بشرى إيجورك: كلما نظرت من النافذة الصغيرة ولمحت الغيوم البيضاء الناصعة، تذكرت حلمي وأنا طفلة في أن أمد يدي وآخذ منه قطعة أحتفظ بها لنفسي.. حينما كبرت أصبحت أحلامي أبسط بكثير، إلى درجة أنها صعبة المنال مثل قطعة الضباب المنشودة.. لا أخاف التحليق لساعات في العدم.. أحضر حقيبتي وأقتني هداياي، أصلي وأرتب أغراضي دون توتر.. الموت يلازمني كل لحظة، يحيا بداخلي، يسكنني كما الحياة.. كالحب، كالصبر، كالأمل، كالحزن، كالإيمان بالخالق.. كان سؤال الموت لا ينفك يؤرقني، ولازال هاجسي رغم أنني تعلمت التعايش معه بالانتصار للحياة والدفاع عن القيم، وبالسكون للنفس وترويضها على المثل الإنسانية، صدقا وتواضعا ورحمة ووفاء وتسامحا وعفة وكبرياء.. الكبرياء ليس غرورا، إنه العيش بضمير وكرامة.. والموت بعزة دون أن تتحسر على شيء، أو تستبد بك الوساوس وتصاب بنوبات تأنيب الضمير، وتتمنى أن تهبك السماء «أياما استثنائية» تستدرك فيها ظلمك وحقدك وجبروتك وجحودك.. قد تلزمك ثانية لتعتذر إلى شخص ما قضيت سنين تعذبه.. حينما أتأمل الناس من حولي كيف يعيشون أسرى التملك والانفعال والركض خلف المال القذر، كيف يقابلون الحب والعطاء بقسوة لا توصف، كيف يفرطون في التباهي والتصنع.. يهتمون بالشرب والولائم ويتباهون بالبذخ والمجاملات، أستغرب حالهم.. وأفكر كيف أنني عجزت عن إلغاء سؤال الموت من حياتي، كلما سكنت إلى نفسي شرعت أحاورها وأؤنبها وأذكرها بمصيرها حتى بات قدرها بصمة في عيونها.. أحيانا أغمض عيني وأتخيل رحيلي الآتي، يحصل ذلك دون موعد أو ظرف محدد.. هكذا تبدو لي غرفتي وحيدة بدوني، إخوتي، حذائي المفضل، كلبي الوفي، عطري، سجادة الصلاة التي تلازمني، والداي.. فأنتفض كأنني استيقظت من حلم.. الموت زائر غير مرغوب، مفاجئ ومخيف، سارق متخف.. الموت مستقبلنا المشترك الأكيد..الموحد بين الألوان والأديان والكائنات.. الموت سكون الروح والجسد، نداء غامض نحو المجهول، قدر نستجيب له بضعف واستسلام، ونمضي كأننا لم نكن يوما هنا.. نضحك ونعمل ونصرخ ونقوم بكل عاداتنا اليومية الروتينية.. عادات نظنها دائمة.. قد لا نفكر للحظة أنها زائلة بزوالنا المرتقب. كنت لاأزال طالبة في المعهد العالي للمسرح حينما شرعت أكتب مسرحية أسميتها «لنتحدث عن الموت»، كنت لم أبلغ ربيعي العشرين بعد حينما كتبت العمل وأخرجته.. أذكر أن قاعة «الكنفاوي» بالمعهد كانت غاصة بحضور تابع العمل بصمت وارتباك وقد أصابته عدوى أسئلتي الملتهبة ووساوسي الغامضة. ربما هذا السؤال، الراقد بداخلي كالبركان، هو الذي يجعلني ثابتة على مبادئي ومثلي إلى أن أرحل..لا أجيد المراوغة ولا تستهويني المظاهر الكاذبة، أعمل باستقامة ولا أترك نفسي تنجرف نحو الخلاعة.. عاطفة حب خفية تجتاحني فلا أعرف الكراهية.. أتوق إلى حياة هادئة وإلى نهاية آمنة. قد تتوارى الشمس يوما خلف الأفق، فأجدني أسكن التراب.. قد تختطفني المنية في أية لحظة من أحضان الحياة، حينها أريد أن يترحم علي الناس بصدق وليس بشعور بالواجب.. ألا أترك خلفي شخصا ظلمته، جسدا جرحته، قلبا خنته، جيبا سرقته، ديونا متراكمة من الكبائر.. أطمح في راحة أبدية.. سكونا لا يقتحمه صوت مستنكر.. جسد لا تسكنه البرودة,وروح تحلق آمنة مطمئنة، خاشعة، مؤمنة.. لست أدري لم انتفضت روحي هذا المساء.. لم لا أفرح إلا لأحزن.. لا أبتسم إلا لأذرف دمعا ساخنا.. لا أرحل إلا لتحضرني الذكريات والأحلام، لا أكتب إلا لتسارع الكلمات و جيوش الأفكار السوداء والبيضاء لتتساقط صريعة فوق أوراقي العذراء.. الحياة موت يومي بطيء.. قطار سريع لا نعلم متى يتوقف.. والموت ليل طويل لا تشرق شمسه.. في انتظار الآتي..