثم تختفي في خفة البرق ، تحسست جسدي المنهاك ،ألفيت العرق في خفقان و صبب دائمين ، وددت عبثا أن أخلق لنفسي عالما آخر بعيدا عن وحشة الليل وغياهبه اللاهسة ،فتذكرت نفسي داخل حجرة الدرس أستاذا أكاديميا أحاول أن أزيح الغبش عن تجربة الغربة و الضياع في الشعر الحديث ،الشوق والاعتزاز بالشاعر الحديث يخلبني ، لكن الصمت أطبق مخالبه على مخيلتي مرة ثانية . فجأة اخترقت سمعي طقطقة آتية من تحت الوسادة ،حمحمت و همهمت لكي أتفادى ذلك الصوت ،لكنه يشبه دبيب الحلزون، يسير في نغم غير منقطع ، اجتاحني وقتها إحساس غريب أصبحت حياله كطفل هرع بل فزع من مواء قط لم يلحظه قط، كادت عيني أن تدرف الدمع ،تمالكت نفسي قليلا ،حاولت أن أجمع قواي من جديد ،تذكرت جدتي في ثوب شهرزاد ،جالسة على مصطبة الباب ،تكسر نواة التمر أطرافا صغيرة لتكون سائغة للخراف و هي تحكي لنا قصة يمتزج فيها الجد بالهزل و الخيال بالواقع ، "يا أبنائي إن أناسا يعيشون في عالم لا تعرفون عنه إلا القليل يساعدوننا على تربية الخراف قبيل العيد فلا تتفاجؤا حينها بأصوات قد تملأ مسامعكم ليلا" ... اللعنة ، هل اقترب العيد ، لم يساعدوننا قبل الأوان ؟ وعلى حين غرة أخذ السهاد يراودني ، كان ذلك وقت السحر ،لكن وقع الخطى أيقظني على التو ،كانت أمي قد أحضرت آنذاك مرجلا به ماء ساخن بغية الوضوء ، نادتني من الكوة : يا بني قم لتتوضأ فتصلي ، الماء خلف الباب ..." ، كان وقع كلامها كما لو أن ذبابة حطت على جبيني فطردتها بعيدا ، ذهبت في غطيط ، فجأة رن الهاتف ، نظرت إلى الساعة وجدت عقاربها تشير إلى العاشرة صباحا، ابتسمت قليلا على امتعاض ونهضت توا من الملاءة...