لقد وُلِدَ صاحبنا من عشاق الأدب، أي منذ كان طفلا، في المهد رضيعا. و مرت الأيام و كبر صاحبنا و تعلم، ثم أصبح شابا مكتملا و مع ذلك، بقي كما كان، من مدمني تراث الأدبيات، الصفراء منها و المعاصرة، و نقصد بهذه الأخيرة،الموضة الأنثوية المقصرة لجبتها الحداثية،الأغرامية و الشبقية. و التحق صاحبنا بكلية الشريعة، لأنها كانت آنذاك، أرخص " ليصانص " في جامعة " فاس " ،الواقعة بدار المهراز، من حيث السنوات المتطلبة، الغير متجاوزة للرقم، ثلاثة سنوات مغربية. و المؤدية من أقرب طريق، للتزوج بأية أنثى، و الالتحاق بالوظيفة. إلا أن الرياح المغربية قد جرت فعلا، بما لا تشتهيه مقاديرها، سفن صاحبنا. فصاحبنا الذي لم يكن يعرف للجمال من صفة أو تشبيه، إلا ما وقع في دلالات محفوظات معلقاته الجاهلية، و التي كان يحفظها عن ظهر قلب. هذا الجمال الذي كان يتصوره في أنثى عفراء، غراء، عجزاء، لا يشتكي قصر منها و لا عرض و لا طول. بالإضافة إلى الأجرومية و الألفية المالكية، فقد حصل له ما لم يكن في الحسبان. حصل له، أن وقع في شباك الغرام. و قع في الشراك و كأنه لم يسمع قط بأغنيته المغربية المُغَنِّية: " وا .. شدّاك تمشي لزّين و أنت يا راجل مسكين .. مَسْمَعْتيشي .. واشْ ادّاني .! " و بفعل قوة إحساسية و جاذبية بشرية لا مفر منها، وقع صاحبنا في حب امرأة لا يعرف عنها شيئا. لقد حدث له أنه كان ذات يوم متربعا في مقهى " العجائز " و مرت للصدفة، من أمامه امرأة في آية الجمال الرباني. و بمحض علة سببية لا معقولة، حصل للمرأة الآية، أن استدارت وجهة المقهى، فوقعت عينها في عين صاحبنا، ثم استعادت عيونها، و مرت ذاهبة لشؤونها مر السحابة لا ريث و لا عجل. مرت وقد حسب صاحبنا مرورها، دعوة للحب من أول نظرة، من أمثال غراميات ابن حزم في " طوق الحمامة ". و كاد يجري من ورائها، إلا أنه لم يفعل. و حين مرت ساعة زمنية ثقيلة المرور من بعد مرورها، هب صاحبنا فجأة من مقعده متحسرا، و راح يجري خلف ظلال عيونها. و هكذا عبر كل الأزقة، الحارات الملتوية و الشوارع و المنتزهات، و حين لم يعثر لها على أي أثر إنسي يُذكر ، أصيب بتشقلب نفسي و خربطة نفسانية لا مثيل لها، فترك فقهه كما جامعته، و راح يجري خلف الأوهام و الأشباح اللاّ مرئية. قلنا بأنه عدا يعدو، و جرى يجري، و حين قطع مسافة العشق الزمني، محمولا بأجنحة واعية و لا واعية، وجد نفسه في منتهى المطاف، و قد فاته قطار الحداثة، و فاتته الدراسة الجامعية و عاد بخفي الفشل الوطني إلى أمه الوحيدة حزينا. و عاد إلى الوجود في خلقة أخرى، و بحث عن يمينه و عن يساره، حتى وقع على مدرسة حرة بحاجة إلى معلم رخيص لتدريس مادة اللغة العربية، فاستقر بها. و ذات يوم، خلال شهر رمضان، زاره في منامه الأميّ، ملاك في صورة و هيأة بديع الزمان الهمداني و قال له:" الآن أمنحك رخصة كتابة القصة القصيرة" و اختفى. و استيقظ صاحبنا المعلم باحثا، عن كل ما صادفه