لقد تميزت أعمال الندوة الوطنية النص والخطاب التي أقيمت يوم 26 أبريل 2008بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان، بحضور الضيف الكبير الشاعر المغربي محمد السرغيني الذي جاء من فاس بعد أن سمع بالموضوع لكي يتابع مستجداته، وهو في سن من الكبر جعلت الحضور يقف تحية له، كما اُعتبر حضوره تأكيدا لما صار يتمتع به عمل شعبة اللغة العربية بالمدرسة العليا بتطوان من أهمية علمية على الصعيد الوطني. وقد استهلت أعمال الندوة بكلمة مدير المؤسسة، وكلمة رئاسة الشعبة، وكلمة مدير المركز الثقافي " الأندلس " بمرتيل، وكلمة مختبر السرديات. وقد افتتحت أعمال الجلسة الصباحية، التي ترأسها د. محمد الأمين المؤدب، بمداخلة د. عبد الرحيم جيران " حدود النص والخطاب" التي ركز فيها على صعوبة تحديد المفهومين في النقد والدارسة الأدبية الغربيين، لكنه اعتبر هذه الصعوبة غير مبررة إذا لم يتوفر الوعي بها، والتفكير في مطارحة السجال بصددها، وإيجاد معايير مضبوطة لإدارة هذا السجال، وصيانته من الابتذال. ثم انتقل، تحت هاجس الحفر الابستمولوجي، إلى الكشف عن الخلفيات المنطقية التي تتحكم في إنتاج الاصطلاحين، وظهورهما المتفاوت في الزمن. كما أنه كشف عن العلاقة بين مفهوم النص والسياق التيولوجي المسيحي، وانسحاب ذلك على كثير من الخلاصات النظرية في النظرية النصية. وألمح إلى خفوت الخطاب في التفكير الغربي قبل العصر الحديث نظرا لهيمنة شكل معين للحقيقة في الحقل المعرفي الغربي. وانتقل الناقد بعد ذلك إلى الحديث عن علاقة اختلاف التصورات، بصدد اصطلاحي النص والخطاب، بالحاجة إلى استخدامهما وبمسألة تصنيفهما، حيث حصر الاستخدام في ثلاثة أوجه: التوجه الشكلي والبنيوي، والتوجه التداولي، والتوجه القصداني،. وحصر مسألة التصنيف في أربعة أوجه: التصنيف من حيث الوسيلة، والتصنيف من حيث الانطولوجيا، والتصنيف من حيث المحيط الحيوي، والتصنيف من حيث الوظيفة. وحاول الناقد بعد ذلك الكشف عما هو ميتافيزيقي في تحديد الاصطلاحين بالاستناد إلى مفهوم الجسد بوصفه شيئا في الفكر الغربي، ثم حاول بعد ذلك طرح تصوره الخاص، انطلاقا من أرضية انطولوجية، عن طريق التمييز بين الوجود الطبيعي والوجود الاصطناعي، معتبرا الاصطلاحين معا من صنف المُوجَدات الإشارية الرمزية، لا الموجودات الطبيعية. ومن ثمة صار النص بالنسبة إليه، أثناء تحققه النهائي، معطى ماديا ملموسا بصريا، ومركبا وتفريعيا، وصار الخطاب معنويا من طبيعة مجردة وانتشارية، ومتصفا بالخفاء. وعمل على جعلهما مظهرين مختلفين لاصطلاح أعلى يشملهما، ألا وهو القول، أو غيره من أصناف التعبير الأخرى. وألح الناقد على أنهما يقومان على تبعية متبادلة انطلاقا من تصوره النظري التجديلي التضافري، حيث يُنظر إلى أحدهما من ممكن الآخر. وأقام الناقد تصوره للنص والخطاب على هذا التمييز، وعلى رفض آليتي المماثلة والتعيين بالسلب اللذين ميزا تعريفهما في التوجهات الغربية، واعتبر النص إظهارا قوليا متناميا ومنظما ومثبتا بواسطة تدوين يسمح بمداومته وفحصه والتأكد من معطياته، واعتبر الخطاب كُمونا يوجه تنظيم النص وإظهاره القولي، ويكشف، بوصفه فعلا قصديا، عن ماهية النص ، كما اعتبره مُوجدا قبل