وهي عائدة من عملها، بخطى ثابتة متسارعة، تحاول لو تطوي الأرض طيّا، لو تصل لبيتها بسرعة كي تستريح من عناء يوم مجهد. شردت ببصرها للحظة نحو مصابيح الشارع والتي كانت منطفئة في أغلبها، وتذكرت كلمات مرشّح الحي قبيل الانتخابات ووعوده الكثيرة، ابتسمت في سرها وهمست لنفسها: ( ليس للكذب أرجل). تابعت سيرها نحو بيتها رغم ظلمة الشارع، وحين اقتربت من الإعدادية لمحت خيال شخصين، سرعان ما تحوّل إلى خيال شخص واحد، استغربت! وبروح فضولية ونفسية خائفة حذرة تابعت تدقيق النظر، تبين لها الأمر: إنهما مراهقان، شاب طويل القامة وفتاة متوسطة القد بوزرة مدرسية بيضاء قصيرة، في وضع حميمي، ولأول مرة وبفعل هاجس الاستنكار قررت هذه المارة بسرعة أن تظل شاخصة ببصرها نحو الشابين عكس ما تعودت فعله كلما رمقت ذات الوضع في حدائق المدينة وهي تتجول صحبة صغيرها، إذ تحاول في كل حين أن تبعد ناظري الصغير عن تلك المناظر المقززة لكل من يحمل نفسا طاهرة شريفة، وأيضا كي لا تضطر لأن تشرح ذاك الوضع لصغيرها حين يسألها... هذه المرة مرت من أمام الشابين اللذان بديا وكأنهما يعيشان في عالم غير العالم، الشابة وقد ألقت برأسها بين ذراعي الشاب وكأنها في حضن أمها، وهو يمسح شعرها و... مما أشعل الحنقة والغضب لدى هذه المارة المتطفلة والتي لم تعد تعرف من المتطفل على الآخر. ظلت تحملق ببصرها ضانة لوهلة أنهما قد يكترثان لمرورها وربما يخجلان لكنهما حتى لم يشعرا بمرورها ليتحولا إلى وضعية أكثر حميمية وأكثر إثارة لغضبها، تدافعت الأفكار في رأسها، هل تصرخ عليهما؟؟؟ هل تحمل حجارة وترشقهما كما كان يفعل بأمثالهما في زمن الشرف والغيرة؟؟ أم هل تمر مكتفية بتسجيل ما رأته واستنكرته مقنعة نفسها بأن ذلك أضعف الإيمان؟؟؟ لكن سرعان ما لمحت على الطرف الآخر المقابل للإعدادية شابا واقفا يحملق هو الآخر وكأنه يلتقط لنفسه منظرا ربما يستعمله لمخيلته التي قد تسعفه يوما ما، بيد أن هذه الفضولية المارة بسرعة أفرغت جمّ غضبها وحنقها عليه بنظرات منها متسائلة مستنكرة تنتقل بها مرة إليه ومرة إلى المتعانقين، بين المتفرج وبين المصيبة وصوت حالها يصرخ : أن ألا من مستنكر؟ ألا يوجد من يستطيع أن يغير هذا الوضع؟؟ وهي تبرر لنفسها إن كنت لم استطع أنا فلأنني امرأة وأخاف بطش الشابين فلما لا تحاول أنت أيها الواقف وكأنك تحرس الرذيلة. نظراتها والتفاتاتها المتكررة بين الحميمين والمتفرج وهي تحاول الابتعاد عن الظلمة وما حملته من عار متسارعة الخطى نحو النور وإذا بها تسمع صوت رجل من داخل الإعدادية يصرخ عليهما أن ابتعدا أخزاكما الله .. ارحلا من هنا.. هيا.. وبخطى متثاقلة وهما يجران ذيول التشرد والضياع والتيه انصرفا باحثان عن ظلمة جديدة يده اليمنى على كتفيها ويدها اليسرى على خصره يتحسسان ركنا آخر لكن من دون عيون فضولية.. سارعت صاحبتنا بخطاها نحو منزلها بنوع من الارتياح ، مفضلة أن يكون جميع مسارها شوارع نور لكن فؤادها ظلّ مظلما كئيبا فقد تذكرت غضب ربّها وما قد ينزله من عقاب على مجتمعها الذي تفشت فيها مناظر ووقائع الفحش الكثيرة، فظلت تتمتم بألفاظ الاستغفار وتقول:( ربنا لا تآخذنا بما فعل السفهاء منا..).