يقيم قاسم بحي جامعي يتكون من خمس عمارات قديمة البنيان ، موزعة على ثلاثة منها تنتصب يمينا وعمارتين يسار الزائر، إزاءها شيدت قاعة لعرض الأشرطة السينمائية وقاعة للألعاب ومقصف وقاعة للرياضة تحاذيها قاعة صغيرة حيث تعمل بعض الأطر الرياضية ومستودع للأمتعة واللوازم الرياضية وبشمال العمارتين تتواجد ثلاث قاعات من البناء المفكك خصصت مطاعم للطلبة..تتوسط الحي ساحة شاسعة معبدة بالزفت المعدني ، يتوسطها ملعب للكرة المصغرة وبطرفيها نصبت أعمدة لكرة السلة والكرة الطائرة،وبطرفها المنتهي غربا تنتصب إدارة الحي الجامعي خلفها ملعب لكرة القدم وبجانبيها قاعتين للمطالعة ومحلين لبيع تذاكر دخول المطعم، يحيط المؤسسة سور عادي متوسط العلو. كان المجمع برمته ثكنة عسكرية في عهد الاحتلال الفرنسي، تجاورها بنايات أخرى لازالت تخصص لنفس الغرض بعد الاستقلال، تسمع منها يوميا أناشيد وحركات مدوية للجنود والمتمرنين، لا يفصلها عن أمواج المحيط الأطلسي إلا مسافة قصيرة قد لا تتعدى خمسمائة مترا. أصوات الجنود، رائحة البحر و ذوي الأمواج تجعل المقيم لأول وهلة يتمالكه الهلع والرغبة في تغيير المكان كالخائف من الوقوع من حافة البحر. "" كان اليوم جمعة، تناول قاسم وجبة الغذاء بالمطعم فجمع أمتاعه المتواضعة في كيس من قماش، متأبطا بعض الأغطية وما تبقى من كتب ودفاتر رثة،ثم خرج بخفة دون توديع أحد..بدت له بوابة الحي الجامعي الخشبية لأول مرة على واكبر مما ألف طيلة مدة إقامته بهذا الحي،تذكر آلاف المرات التي مر عبرها غاديا أو رائحا ، تذكر كيف كان يغيظه تدخل حراس البوابة للإدلاء ببطاقة السكن،كانت هذه العادة الرتيبة تتكرر كل يوم مما جعل بعض الطلبة يشبهون البوابة بمعبر من معابر الأراضي المحتلة حسب تعبير أحد اليساريين المدمن على مشاكسة إدارة الحي الجامعي. كان الجو صيفيا ذا شمس محرقة تزيدها رطوبة المدينة حرارة، و وكان على قاسم الإسراع لإدراك الحافلة الوحيدة التي تمر بعد الزوال،وإلا سيجبره العوز على تأجيل الرحيل إلى اليوم الموالي.أسرع في الخطو في محاولة لبلوغ نقطة وقوف الحافلة قبل الموعد .بلغ المكان منهكا وشعر بقطرات من العرق بإبطه ،توقف وهو يزفر أنفاسه للاستراحة من ثقل الأمتعة وعناء السير. نبهه أحد الواقفين الذي فطن أمره إلى أن الحافلة قد مرت مكتظة دون أن تتوقف ، انتبه إلى طالب آخر يقف شماله لمسافة تناهز عشرة أمتار، طالب يحمل بدوره أغراضا في كيس من قماش، نظر إليه خلسة، تساءل عن القدر الذي زاوج بينهما، طالب يشبهه في كل شيء: في نحافته وقصر قامته وشحوب محياه بالإضافة إلى الأمتعة التي يتأبطها، تساءل في قرار نفسه: " ربما يقاسمني نفس الهواجس التي تراودني الآن"، فكر في التقرب منه ومفاتحته لكنه ذعر من استدارة الطالب الذي بادله نفس التأمل وربما نفس الإحساس؟ حمل قاسم أمتاعه من جديد فقفل عائدا أدراجه بمساعدة مقيم آخر بالحي على حمل الأمتعة. ولج مرة أخرى البوابة العملاقة للحي بعد أن هرع مساعده إلى حافلة النقل رقم 11 ، هذه الحافلة التي ناذرا ما تصل في موعدها المحدد، و التي تعود القاطنون على تأخرها منذ إحداث هذا الخط، ولعل وسيلة المشي على الأقدام التي أجمع الطلبة على تسميتها بأسلوب السير على *11* تحمل معناها الدلالي في تأخرها في الوصول. عبر بوابة الحي دون اكتراث بنداء الحارس، شعر كأن الحارس ينازعه ملكية المكان، تراجع الحارس متنازلا إلى *محل المراقبة* مزمجرا ربما بعد تأكده عن بعد من هوية هذا الطالب *العاق*. تابع قاسم الخطوات دون اكتراث، شعر كالمحكوم عليه بالمؤبد، هذا المكان أصبح يشده بقوة كأنه يجذبه للإقامة أبد الدهر،أو ليصبح شأنه شأن بعض الطلبة الذين هرموا بهذا الحي،طلبة يؤرق تواجدهم بالحي منذ سنوات طويلة بال جل الطلبة القاطنين، ومنهم من تجاوز سن الأربعين ، يبدون للوافد كمجموعة من حكماء أو فلاسفة الإغريق عزلوا بقلعة من قلاع المدينة؛ طلبة هرموا وشاخت أفكارهم التي لم تعد تجد صداها بالحي الجامعي، منهم طالب يعتبره المقيمون مؤرخ الحياة الجامعية، يفتخر بحضوره أشغال المؤتمر السابع عشر لنقابة الطلبة، آخر يعتبر نفسه ناطقا رسميا *لفصيل كذا*، ذاك يروج عنه أنه كان مناضلا راديكاليا وحبس على ذمة التحقيق لكونه يحمل في نظر الإدارة أفكارا متطرفة، وآخر حكم عليه رجال الاستعلامات باعتزال الحقل النقابي مقابل إنهاء دراساته المعمقة، فلان غير الشعبة أكثر من مرة ليضمن تواجده بالحي ويحافظ على تمثيلية تنظيمه السياسي بالجامعة؟ ومن الطلبة من لا يحمل إلا الصفة لاشتغاله في مصالح الاستعلامات . انتفض قاسم عندما تذكر مصير الطرد الذي ينتظره بعد إعلان النتائج ؛ فأثارته لأول مرة لحظة بلوغ قاعة الإقامة رائحة الرطوبة المفرطة الملتصقة بجسده وملابسه، فكر في الاستحمام لكنه غير الفكرة برغبة تدخين سيجارة بالمقصف الجامعي الغاص بالطلبة والطالبات،استحسن الفكرة فنزل للتو دون ترتيب الكتب وفك أحزمة الأغطية. إزاء المقصف الجامعي صادف رفيقه حسن مسرعا كعادته في الخطوات اتجاه عمارة إقامة طلبة شعبة الاقتصاد، تبادلا التحية من بعيد، لكن حاجتهما للآخر اضطرتهما للتوقف والدخول سويا لارتشاف كأس شاي أو بن بالمقصف. حمل فنجان قهوة وتمدد على الأريكة، يرشف الكوب تارة و يراقب حركات الطلبة والطالبات تارة أخرى منتظرا عودة حسن الذي انشغل بالبحث عن سيجارة لدى البائع *عبدو*، ناداه بعصبية للجلوس فتسلم منه (الدوص)المصطلح الذي يتفق عليه المدخنون من الطلبة والذي يعتبره بعض القاطنين عربون الإيثار والعلاقة *الرفاقية* السائدة بالحرم الجامعي.بادره حسن بالسؤال عن تاريخ إعلان نتائج الامتحانات النهائية للسنة الثانية شعبة فيزياء-كيمياء، مستحضرا في خضم سؤاله تجربة السنة الماضية التي شهدت نسبة نجاح ضعيفة بالدورتين: الأولى والثانية على السواء.شعر قاسم بالإحراج فحاول تغيير الحوار بالتطرق إلى وضعية الساحة الجامعية وما تشهده من مقارعات نظرية وتناطح للتيارات السياسية والإيديولوجية وكيف تحولت الهيمنة إلى الحركات الإسلامية لاسيما في صفوف طلبة الشعب العلمية وكلية الطب والصيدلة، حاول عبثا تبرير هذه الهيمنة بانغلاق هؤلاء بحكم انشغالهم الدائم بالحفظ والتحصيل، وندرة الوقت الكافي للاطلاع على باقي العلوم الاجتماعية وكتب كارل ماركس وانجلز ولينين والمهدي عامل وغيرهم من المفكرين اليساريين.