النص، وأثناءه كحدث يخترقه وإستراتجية قولية تأويلية تقوم على تقطيع العالم وعلى الإخفاء. وانتقل الناقد بعد ذلك إلى الحديث عن علاقة الاصطلاحين بالزمن انطلاقا من مفهومي التزمين والتزمن، كما اعتمدهما في مشروعه النظري التجديلي التضافري، فاعتبر النص حادثا في زمن معين، وفي تاريخ معين، واعتبر الخطاب من حيث هو مبني فعالية قولية تزمِّن النص، وذلك نظرا لأنها تحوله وتعيد بناء معطياته في ما يتلو من تاريخ حدوثه من أزمنة مفارقة له، ولذلك فالنص تقييد للعالم في زمن معين، والخطاب توسيع للنص والعالم مفتوح على صيرورة زمنية غير محددة، نظرا لكونه يقوم على الإضافة. وأنهى الناقد مداخلته باقتراح وعد بتوسيعه نظريا، حيث تساءل إلى أي حد يكون النص عزلا لمعطيات من العالم وتنظيمها بغية جعل آلية الفهم سارية وممكنة، وإلى أي حد يصير الخطاب آفاق ممكنة للتأويل. انصبت مداخلة د. محمد مشبال" البلاغة وإشكال النص" على عدم الخوض في تداخل اصطلاحي النص والخطاب، مع الإشارة إلى اختلاف البلاغيين في تصريف مفهوم الخطاب، وتفضيل الحديث عن النص في علاقته بالإرث البلاغي الغربي والعربي. وقد انطلق في بناء مداخلته على مسلمة رئيسة تتمثل في كون النص يشكل بؤرة البلاغة ومحنة تاريخها المتمثلة في موتها في القرن التاسع عشر وانسحابها من برامج التعليم الغربية. وبالتالي دعا الباحث، في إطار علاقة النص بالبلاغة، إلى إعادة الاعتبار لها بإعادة قراءة تاريخها، وإعادة صياغة أسئلتها في ضوء مفهوم النص، ابتداء من مشروع أرسطو. وحاول الناقد النظر إلى التاريخ البلاغي انطلاقا من اعتباره تاريخ اللعب مع النص. فكلما اقتربت البلاغة من توسيع مفهوم النص كانت أقرب إلى الازدهار والحياة، وأن تعيش ضمن وسطنا بنوع من الانتعاش، لأن النص بالنسبة إليه مفهوم اجتماعي وثقافي، وليس بمفهوم لساني. وبعد أن عرض الإشكال النصي في ضوء البلاغة عرج على تاريخ البلاغة يسائله في ضوء إقصائه مفهوم النص، وفي ضوء فحص الاقتراحات التي طبعت هذا التاريخ. فانتقد الأسلوبية بوصفها بديلا للبلاغة، ووقف عند أوجه القصور التي تعتريها في الإجابة عن خصوصية النص، وافتقارها لتحديد دقيق لمفهومه، واعتبر خاصية الانزياح غير كافية لحل معضلة النص الجمالية. وذكر في هذا الصدد بمشروع باختين الذي انتقد ،في نظره، الأسلوبية وقوض حلمها في أن تكون بديلا للبلاغة. وفي معرض دعوته إلى تجديد البلاغة ألمح إلى أن أحد مآزقها هو انبناؤها على مبادئ كلية تحد من نشاطها وقدرتها على استيعاب النصوص. وحاول الباحث التذكير بمشروع فونتانيي في علاقته بإجراء التحويل، انطلاقا من استعادة ج. جينيت له، مركزا على أهمية المبادئ التي انطلق منها، بيد أنه اعتبر ذلك غير كاف البتة في استيعاب تنوع النصوص. فأي نموذج بلاغي لا يمكنه أن يكون ناجحا ما لم يتفاعل مع البلاغات الخاصة. ومن ثمة رأى بأن الضرورة تحتم اختراق التقنين المستند إلى التعميم والمبادئ الكلية، وذلك عن طريق التجديل بين التعميم واستيعاب التغير، باتجاه تأسيس بلاغة رحبة. ثم انتقل الناقد إلى المشروع النظري لجماعة ( مو ) البلاغية، كي يتخذ منها دليلا على توسيع البلاغة باتجاه استيعاب النصوص في تنوعها، وذلك بنقلها من مجال الجملة الضيق، إلى مجال العبارة الواسع. كما ألمح إلى ضرورة الاهتمام بباختين في هذا الباب لما أرساه من اجتهادات تسمح بجعل البلاغة أرحب لاستيعاب جنس الرواية. وقد افتتح الناقد د.