حينما يحل علينا شهر محرم نتشح بالسواد.. ويغزونا ألم مفجع.. وفي يوم الجمعة، نطهر ثيابنا ونمضي نحو المساجد.. داخل الجامع، كنت أرى الثلة المؤمنة من الشباب قد توزعت بين تحضير الولائم وحراسة المدخل.. كان كل شيء بالثقة والاطمئنان... الحركة الدائبة، وعبق الأيمان يملأ الصدور العامرة، وينبئ بأن هذا اليوم مختلف عن غيره من الأيام... تطلعت إلى (عباس) ذاك الشاب الوسيم بلحيته الخفيفة، إنه يذكرني بعنفوان جذل في رواحه ومجيئه.. لقد حرص أن يبقى مبتسما طوال الوقت... صدح صوت الآذان معلنا بدء الصلاة، كانت أشعة الشمس تنفذ نحو الأعمدة المنتصبة وسط الفناء من النوافذ المقوسة، فيما أسرع المصلون بالدخول إلى القاعة الفسيحة، انتابني شعور بالارتياح وقد اخترت مكانا بالقرب من أحد الأعمدة كي أصلي.. كانت لا تزال مكبرات الصوت تنقل صوت المؤذن.. حينما مر (شامل) من أمامي ومد يده ليعطيني نسخة من (زيارة الأربعين)، خيم السكون، نهض الخطيب لإلقاء خطبته بعد أن (لبس أكفانه) وقبل أن يبدأ.. دوى صوت الانفجار... كان يسمع صوت تكسر الزجاج بوضوح وحدثت جلبة... ليرتفع بعدها الصراخ الغاضب.. (أبد والله ما ننسب الانفعال..) كانت لحظة عارمة بالانفعال.. وخارج مكان الصلاة حيث الممر الواسع والحديقة الممتدة إلى نهاية السياج عند الخيمة الصغيرة التي بنيت في الطرف الآخر... كانت الأشلاء المقطعة متناثرة جراء الانفجار الذي أودى بحياة الكثير من المصلين... وشريط الدم، المنساب حتى الشارع العام، جعلني أضطرب في فضاء موحش وحزين.. ألم يطفو على الوجوه النضرة إزاء هذا المشهد الكئيب والفوضى التي ضربت أطنابها في بيت الله... لم يكن من السهل معرفة أصحاب الجثث المبعثرة.. لأن الشظايا التي أصابتهم امتدت لتغير ملامحهم، باستثناء (عباس) الذي فارق الحياة بعد أن اخترقت صدره من الجهة اليسرى شظية أوقفت نبض قلبه.. لكن الابتسامة ما زالت مرسومة على شفتيه... بحثت عن (شامل) فلم أعثر عليه، فيما راح الشباب الغاضب يجمعون بقايا الجثث التي تطايرت إلى مسافات بعيدة.. ووضعها بالسيارات المهشم زجاج نوافذها جراء التفجير.... ظل الصراخ والنحيب يعلو وهرعت العوائل الساكنة جوار الجامع لتشارك في هذه المأساة، بينما كان هناك من يطلق النيران من رشاشته.. منعا لتجمهر الناس الوافدين بهلع، جعل الدموع تتحجر بأعينهم وانتشال بقايا الأوصال الممزقة.. حمل المصابون إلى المستشفيات القريبة... بدأ كل شيء يعود إلى الهدوء.. ولم تكن هناك سوى حسرات وآهات تسمعها عند كل منعطف وزاوية تحكي مرارة ما يحصل، بلا مؤشر على نهاية الرحيل المجاني... ثم جاء من يسأل عن قتلاه..؟؟! وحين لا يسعفه الجواب يمضي راجعا وهو ينوح...عاد عاشوراء ملطخا بالدم والدموع.. وبقيت في عروقي نبضات من وجع يهمي... مع تراتيل أرددها بصمت موجع عندما صادفني (رياض)، جاء مسرعا ليسأل عن أخيه (عباس) فبادرني بلهفة: ها.... سؤال اعتصر دموعي، وقد احتضنته أجهشنا بالبكاء ووجدت نفسي أردد بصوت عال: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس...) وسمعته يقول: (والله يحب المحسنين) رجعت وفي داخلي غصة وألم لا أستطيع البوح بهما.. استدرت خلفي، طالعت مئذنة جامع (الكاظمين). كانت شمس الظهيرة ترسل أشعتها على القبة اللازوردية، وانزوى الجامع عند نهاية الشارع وكأن شيئا لم يكن...