وجد في هذا الحوار ملاذا ونشوة لا توصف، بالغ في التحليل والكلام بثقة زائدة ، يبتلع بعمق دخان السيجارة وينفثها بهدوء وتركيز كلما أنهى نسقا من انساق أفكاره . حسن جالس أمامه غير مهتم بهذا الإطناب في التحليل وغير مكترث عموما بطبيعته بما يجري من الأمور النقابية والسياسية، تابع قاسم استرساله في التحليل المجاني كأحمق يخاطب خلوته، إلى أن أخذه شرود ذهنه من جديد فصمت. غاص بتفكير في أفقه المسدود في المصير الذي ينتظره بعد نهاية مشواره الجامعي ، سيصبح لا محالة من المحرومين من حق متابعة الدروس الجامعية وحتما سيفقد حق الإقامة بهذا الحي وبالتالي سيرحل مكرها إلى مسقط رأسه، حيث تنتظره ويلات وسطه الأسري ، تذكر مراحله الدراسية السابقة التي تميز فيها بالنبوغ والتفوق على أقرانه،وكيف كان محط إعجاب الجيران في التربية والاجتهاد.تأمل ما بقي عالقا بالسيجارة،أطفأ ما تبقى منها بعصبية ولازال يعتبرها رمزا لفساد الخلق والخروج عن الطريق الصحيح وفق أعراف الأهل والمجتمع، هذه السيجارة التي كان يمقتها في صباه أصبحت اليوم قدرا لعينا تربطه ارتباطا كاثوليكيا ، يدمن على تناولها بشراهة صباح مساء دون علم أحد من أفراد أسرته. تساءل :"أين سأعود؟أين سأفر من نظرات أبي وتربص أخي الذي ربما سيجد المبرر الكافي للتمادي في إذلالي ؟كم من المال استهلكت هدرا طيلة مدة إقامتي بالحي الجامعي ؟" شعر بقشعريرة تسري بجسمه وبرغبة في الإجهاش بالبكاء، تمالك نفسه وتشجع فبادر رفيقه حسن بالصراحة: - تعلم يا حسن بأنني أقضي معك آخر يوم من أيامي الدراسية، اليوم كنت على وشك المغادرة لكن تأخري في الوصول إلى الحافلة كان سببا في إضافتي لهذا اليوم بالحي الجامعي. أجابه حسن باستغراب: - لكن لماذا ستغادر والنتائج لم تعلن بعد؟ تدارك قاسم نفسه قائلا: - نتائجي ستكون لا محالة سلبية في جميع المواد دون استثناء،كنت أراهن على مادة الفيزياء لكن بدورها ستكون مخيبة للأمل. أجابه حسن في محاولة لإزالة القلق: - من أعلمك بالأمر، عليك الانتظار أولا قبل الإقدام على هذا الرحيل المفاجئ؟ حدق إليه والدموع ملء مقلتيه: ]- صدقني يا رفيقي،لن أتوفق هذه السنة،وبالتالي سيكون مصيري الطرد، علي التعجيل بالرحيل، لا أستطيع تحمل يوم إضافي والإقامة بهذا *الإسطبل* عفوا أقصد الحي الجامعي،لقد فكرت مليا قبل اتخاذي هذا القرار، سأعود إلى البادية رغم ما ينتظرني هناك من ويلات. ابتسم حسن كعادته فأرغمه على اصطحابه إلى غرفة الإقامة لإنهاء الحديث. لما بلغا الاثنان الغرفة وجد رفيقهما الثالث محمد منهمكا في ارتشاف ما تبقى من إكسير الحياة ومداعبا دوائر الدخان المنبعثة من سيجارته،طلبهما على التو لمشاركته الجلسة ،اعتذر قاسم لكن حسن استحسن الطلب وجلس القرفصاء فتناول سيجارة من العلبة الممتدة فوق الطاولة دون استئذان.ربما وجد حسن هذه الجلسة مفرا للتخلص من رفيقه قاسم ومن شكواه فباغته بجرأة زائدة قائلا:- شاركنا هذه اللحظة أو انصرف لا فائدة منك، قضيت أربعة سنوات عبوسا مشتكيا، لست الوحيد بهذا الحي الذي يعاني من الأحوال المزرية،إذا ضاعت منك فرصة النجاح هذه السنة فانتظر السنة المقبلة، مادام أمل إرجاع المطرودين قائمة.