حدثنا التلميذ الدرعي قال: اتخذت لرفقتي ثلة من الأصدقاء، نتآزر في السراء والضراء، لا تعرف طريقها إلينا البغضاء، ولأننا تلامذة في الشعبة الأدبية، ندرس بالثانوية الإدريسية، فإننا عقدنا اتفاقا بأن نزور كل جمعة أستاذا عزيزا إلى قلوبنا، نحدثه ويحدثنا، ونسأله ويجيبنا، مجمل القول بأن مجالسنا التي تجمعنا بهذا الأستاذ الجليل القدر، والأديب الفذ الأغر، هي مجالس أدب وثقافة، نتبادل فيها المعرفة، فإن أستاذنا هذا له من كل كنانة سهم، ومن كل أمر فهم، ولما حلت جمعة هذا الأسبوع، استيقظت لخبر انذرفت له مني الدموع، وهو أن صديق لي جليل قدره، وعظيم عندي أمره، قد توفي والده ليلة أمس، فتملكني من الحزن ما لا يعلمه إلا الله وحده، فتوضأت وتوجهت نحو بيت الخليل، لأعزيه في والده الجليل، ولسان حالي يقول: "ما الدنيا إلا كبيت، نسجته العنكبوت، وهل خلقنا يا فتى إلا نموت؟". وجدت الناس أمام بيت الميت مجتمعين، منتظرين تغسيله وتكفينه، ولمحت من بين الجماعة صديقي وتوجهت نحوه، وقلت كلمات على الصبر أحثه، وأمسكت بيده مواسيا، وفي روح والده معزيا، فرأيت دموعا من عينيه تسيل، فأجهشت في البكاء حزنا لحزنه، وكيف لا وأنا الذي كنت أفرح لفرحه، إن هذه والله هي الصداقة لمن كان يجهلها، وهذه هي الأخوة والمحبة لمن كان لا يعرفها، وبعد الدفن تفرق الجمع، وبقيت ملازما لصديقي الذي لازمه الدمع، حتى أذنت المفروضة بالفراق، وتركته وانصرفت إلى الصلاة، وفي المساء توجهت نحو بيت الأستاذ، فوجدت أصدقائي ينتظرونني، وعلى تأخري يلوموني ، فقلت: يا إخواني لا لوم، فإذا ظهر السبب بطل العجب، فذكرت لهم سبب تأخري، وعزوني في والد صديقي إذ كانوا يعرفونه، وقال صديق: أو على هذا تلومونه؟، وفي تلك الأثناء دخل الأستاذ فوقفنا، ولأمر شوقي امتثلنا : "قف للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا"؛ فسلم علينا الأستاذ وجلس، وعلى أحوالنا سأل، وأجبناه بالخير دائما نتفاءل، فقلت مبادرا بالحديث، حدثنا يا أستاذ عن الألم، فحدثنا وقال: بعد الصلاة والسلام، على محمد خير الأنام، الألم يا أبنائي جزء من حياتنا، إذ به يستقيم أمرنا، كيف تتصورون حياة بدون ألم؟ إنها كالكتابة من دون القلم، هذا والله حد المستحيل، أليس كذلك يا عبد الجليل؟، إن أفراحكم يا أعزائي هي آلامكم مبتذلة، وإن آلامكم هي أفراحكم عليلة، لولا الألم ما أنشد الشاعر الأشعار، ولا وضع الموسيقي أنامله على الجيتار، لولا الألم ما استعمل الفيلسوف فكره، ولا غرس الفلاح أرضه. إن الألم يولد الأمل، والأمل يدفع إلى العمل، أنت تريد للألم أن يتبدد؟ إذن تريد للأدب أن يضيع، وللعالم أن يتوقف عن المسير، بالله قل لي ما الذي يجمع الغني بالفقير؟ أليس الألم؟ بلا، إن الغني يتحسس آلامه في كثرة ماله، والفقير في انعدامه، الألم يراقص الغني في مرقصه، ويضاجع الفقير في مضجعه، إن القائلين إنه لولا الفقر لضاع العلم مخطئون، وأنهم فيما يعتقدون واهمون، إن كان هذا حكمهم فلساء ما يحكمون، لأنه لولا ألم الفقر لضاع العلم، ألا ترى أن أكثر الفقراء جاهلون، لأنهم لا يحسون بمرارة الفقر، ولو أنهم يتخبطون في وديان القهر، الحق أقول لكم يا أعزائي، دونما أن تحكمني أهوائي، إن الألم هو نور الحياة، لأنه يخرج الغني من ظلمات بذخه، ويزود الفقير بشعلة أمله، واعلموا أنما الألم والأمل وجهان لعملة واحدة هي الحياة؛ هذا ما يمكنني قوله عن الألم، فدونوا يا أحبة القلم. عبد اللطيف الحاجي: أصغر كاتب مغربي