قصصي مع الحافلات لا تنتهي وحينما يكون السفر ليليا أو أنسى أخذ مفكرتي معي، أستنجد بهاتفي النقال لتسجيل الأحداث التي تلتقطها حواسي والأفكار التي تجود بها مخيلتي تجنباً لنسيانها. وفي خضم القفزات النوعية والعُلوية التي تعرفها وسائل النقل الوطنية والإندفاع الفكري الذي يسيطر على الإنسان في مثل هذه اللحظات، يحدث كثيراً أن أخطئ الأزرار فأرسل جزءا من فكرة غير مكتملة، على شكل رسالة قصيرة إلى أحد الأصدقاء في محل تهنئة العيد. "" ليس من عادتي شراء تذاكر السفر من مكان آخر غير الشبابيك المخصصة لذلك، لكنني أشفقت هذه المرة لحال هؤلاء الذين يستقبلونني كل مرة مثل نجمِ متعجرف لا يأبه بالعدد الكبير من الصحفيين الذين جاؤوا ليأحذوا منه تصريحاً ولا للحشد الكبير من المعجبين الذين يلتفون حوله طلبا لمجرد أوتوغرافٍ حقير. وقفت، وياليتني مافعلت، فتهت وسط غابة من الأشخاص. ثلاثة يطرحون علي أسئلة غير مفهومة؛ رابع يجرني من يدي نحو حافلة الدارالبيضاء التي "غاتزيد دابا"، فيما الخامس يهرب بحقيبتي الصغيرة ليريحني ربما من خفة وزنها، ويسير بها في اتجاه حافلة مراكش التي "لن أخلص فيها حتى أركب". ولمَّا خِفت أن أجد نفسي في داكار أو نواكشوط، استجمعت قواي وقلت للجميع أني ذاهب بحول الله وقدرته إلى ورزازات؛ طبعا بعدما أخرجت بطاقة تعريفي الوطنية للتأكد جيدا بأنني لاأزال أنحدر من هناك. انسحب ثلاثة وبقي اثنان و بَقِيَتْ معهما المشكلة التي أبَتْ أن تغادر، إذ بدأ كل منهما بالصراخ في وجه الآخر:"أنا غانديه..آنا غانديه....واوالله لا ديتيه.. بلا ماطلع ليا القردة المعطي واولاه لاكان ليك..". انْسَللت من بينهما بعدما استرجعت حقيبتي وتركتهما يتجادلان دون أن أعرف للأسف من منهما ربح التحدي وأخذني في النهاية. أنا الآن داخل الحافلة التي يلقبونها ب "حْنِيقزَة"، نسبة إلى الحذاء البلاستيكي ذي نوافذ التهوية، الأخضراللون، المغربي الجنسية، الإفريقي الكتابة والفرنسي اللغة، والذي يعرفه فقراء المغرب أكثر مما يعرفون وزراءهم المغاربة الأصل، الفرنسيو الجنسية وعديمو اللون والفائدة. لا أدري تحديداً سبب تسميةِ هذا الحذاء الذي يحمل أسماء عديدة حسب المناطق بهذا الإسم. أعتقد أن الأمر راجع ربما لخفة وزنه الذي يجعل لابسه "يحنقز" برشاقة في كل مكان مثل أي جحشٍ صغير. احتراماتي لكل من قفز به فرحاً ذات يوم، وأنا أول القافزين. حاولَ مالِكُ هذه الحافلة مراراً التخلصَ من هذا الإسم المنحوس الذي يطارد حافلته وذلك عبر تغيير شكلها ولونها واسمها، لكنه فشل في تمويه الزبائن لأن ذاكرة الفقر قوية، ولأن هناك أشياء أخرى غير تلك المواصفات الشكلية تجعلك تتعرف عليها كما تتعرف عليها كما يمكن أن تتعرف على جورج بوش. هناك أولاً "البورط باغاج" العُلوي الذي يغطى بشبكة تربط بالحبال، ثم الكراسي الضيقة المغلفة بالباش البرتقالي التي تجعلك تظن أنك أصبحت في لحظة أطول من مايكل جوردان. والأهم من كل هذا وذاك هناك سائقها العظيم، رجل في الستين يحب عملَه كثيرا فيتصرف داخل حافلته وكأنها بيته. يأمر بإقفال نافذة وفتح أخرى، وينصح النساء بتغطية الأطفال الصغار. أما إعطاء أوامرٍ من قبيل إطفاء السيجارة أو ارتداء الحذاء أو حتى الملابس فتكون مرافقةً بتوبيخ شفهي وأحيانا تستوجب إيقاف الحافلة والقدوم لمعاينة الحادث عن قرب مع إشعال الأنوار بغية التشهير بالجاني. الحديث بصوتٍ عال أمر ممنوع تجنبا لإزعاج جيران مفترضين يقطنون بالطابق السفلي، أما بعد الساعة العاشرة فالجميع يجب أن ينام بمن فيهم السائق.. من حين لآخر. في انتظار أن تسير الحافلة وأن أصل إلى مكاني، يحدث زحام كبير في الممر وتتكرر قصص مملة فيما أدخنة المحرك نكاد تخنق الأنفاس. دون أن أشعُر وجدت نفسي أُردِّدُ مع أحدهم:" هاد الكِتاب الفُتوح ديالو جوج ديال الدراهم؛ جوج ديال الدراهم آلإخوان ماكاتعمر جيب ماتخوي