، وإذا افترضنا أنك نلت الشهادة الجامعية، فما عسا أنت فاعل بعد تخرجك. أنظر إلى الدكاترة المعطلين، هم أفواج تعتصم باستمرار أمام مجلس النواب ويتعرضون يوميا لبطش رجال الأمن؟ تدخل محمد لتلطيف الجو وخلق نوع من البهجة بين الاثنين برقصة على إيقاع موسيقى شرقية مترنما بمقطم سيدة الطرب العربي:" اسقيني واشرب على أطلاله، طالما الدمع رواء....".لم يجد أحمد ذريعة للاعتذار عن المشاركة، ولما لا؟ مادامت هذه الجلسة بالمجان.مد يده دون تردد إلى حبات عباد الشمس والكاكاو الممزوج بالحمص ،تناول علبة السجائر وشرع مع الاثنين في إحياء هذه الأمسية المحكومة غدا بالزوال. بدأ الليل يسدل ستاره على الحي الجامعي، تطلع قاسم من شرفة الغرفة ثملا،بدت له الساحة جميلة ومغرية بأضوائها الباهتة وحركات الطالبات المتجهات إلى المقصف والمطعم،شعر برغبة في الأكل لكنه ذعر من عدم توفره على تذكرة دخول المطعم، فكر في حمل المفاتيح وقرعها في حركة تعودها طلبة الأحياء والمعاهد الجامعية في إشارة للحصول على تذكرة الولوج،فكر في استئذان رفيقيه في الخروج لكن تخوفه من ردة فعل حسن الذي يتحول إلى نمر شرس بفعل سريان الكحول في عروقه دفعه للتفكير في وسيلة للانسلال دون إثارة الانتباه، تظاهر بالشعور بحالة الغثيان والرغبة في التقيؤ، قهقه حسن ومحمد عاليا بتهكم وافتخارهما بقدرة الصمود ومقاومة أثر الكحول، وجد قاسم في غباوة تقديرهما مخرجا، فهرول مسرعا باحثا عن ابن بلدته المكي ليضمن منه بعض النقود لولوج قاعة الأكل قبل فوات الأوان . وقف بالساحة يقرع المفاتيح لمدة تزيد عن نصف الساعة دون جدوى، اليوم جمعة يكثر فيه الطلب على اقتناء تذاكر المطعم، بل من الطلبة من يوفر تذكرة إضافية للحصول على طعام إضافي يكفيه ليومي السبت والأحد حيث يكون العمل بالمطعم معطلا ،كان على وشك قبول عرض أحد الطلبة الذي تعاطف مع حالته وحاول استضافته لمشاركته حصته في العشاء لكن أنفته ورغبته في الأكل بنهم وكذا رائحة الطعام المنبعثة من قاعة المطعم التي أسالت لعابه دفعته ليواصل عقد الأمل على قرع المفاتيح. تقدمت منه طالبة شقراء، قصيرة القامة،دائرية المحيى، حسناء ترتدي هنداما ورديا جذابا تفوح منها رائحة عطر زكية،تساءل؟ هل هو إعجابها أم إشفاقها الذي دفعها لاختياره من بين قارعي المفاتيح، ارتجفت ركبتاه وازدادت ملامحه شحوبا كلما اقتربت خطواتها ، حاول التركيز ربما لانتقاء عبارات تليق بهذا المقام، تلعثم بكلمات صغيرة محتشمة ولغة فرنسية هي مزيج ببعض الكلمات الدارجة.وقفت أمامه بإشفاق زائد تتفحص عبثا ملفاتها بحثا عن التذكرة، خاطبته برفق: - بقي لديك أمل وحيد، انتظرني سأعود إلى العمارة للبحث بالمحفظة. وقف على أحر من الجمر في انتظار عودة الفتاة التي أنسته جوعه ورغبته في الأكل ، تمنى لو وقفت بجواره دهرا من الزمن،فتاة جميلة أنيقة تشعره برغبة في الحياة، تمنى لو عادت مرحلته الجامعية سنوات أخرى إلى الوراء ليبدأ كل محاولاته في الدرس والتحصيل من جديد، وضمان الاستمرارية بهذا الحي وكسب ود هذه الفتاة ولما صداقتها؛ فتاة أشعلت بداخله فتيل حواسه الراكدة ، تأمل حذاءه الرث وهندامه المتواضع فنفر من عفونته ورائحة جسده، فكر في الانسحاب والاختفاء عن أنظار الفتاة ، قدماه جمدتا إلى الأرض شعر برغبة التبول لكنه قاوم في انتظار عودة هذه *الجنية*من العمارة.