من مادة صالحة للكتابة، و راح يحبر ما شاء له أن يحبر، و راحت قصصه من جهتها تكبر و تكبر حتى أصبحت أشجارا بل غابات وأنهارا. و من يومها، أصبح المعلم كاتب قصة، و لكن في وسط شعبي تقليدي، بعيدا كل البعد، عن صناع قرارات الأدبيات الرسمية. و مع ذلك لم يقطع أمله في أن يصبح في يوم من الأيام أكبر كاتب قصة في هذه البلدة. و جرت الرياح بما تشتهيه و لا تشتهيه السفن. و مرت الأيام و لم تزدد الأمية المقصودة، إلا تفشيا في هذا البلد السعيد. أقصد الأمية بكل أنواعها: السياسية، الاجتماعية و الاستعبادية المُبَيّتَة نتائجها سلفا. و بتفسير مبسط " يقول أصجاب الربط و فسخ السراويل الوطنية: - كلما ازدادوا جهلا، ازددنا علما، و كلما ازدادوا عبيدا ازددنا سادة .. !". و حدث ذات يوم، ما لم يكن في الحسبان، أن قدم أحدهم، أي من هؤلاء المنتسبين إلى "اتحاد الكتابة" - و لا أقصد كلهم، بل تقريبا - بابنه الفاشل و الساقط في المدارس الحكومية إلى مدرسة " العلوي الحرة"، حيث يشغل صاحبنا منصب معلم. و دارت بين المعلم و الشاعر الاتحادي، صاحب الجائزة الشعرية التي كرمت مجموع أعماله الأدبية الملخصة في كتيب لا يتجاوز مائة صفحة، محادثة أدبية معرفية. و لا أقصد، أعذروني السلطة أو السلطات المعرفية العالمة، و إنما أقصد المعرفية من جهة " من أبوك ؟ و أخي أستاذ جامعي و أختي محامية و ابن عمي مدير للشرطة في الصحراء..." و هكذا اختلفت الروايات و توحدت النوايا الكسبية اللا شرعية، و حصل التعارف النفاقي، و كاد كل منهما يبكي في حضن صاحبه لولا موانع الحشمة. أي كاد المعلم أن يبكي في حضن صاحبه فرحا، في حضن الشاعر الذي وعده بنشر قصصه. و كاد عضو الإتحاد من جهته، و بيننا، التقدمي جدا، أن يبكي مجاملة، لأنه وقع على مغفل مستعد لتدريس ابنه مجانا. و نضيف موضحين بأن صاحبنا هذا " العضو الاتحادي التقدمي" كان يقضي كل لياليه – لا في قراءة الكتب بل في قناني " ستورك الرخيصة و الروج المغربية بولعوان " – مع بعض إخوانه الاتحاديين المناضلين في الخمرة و النميمة الأدبية و الدعارة الشرعية. و حصل اللقاء، و جاءت من بعده المحبة النفاقية، و راح صاحبنا الاتحادي ينشر شيئا فشيئا، بضعة القصص لصاحبه في مجلة إلكترونية حديثة. و مع كل قصة جديدة كان يدعوه للاحتفال بها في .. بار سيدي مخمور. و كان المعلم المغفل لا حول له في قبول الدعوة يستجيب و يستجيب. و يقضي مجمل السهرة على احتساء أكواب الحليب فيما كان صاحبه الشاعر الاتحادي، قد قطع أعمارا و مسافات في حقول العشبة و الكرمة. و يأتي أخيرا الحساب، و يدفع المعلم لما تبقى من شهريته و يرجع بنشر أدبياته مبهورا، و يعود الشاعر الاتحادي بالمناسبة إلى بيته مسرورا و مشكورا و مغمورا " بالفاقة". و مرت الأيام كما سبق و قلنا وراحت من بعدها الأيام في وتيرتها، لغاية ذاك اليوم المشهود .. و أقصد ذاك اليوم الذي ما تزال تذكره المدينة و تردده كل الألسن الخبيثة منها و المليحة. لقد كان اليوم يومها، في منتهى المحبة الصيفية، و كانت عشيته، روعة في امتزاج الزرقة بسواد ليلي لا زرقة له، و قدم الشاعر الاتحادي على دار المعلم المتزوج " بأجمل نساء هذه البلدة العواقر و قال له:" - قم وهيا بنا .. اليوم خمر و غدا أمر..!" وراحا عبر أزقة و منعرجات هذه المدينة، لغاية ما استقرا، ب" بار ماتيلدا العجوز ". و كان الاتحادي الخبيث قد نوى ما نوى. و هذا البار باختصار، صاحبه مواطن مغربي من أبناء تلك الجالية الأمية، المستغربة في بلاد الدانمرك. و الذي، حبا في العودة إلى شمس الوطن، عاد صحبة عجوز شقراء، أشبه ما تكون بعجوز " الحطيئة، الشاعر الذي قال فيها باختصار، " أُطَوّف ما أُطَوّف، ثم أعود لبيت قعيدته لِِكاعُ " لترويج حداثة الموسيقى الغربية و الدعارة الشقراء الشرعية. و وصل كل من المعلم و الشاعر الاتحادي إلى البار. و لأول مرة وقع المعلم في شرب المعاصي. وراح المعلم البريء، شاربا و مخلطا لكل ما يقدمه له الاتحادي، و قد راح يعده بتقديمه للأبنوسة الشقراء، و أنها هي، على استعداد للوقوع في حبه و محبته. و شربا كلاهما، و غرقا في بحور ألألفيات القصصية، و خصوصا المعلم، و فجأة استوى الاتحادي واقفا و همس في أذن صاحبه:" إنها الشقراء قادمة عندك، بارك الله لك فيها، وداعا و لا تنسى دفع الحساب !". و قدمت العجوز الشقراء، و سقت المعلم ما سقت. و ظل ينتظر و ينتظر قدوم الحورية الشقراء تلك التي كانت مخيمة في باله. و حين فطن بأنها شبيهة بالخيال، و قد لا تقدم أبدا، سأل العجوز قائلا: - أين هي ؟ و أجابته العجوز مستدركة: - تقصد الشقراء ! و استدرك المعلم نفسه قائلا: - بلى .. هي .. ! و صدعته العجوز قائلة: - أنا هي و هو أنا .. ! و صعق المعلم و كاد يغشى عليه، بسبب تذكره لمأساة سيبويه النحوية، المسماة " المناظرة الزّنبورية "، و خرج هاربا من الحداثة الاتحادية، في اتجاه بيت زوجته لَلا رحمة الجميلة. و دخل كعادته بسكينة رهيبة لبيته. و من بعد أن استغفر الله له، لهذا الحدث الخمري الّلا متوقع، خلع نعليه و توجه نحو فراش سعادته. و من قبل أن يصل لفراشه و هو في نفسه كله اعتذار و حسرة، لما صدر عنه بخصوص زوجته. بل و مدفوعا حنانيا، لملاقاة جميلته رحمة، استوقفه فجأة، صوت يئن أنين القِطَطِةّ و دعوى له، بالمزيد في حب الملائكة. و تقدم و هو لا يكاد يصدق بأنه المعني بتأوهات جميلة، حين نفذ أخيرا إلى غرفة نومه و قد كاد يصعق من جديد، و هو لا يصدق عينيه برؤيته لصاحبه الاتحادي راكبا مهرته للاّ رحمة. فما كان منه إلا أن صرخ مُصَيِّحا فيهما و بهما و عليهما: - آ .. ويلي .. واش كات ديرو ؟! و أجابه صوت متلعثم: - و الشقراء ماتيلدا؟ و أجاب المعلم الكسيرة نفسه، أمام هذه المفاجئة الحوائية: - آح.. ! "ماتيلدا" الشقراء .. ! و انفجر بالبكاء. فؤاد اليزيد السني – 02-07-09 - بروكسيل فؤاد اليزيد السني – 22-05-09 – بروكسيل / بلجيكا.