جيب؛ جوج ديال الدراهم ثمن جريدة أو مجلة كاتقراها وكاترميها، أوهاد الكتاب حاشا واش كاترميه... ديه الميمة ديالك، ديرو فالبزطام ديالك، حافظ عليه فالمكان الطاهر..". رجلٌ فصيح آخر كان ليتفوق على ساركوزي لو شارك في انتخابات الجمهورية. لا أعلم في أي معهد تلقى تقنيات التواصل لكني لاحظت أنه يُطبق جيدا القاعدة التي تقول بأن الخطاب الناجح يجب أن يكون مثل تنورة مراهقة؛ قصيرٌ جدًا كي يَجذب الإنتباه، وطويلٌ بما فيه الكفاية كي يغطي الأهمّ. كل أسفاري تتزامن مع المسكين زيارته لمستشفى المدينة بغرض عيادة أخيه، وفي كل مرة يفقد فيها حقيبة نقوده لكونه دائما يزور المدينة للمرة الأولى. هناك أيضا بائعة الأعشاب التي تعالج انتفاخات البطن والجيب، وتتحدى أزمات الربو والقلب وكل الأزمات الأخرى بما فيها الأزمة الإقتصادية العالمية. وأخيرا، سأقدم لكم المفضل عندي، بائع المجوهرات الذي يريدك بعدما يلاحظ أنك تلبس واحدا أن تشتري خاتما لحبيبتك التي لا تملكها. يا أخي لدي أكثر من خاتم نسائي فهل أجد عندك واحدة في الرحلة المقبلة؟؟ جاتك أمرضي الوالدين.. يجيبني ضاحكاً. 28 هو رقم مقعدي، غير أن نصف أرقام مقاعد الحافلة ممسوح، ولكي تجد مكانك يتوجب عليك عدَّ الكراسي من الأول وتَحَمُّل بعض النظرات "المخنزرة" التي تَرِدُكَ من الذين يرفضون أن تشير إليهم بسبباتك وكأنك بصدد عَدِّ رؤوس الماشية. أنا محظوظ كما ترون فرقمي بارز وكبير بحجم حذاء الشخص الذي يحتله. رجل نحيف ببذلة عسكرية وبين رجليه حقيبة الجيش. اقتربت منه فلاحظت أنه يغط في نوم عميق. خمَّنت أنه مُرْهق جدا بعد الأشهر الطويلة التي قضاها بعيداً عن أولاده وزوجته في حربٍ مع عدوٍّ يظهر لكي يختفي في الرمال. وبينما كنتُ أفكر إن كان من الأحسن أن أناديه بالسي محمد أم الشاف أو ربما الشريف، سمعتُ رجلا في الخلف يصرخُ في وجه آخر "واسي محمد راه ماكاين لا نمرة لا ستة حمص، واش هادا كار ديال النوامر"، وبدون تردد تخليت عن فكرة مقاطعة أولى أحلامه الهادئة، فجلست بهدوء كأي طفل صغير في المقعد الموجود مباشرة خلفَه. بعد بُرْهَة حطَّت يد ثقيلة على كتفي فيما صاحبها يطلب مني، دون أن ينبس بكلمة، أن أنظر إلى الرقم، فأجبته بنصف ابتسامة أن الترقيم غير معمول به في هذا المكان، فأجابني بابتسامة كاملة أن العكس هو الصحيح وأننا في المغرب يجب أن نتعلم النظام. غادرت المقعد ووقفتُ في الممر أنظر إلى الجندي، الذي بدأ يمضغ دون أن يكون في فمه شيء، وقلت في نفسي أنه ستفهمني، رجل جيش ومن المفروض أنه يحب النظام السائد في السياسة والذي يجب أن يسود في حياتنا اليومية، على رأي كبير الرأس هذا الذي يجلس خلفه. أيقظته من النوم وعندما شرحت له أنه احتل مكاني أجابني بسرعة بأن الأرقام غير معمول بها، وقبل أن يعود إلى ليكمل أحلامه أخرجت له تذكرتي، لكنه أخرج هو أيضا وبعينٍ مغمضة وأخرى نصف مفتوحة، تَذْكِرَتهُ الخالية من أي رقم، وقبل أن أقول له بأن عليه أن يبحث عن مقعد بدون رقم اصطدمت بالعلبة الصوتية. بدا لي وكأنني لعبت طرحا ساخنا من الرونضة مع الجندي: ها بونت؛ هاخمسة آرا لهنا. أنا الآن أقف في الممر. لدي تذكرة، لدي أيضا رقم مقعد. نظرت إلى حذاء صديقي من جديد فضحكت عندما تذكرت النكتة التي تقول أن جنرالاً أمريكيا وكز رِجْْل أحد جنوده بفوهة البندقية قائلا "أتشعر بالألم" فأجابه الجندي بصوت عال مع التحية:" لا يا سيدي، لأني أحب الولاياتالمتحدةالأمريكية"، ووكز جنرال ألماني جنديه قائلا "أتشعر بأية آلام؟" فأجابه الجندي عالياً" لا يا سيدي فحُب ألمانيا يسري في عروقي"، وحينما حاول جنرال مغربي أن يطبق نفس التمرين السيكولوجي على فرقته أجابه أول جندي بأعلى صوت مع تحية بالرِّجل:" لا أمون شاف، لاحقاش تانبغي المغرب.. أوحيث عطيتوني النمرة 42 فالصباط وانا كانلبس غير 38 !!" مدونة سراق الزيت www.srakzite.c.la