عبد اللطيف محفوظ، أشغال الجلسة المسائية، التي ترأسها د. محمد الإدريسي، بمداخلته " النص والخطاب في الأدب " مذكرا بمختلف الصعوبات التي تعترض سبيل تحديد اصطلاحي النص والخطاب في الفكر الغربي، الشيء الذي يستدعي فحصا متأنيا وعلميا دقيقا لهما. ومن ثمة عمل الباحث على إبراز مدى الخلط الحاصل في التعامل معهما في المتن النقدي العربي، انطلاقا من فحص الترجمة التي خضعا لها. وقد استخدم في الاستدلال على الاضطراب الاصطلاحي الترجمي الجهاز المفاهيمي السيميائي، كما بلور أسسه بورس. ثم انتقل الناقد إلى فحص الاصطلاحين في النقد الأدبي العربي المعاصر، ليقف عند الالتباس الذي طالهما داخل مجال الممارسة ، مبينا أن مفهوم النص قد ابتعد به عن أصله المفهومي في الفكر الغربي، ذلك أن النص يعني أصلا النسيج بما يعنيه من ذلك من تضمينات إجرائية. ثم اعتبر الخطاب، وهو يخضعه لآليات النقد نفسه، بمثابة أصل يحدد إنتاج النصوص المختلفة، وسلطة تتحكم في هذا الإنتاج، ليخلص إلى ضرورة النظر إلى الاصطلاحين انطلاقا من مراعاة مبدإ استقلالهما أولا، ثم الأخذ بعين الاعتبار ضرورة احتوائهما من قبل النقد العربي ثانيا، بما يعني ضبط إمكان التعالق بينهما. كما نظر د. عبد اللطيف محفوظ إلى الخطاب على أنه مستقى من الجدال، بما يعنيه ذلك من كونه يرتبط بالمعرفة العامة المشتركة التي تبرر إنتاج النصوص في زمن ما. ومن ثمة فالاصطلاحان يختلفان من حيث اختصاص أحدهما بتوفير خاصية التماسك، والآخر بتوفير خاصية التوالد. ويأتي الاختلاف بين الاصطلاحين من جراء اختلاف هاتين الخاصيتين. ويتمثل التماسك بوصفه خاصية في النص، من حيث هو كل تحقق ملموس حاصل بموجب اللغة له صفة النسيج الذي يتسم بخضوعه لقوانين مقننة مستقاة من اللغة والجنس الأدبي. ويتمثل التوالد باعتباره خاصية محددة للخطاب في كل استثمار خلال إنتاج النصوص لكل سجلات المعرفة التي تحاول الذات الكاتبة إبرازها عبر التعبير الجمالي، كما اعتبر هذه السجلات المعرفية التي يتوسل بها الخطاب بمثابة مصدر خصب لتحقق التواصل مع الآخر في تعدده واختلافه، وبمثابة إشعاع متعدد لا يكف للخطاب. وركزت مداخلة الباحث د. محمد الحيرش" التأويل وإشكال نمذجة النصوص "على سؤال هام يتعلق بمدى وجود نمذجة قارة يمكن الاحتكام إليها في تحديد النص وتصنيفه. وهل هناك قواعد رئيسة لإنتاج النصوص وتأويلها. وبالتالي كان مدار المداخلة يتراوح بين ثلاثة أطروحات: الأطروحة الأولى القائلة بضرورة النمذجة والتمسك بالقواعد العامة كما هو الأمر حاصل في البنيوية التأويلية، بما يعنيه ذلك من مزالق تغييب المتغير. والأطروحة الثانية القائلة باستحالة النمذجة وإخضاع المتغير لقواعد عامة تفقده خصوصيته مستندا في ذلك إلى طروحات المقاربة التفكيكية مع دريدا وأتباعه التي لا تهتم بما هو نسقي، وتسعى إلى تكليم التعدد. والأطروحة الثالثة التي يشعر الباحث محمد الحيرش أنها أقرب إليه والقائمة على التجديل بين الأمرين، أي بين العام والخاص. وعمل الباحث على مناقشة كل أطروحة على