عادت الفتاة بانشراح كأنها عثرت على بلسم لمداواة مريض لسعته عقرب،ابتسمت ببراءة فخاطبته بجرأة:- كنت على وشك النوم هذه الليلة دون تناول وجبة العشاء. ذعر، فتصور نفسه ضعيفا أكثر مما سبق ،تصور نفسه من شخصيات بؤساء *فيكتور هيغو*.استطردت في الكلام : - كيف ما كانت الأحوال كنت أفكر في حالة عدم عثوري على التذكرة في اصطحابك معي لمشاركتي وجبتي بالمطعم. شعر بالدفء والبهجة.عبارتها الأخيرة زرعت بداخله الأمل والإحساس بكينونته ، تفحص جيبه الملئ ثقوبا باحثا عن النقود فمدها بمبلغ2.40 درهم ،أجابته بعنف: - لست في حاجة الآن، إلى اللقاء. تحركت بسرعة في اتجاه صديقاتها المنتظرات، نفر من نظراتهن إليه، تابعها محدقا وجاحظا عينيه ، تمنى بصدق لو أنها فقدت فعلا التذكرة لمرافقتها جنبا إلى جنب إلى جنب، إلى المطعم والجلوس بجانب أو على الأقل إزاءها ، التفت من جديد إلى هندامه وعفونته فطرد هواجسه ليعود إلى رشده الذي كاد أن يفقده مع هذه *الجنية*. صعد إلى العمارة يبحث عن حسن لاصطحابه إلى المطعم، وجده ثملا ملقى على سرير النوم، حاول إيقاظه لكن أمام إصرار حسن على الاستلقاء خرج وحيدا لسد الرمق. انتظر طويلا بالطابور، يطيل عبثا عنقه يمنة ويسارا ويرنو في محاولة لرصد مكان وقوف الفتاة الشقراء وصديقاتها، لقد اختفت هذه *الحورية* عن الأنظار وسط هذه الضوضاء التي تحيط القاعات الثلاث للمطعم. الطلبة في اصطفاف وانتظام،لا أحد يجرأ على تجاوز الطابور،لا فرق هنا بين الجنسين، فتيات بلباس عصري و أخريات محتجبات مجبرات على اختلاط الذكور، الطابور يسير كسلسلة متصلة الحلقات في اتجاه باب المطعم،من الجهة الأخرى للقاعة طلبة يخرجون بعد الانتهاء من وجبة الطعام بمرح وانشراح في اتجاه المقصف المجاور، بعضهم يمسك بأسنانه عود الأراك وآخرون ينفثون دخان السجائر من أنوفهم عاليا ، تصور الطابور والمطعم كآلة حصاد بطيئة تدخل بأحشائها أكياسا فارغة وتنفثها مليئة. ولج القاعة حاملا وجبته المتكونة من الحساء والمرق والبطاطس والبيض والفاكهة،انتقى طاولة فجلس غير مكترث بأكوام بقايا الخبز والأكل المتراكمة بالطاولة، بعد الغسيل وتجفيف يديه بمنديل مشترك معلق فوق صنبور، شرع في تقطيع أطراف البيض ومزجها بالحساء، أكل بنهم تناول الفاكهة ونقل الصحن ومعدات الأكل إلى مكان الغسيل، ناول العون المكلف بغسل الأواني بديلة الائتمان، جفف يديه فخرج مسرعا في اتجاه المقصف الجامعي. قبل خلوده للنوم بقليل سمع شعارات مدوية قادم صوتها من العمارات الأخرى شعارات يرددها الطلبة جماعة، خرج بجرأة ليسأل عن الأسباب فوجد حركات غير عادية لطلبة يهرعون من قاعات النوم المجاورة.التحق بالجموع المتجمهرة بالساحة، بدأ الطلبة يتقاطرون ذكورا وإناثا في شكل حلقة دائرية يزيد قطرها عن عشرين مترا، يتوسطها بعض الطلبة والطالبات على أكتافهم شالات كوفية بيضاء مزركشة بألوان سوداء أو حمراء،بين شعار وشعار يرفعن أيديهن بإشارات النصر فيصمت الجميع، ثم تستأنف الشعارات.وقف قاسم يترقب من مسير الحلقية شرح أسباب تنظيم هذه التظاهرة،أخذ المسير الكلمة بعد أن استنفدت شعارات النداء دورها فشرع في شرح الأوضاع المزرية التي يعيشها الطلبة بأسلوب سلس ورنان يدغدغ المشاعر.بعد كلمة المسير تقدم الزعيم في خيلاء وتبختر مخاطبا الحضور: - أيتها الرفيقات أيها الرفاق،تعلمون الأوضاع المزرية التي أصبحت تعيشها الحركة الطلابية عموما، هذه الأوضاع التي نربطها بطبيعة النظام السائد الذي أصبح رهينة بيد سياسة التقويم الهيكلي التي تجهز على جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هذه السياسة المملاة طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.وما الجسم الطلابي إلا حقلا من حقول فرض هذه السياسة المتجلية أساسا في الإصلاح الجامعي.إننا من موقعنا بهذا الحي الجامعي مطالبين كسائر مناضلي الحركة الطلابية بباقي الأحياء والمعاهد والكليات الجامعية بضرورة التصدي لهذه السياسة بكل ما نملك من وحدة وتضامن وابتكار أساليب جديدة لتصليب عود المنظمة التي ننضوي تحتها في إطار جماهيري ديمقراطي شعبي وتقدمي، هذه المبادئ الأربعة الأساسية التي ننطلق منها والتي تنتفي في النظام السائد بهذا الوطن.اللائحة طويلة لشهدائنا الذين سقطوا بساحات النضال وبغياهب المعتقلات و السجون السرية منها والعلنية....... دغدغت المشاعر وتغلغل الخطاب بعمق فحرك أحاسيس المحملقين ورفعت شعارات رنانة أخرى ضد النظام الحاكم والأجهزة والأدوات التشريعية والتنفيذية، قاسم كسائر الطلبة الواقفين انخرط في هذه الموجة الغاضبة يردد بكل ما يملك من جرأة وقوة صادحا بأعلى صوته ومترنما بالشعارات التي يحفظها الطلبة عن ظهر قلب، فكر في تسجيل اسمه لأخذ الكلمة تردد خوفا من ضعف التحليل وتواضع درايته بالعمل السياسي والنقابي إذا قورن بالمتدخلين،غير الفكرة بالاحتفاظ بحق التعقيب أو التساؤل أو أخذ نقطة نظام. أنهى الزعيم خطبته فتناول المسير الكلمة حاملا قلما وورقة فشرع في تسجيل أرقام الراغبين في التدخل على أساس احترام أبجديات النقاش داعيا إلى ضرورة إصدار بيان فور إنهاء هذا التجمع الجماهير،حصر لائحة المتدخلين فشرع في مناداة كل متدخل حسب الرقم الترتيبي: - المتدخل رقم:1 طالب أشقر اللون يكسو رأسه ووجهه شعر كثيف يضع شالا كوفيا أحمر على كتفه، تقدم ببطء وسط الحلقة فشرع في إلقاء تدخله: أيتها الرفيقات أيها الرفاق نحن كفصيل من الفصائل الخمسة للحركة الطلابية مواقفنا ثابتة اتجاه هذا النظام الذي نعتبره رجعيا لا وطني لا ديمقراطي لا شعبي، نظام نعتبره تبعيا لقوى الاستعمار الجديد لا يملك قراره السياسي ،لذا يجب التكتل في إطار منظمتنا العتيدة وخوض سلسلة من النضالات الجماهيرية بالحرم الجامعي وأن نعلن تضامنا مع كل الأشكال النضالية التقدمية الممتدة خارج أسوار الجامعة ومع جميع حركات التحرر العالمية. لا أريد أن يكون نضالنا ذو طبيعة خبزية أو إصلاحية إننا نتوق إلى التغيير الجذري لهذا النظام وما وقفتنا اليوم هذه إلا محطة صغيرة من المحطات التاريخية التي تراكمها الحركة الطلابية وحركات التحرر العالمية..... اختلط الأمر على قاسم، حاول فك شفرة هذا التدخل تساءل في قرار نفسه:لما أنا واقف هنا ما ذا يريد هؤلاء المجانين؟ هل يستطيعون انتزاع حقي في متابعة دراستي الجامعية بعد الرسوب؟هل سيتحملون نفقة إقامتي بهذا الحي السنة المقبلة؟ فكر في الانصراف بعد سريان قسط من الرتابة والملل بالحلقة إلا أن استرسال المسير في مناداة الرقم الموالي شغله عن رغبته خاصة والمتدخل طالبة. - المتدخل رقم:2 فتاة قوية البنية متوسطة الجمال ترتدي شالا أبيض وسروالا من نوع دجين أزرق اللون وحذاء رياضي، تقدمت بخفة فأخذت الكلمة: أيها الرفاق أيتها الرفيقات، لسنا اليوم في إطار استعراض أو استظهار المهارات الفكرية والإيديولوجية إننا من أجل إيجاد حلول مستعجلة لبعض الحالات المزرية التي يعيشها الطلبة سواء بالحي الجامعي أو بالكلية، بدءا بالمطرودين وبالمهددين بالطرد وتحسين وضعية الإقامة والإطعام والمطالعة والمطالب طويلة لا يمكننا حصرها بسهولة. يجب علينا التركيز بدقة على المطالب الآنية وفي نظري هذا هو الشكل النضالي الذي سيحافظ على وحدة الحركة الطلابية وسيساعد على استقطاب الطلبة. نقطة نظام: أخذ الكلمة طالب آخر بشراسة وعنف قائلا: أعتقد أن الأخت تحاول تقزيم دور الحركة الطلابية في بعض المطالب الإصلاحية موقفها هذا يعبر عن التوجه الإصلاحي للفصيل الذي تمثله. المتدخل رقم:2 : أخذت الطالبة الكلمة من جديد مسترسلة: لا أريد أن أفتح سجالا كلاميا نحن في غنى عنه، إن مبدأ الديمقراطية يمنحني حق التعبير عن مقترحاتي وحق انتمائي لأي تيار أريد ولكل مقام مقال، أطرح أفكاري للطلبة المتجمهرين وأكره أسلوب الوصاية. قاطعها المسير الذي بدا متعاطفا مع صاحب نقطة نظام قائلا: ألتمس من الرفيقة متابعة تدخلها وتفادي النقاشات الثنائية وصاحب نقطة نظام حر في تعقيبه. أعجب قاسم بتدخل الطالبة حاول الاقتراب منها بعد خروجها من وسط الحلقة، لكن قوة الشخصية التي تتمتع بها كانت حاجزا قويا أمامه ،تراجع بخجل إلى الوراء آملا أن تخلص هذه المداخلات ببعض النتائج التي قد تلامس وضعيته. توالت المداخلات ونقط نظام والتعقيبات تتخللها بعض الشعارات الرنانة دون أن تفضي إلى شيء فقط بإصدار توصية تدعو إلى استمرار الاحتجاج بالحي الجامعي إلى حين تصليب عود المنظمة وانتخاب لجنة للحوار. استمرت الاحتجاجات طيلة الأسبوع وفتحت نقاشات إضافية عقيمة طغت فيها المقارعات النظرية بين التيارات والفصائل،تقاطر الزعماء غير المقيمين بالحي الجامعي من المدن المجاورة، تحولت إلى حلبة للاستقطاب والجدال، وجد قاسم نفسه تائها وسط تكتلات متعددة، رغب في اكتشاف عالم التشرذم هذا فوجد في كل فصيل تيارات مختلفة متطاعنة بينها،لم يجد جوابا شافيا كل طرف يحاول استقطابه عبر وسائله الخاصة.كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلا، أحس بصداع أليم برأسه ودوار طفيف، غادر الحلقة قاصدا غرفته للنوم. استيقظ الصباح في ساعة متأخرة وبتعب شديد يكبل كل أطرافه،قاوم تعبه وقصد المطعم لملء أحشائه من جديد. بقلم : حاميد أعرور [email protected]