يسوق شاحنته بهدوء تام عبر طريق رئيسية تربط بين مدينتين، كان في كل مرة يدخن سيجارة ليتخلص بها من الشرود الذي كان ينتابه كل حين، تارة يستمع إلى صوت المحرك المزعج وتارة أخرى يثيره أمر ما في الطريق، كان يسير بسرعة معقولة وهادئة كعادته، وبينما عجلات الشاحنة تدور كالرحى، كان يتأمل جمال الطبيعة المحيطة به. فجأة تبدى أمام عينيه جسد طفلة في مقتبل العمر على حافة الطريق، تشير إليه بأصبعها طلبا في أن يقلها معه. ورغبة منه في أنيس يبدد معه وحشة الطريق، توقف وأركبها معه. كانت وسيمة مبتسمة وهي تسلم عليه، ملتمسة منه أن يوصلها إلى المدينة القريبة المقبلة في رحلته، ودون تردد يدوس على عجلة المحرك، وهو في سيره تجاذب أطراف الحديث مع الطفلة الصغيرة النحيلة ذات العينين الذابلتين وشعر أسود قصير ينسدل على كتفيها فوق كنزة زرقاء و تنورة طويلة، بعدما قدمت نفسها باسم سهاد ابنة تلك المدينة، ساردة أنها خرجت منذ صباح ذلك اليوم لقضاء بعض حاجيات المنزل في إحدى الضواحي، لكنها ضلت الطريق وفقدت ما كان بحوزتها من نقود العودة إلى المنزل، لذلك اضطرت إلى ” الأطوسطوب”، ثم أنهت حديثها بالثناء عليه وشكرته كثيرا على جميله، بعدما كادت أن تفقد الأمل في الرجوع، خاصة وأن العديد من السائقين لم يأبهوا بها وهي تشير بأصبعها لهم. وهي تلاطفه في الحديث حدثته عن بعض من حياتها، كتلميذة مازالت تدرس بالإعدادية، فكان حديثها معه تلقائيا و مؤدبا جعلت السائق يعجب بها كثيرا، مازالت صغيرة تبدو في سن الحادية عشر تقريبا وتتكلم كأنها شابة في عقدها الثاني، أحس بغبطة وأنس أنسياه ضجيج المحرك المزعج الذي غالبا ما كان يصيبه بصداع نصفي. دخل المدينة الصغيرة الهادئة بشاحنته، كانت نهاية الرحلة بالنسبة للطفلة سهاد، حيث ودعته بحرارة شاكرة إياه على لطفه، و قبل أن تغادره دعته لزيارة أسرتها وتعرفه بأهلها لكنه اعتذر بلباقة، واعدا إياها أنه سيزورها حين تسمح له الظروف بذلك. ودعها وهو يعيد تفاصيل هذه الرحلة وقد وضع العنوان في محفظة جيبه، مستغربا في الوقت ذاته من أمر فطنتها وطريقة كلامها. هاهو مرة أخرى يسير وحيدا وشاحنته، حتى وصل إلى منزله فحفه صغاره بالفرحة وهم يفتشون قفته عساهم يجدون فيها ما لذ من أنواع الشكولاتة والحلوى، التي يجلبها معه كعادته كلما عاد من سفر، حكى لهم أمر هذه الفتاة الصغيرة التي لم يغب طيفها عن مخيلته قط. مرت عدة أسابيع على لقائه هذا، دون أن يعود إلى ذكراه طيف الطفلة الصغيرة سهاد، حتى جاء ذلك اليوم الذي رجع فيه إلى تلك المدينة المذكورة، حيث قضى يومه في العمل بين شحن ونقل وتفريغ، حتى أنهكه التعب في المساء، فأراد أن يعيد لنفسه بعضا من الراحة محتسيا قهوته المفضلة مدخنا سيجارته بإحدى المقاهي. غير أن شيئا ما راج بخلده فتذكر الصبية سهاد، وتذكر وعده لها بزيارته لها فتملكه إحساس غريب وهو يسير في اتجاه عنوان بيتها، متتبعا تلك الإشارات التي حددتها له سهاد بوصفها الدقيق. طرق الباب دقات خفيفة، فلاحظ به جرسا ثم ضغط عليه وانتظر قليلا، حتى سمع صوت أقدام آتية من الداخل، ثم انفتح الباب وظهر من ورائه رجل مكتنز بعض الشيء يبدو على محياه علامات الوقار. مازال في عقده الرابع؛ سلم عليه وعرفه بنفسه ثم قص عليه القصة كاملة مستفسرا إياه عن سهاد وعن حالها بكل تلقائية وعفوية. غير أن ردة فعل الرجل جاءت غريبة بعدما أكد له أنه يجهل الموضوع برمته، بل ظهرت على وجهه علامات من الدهشة والحيرة مقرونة ببعض من الارتباك، حتى ارتعدت فرائصه وامتقع وجهه وكاد يسقط مغشيا عليه، فأمسك به السائق ظنا منه بأن في الأمر التباسا أو سوء فهم أو ربما أخطأ العنوان. أسنده بيد وأخذ يطرق الباب باليد الأخرى بعصبية شديدة، حتى هرعت عبر البهو امرأة شابة، لتساعد زوجها المتكئ على الزائر الغريب وإدخاله إلى المنزل. وبعدما سمعت تفاصيل القصة انتابها شعور ممزوج بالدهشة والحزن والأسى، خاصة أن ما وقع للسائق لم يمر عليه سوى أسابيع قليلة، بل أكثر من هذا، حين وصف الصبية وابتسامتها ولباسها وطريقة كلامها.. جعل الأمر مذهلا بجميع المقاييس، انتاب السائق أيضا حين تعرف على سهاد وسط مجموعة من أصدقاء المدرسة في صورة تذكارية من ألبوم صورها وهي تبتسم، بل إن هذا الشعور تضاعف حين تساءل عن سبب الإغماءة التي كادت تصيب الرجل، الذي وضح له أن ابنته الصغيرة سهاد، لقيت حتفها منذ سنوات قليلة، بعدما داستها عجلات شاحنة ذات صباح باكر من صباحات خريف مضى، وهي تعبر الطريق فأرداها جثة هامدة في الحين.