حدة، فأخذ على البنيوية التأويلية كونها اختزالية تغيب تنوع النصوص وهويتها بوصفها كائنات حية، وتختزلها إلى هوية لسانية، الشيء الذي يجمد مجرى النصوص في صيغة ملفوظ أحادي الحوار. وعمل الباحث أيضا على فحص التأويلية التفكيكية، فرأى أنها بالرغم من كونها تراعي تعدد النصوص تظل اختزالية نظرا لتغييبها البعد التركيبي الذي يرى بأنه سمة مميزة لإنتاج النصوص وتداولها. فلا يكفي في نظره الإلحاح على التعدد على مستوى التأويل، وفتحه على ما يترسب خلف الدال الإنتاجي للنص من معان لا حصر لها، إذ لا بد من التفكير في منحى آخر يسمح بأخذ كل محافل إنتاج النص وتداوله. وتطرق الباحث أيضا إلى ما يسميه بالتأويلية المتجهة نحو القارئ، والتي تجعل من هذا الأخير حجر الزاوية في النظر إلى النمذجة النصية والتأويل، ومن ثمة فالقارئ يعد قطبا حاسما في الصيرورة القرائية، وتصير الخبرة التي يحوزها القارئ مركزية في تأويل النصوص، ومنحها هويتها، مما يجعل من النص محددا في تعدد نمذجته وتأويله بتعدد الخبرات التي تلحق به أثناء تداوله. وهكذا يخلص الباحث د. محمد الحيرش إلى أن هذا التصور القرائي يظل ذا منحى تداولي تفاعلي، وبالتالي لا يوفر شأنه شأن باقي الطروحات الأخرى المظهر التركيبي اللازم لاستيعاب النص وتأويله، وانتهى الباحث إلى أن هناك تفاوتا في هذه التأويليات المختلفة في الأهمية التي تسندها إلى قطب من دون آخر، وأن الغائب الأكبر فيها جميعها هو قدرتها على توفير النمذجة المركبة التي بإمكانها أن تراعي تعدد الأقطاب المكونة لعملية إنتاج النصوص المختلفة. وقد اختتمت أعمال الندوة بلقاء مع الشاعر المغربي المبدع أحمد هاشم الريسوني واعتبر مسير اللقاء الأستاذ محمد العناز أن الإشراقات المنبعثة من دواوينه تترجم تحولات الوعي الشعري لدى أحمد هاشم الريسوني بوصفه من الشعراء القلائل الذين أخلصوا للشعر ومن ثمة فان منجزه الإبداعي هو تاريخ مواز للحياة بمعناها الرحب. ليتحف بعدها الشاعرالحاضرين بقراءة نصوص شعرية حلقت بهم في سماوات الجمال، ونقلتهم من مجال التجريد النقدي إلى مجال التخييل الممتع الذي يفيض حساسية مترعة بلغة أكثر سموا، وأكثر فتنة. ولعل أهم النتائج التي حققتها هذه الندوة الأكاديمية ماثلة في تحقيق مجموعة من الأهداف التي رسمت لها، ومن ضمنها استعادة النقاش العلمي الرصين القائم على التقاليد الأكاديمية التي تحترم الدقة في البحث والسجال المعرفي. والمرور من ترداد أسئلة مستهلكة نحو توليد السؤال، وإنتاجه بما يتلاءم مع إثبات الذات، وتبييء السجال داخل التراث الإنساني، بعيدا عن التقوقع في حصون ذات مأزومة بهويتها، من دون الانخراط في صيرورة النتاج العلمي العالمي، مع الدعوة إلى السجال النقدي مع الفكر الإنساني من دون مركب نقص، واعتبار السؤال المعرفي سؤالا مركبا لا ينتج إلا بتأصيل المفاهيم والحفر فيها، لا بتبسيط النقاش والنزول به إلى الإسفاف، تحت مبررات غير علمية. في ختام الندوة تم التذكير بأنها أقيمت بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة المرحوم الدكتور حسن الغيلاني بوصفه أحد الأساتذة الذين أسهموا في تكوين أجيال عديدة من الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة.