ولأنّ حياة واحدة لا تكفي، كما قال العقاد، نلتجئ في كثير من الأحيان إلى القراءة في كل مرة، وزيارة المعارض لاقتناء بعض الكتب التي نراها مهمّة، بحثا عن حيوات أخرى جديدة. لم يختلف الأمر هذه المرة، رغم بُعد المسافة والاختلاف بين الأشخاص في الزمان والمكان، يبقى الهمّ واحد، من جبل "سرغينة" في بولمان بحثا عن الكنز الموعود إلى معرض الرباط الدولي للكتاب بحثا عن المعرفة والعلم الموعود، يستمر الجهل المقدس في التمدّد غولا بيننا، يتّخذ في كل مرة أشكالا وألوانا جديدة. تقول مُراهقة: "كتاباته خيالية تبعدك عن الواقع"، وتقصد الكاتب "أسام" طبعا، بهذه العبارة المقتصرة والمُعبّرة في ذات الوقت، عبّرت إحدى المتدافعات بين المراهقين والمراهقات في معرض الكتاب الدولي عن إعجابها بكتابات "المسلم"، ويبقى "الإبعاد" عن الواقع واللجوء إلى "الخيال" سمة من السّمات وقاسما مشتركا بين المخدرات وكتابات "أسامة" وما يكتبه من تدوينات سحرية، جنبا إلى جنب مع وسائل أخرى، لا تقل تخديرا هي الأخرى، في حالة سوء استعمالها، مثل وسائل التواصل الاجتماعي بكل الأنواع التي نعرفها: يوتيوب، تيك توك، فيسبوك، انستغرام، واتساب، وأخرى لا نعرفها. هذا قليل مما وقع في معرض الكتاب بالرباط مع كاتب سعودي مغمور اسمه "أسامة المسلم"، في سابقة هي الأولى من نوعها، والأمر ليس مهما إن كان معروفا أو مشهورا، كم من كاتب لا نعرفه إلا بعد حصوله على جائزة نوبل. قد يكون ما وقع من تدافع لاقتناء كتاب، ونيل شرف توقيع صاحبه، يكذّب ما نُلصقه ظلما وبهتانا من تهم بشبابنا حول عزوفهم عن القراءة ومعاداة الكتاب، ويثبت بالدليل القاطع أن القارئ موجود والكتاب هو الغائب، وإلا ماذا سيكون تفسيرنا لكل هذا التهافت والتدافع إلى درجة حصول إغماءات بين الزائرين والزائرات من أجل اقتناء كتاب في المعرض الدولي بالرباط؟، وإن كنا لا نعرف الكاتب، ولا عناوين كتبه أو الأجناس التي يكتب فيها، فإننا نعرف علم اليقين ميول شبابنا في المغرب والعالم العربي ومتأكدون من ذلك. هؤلاء المراهقون والمراهقات لم يحجّوا إلى الرباط ركوبا على الجمال والبغال والحمير، وإنما قد يكون هناك من حجّ إلى العاصمة قادما من طنجة في الشمال، وهي أقرب نقطة مغربية إلى حضارة أوروبا وعولمتها، عبر قطار "البراق – تي جي في" فائق السرعة، وبعضهم قدم من أقاصي الجنوب المغربي عبر الطائرة من العيون والداخلة، وهناك آخرون لم تسعفهم الظروف، رغم إصرارهم، على زيارة معرض الرباط لنفس الغرض. كما أنهم لم يأتوا إليها أيضا من الكتاتيب القرآنية في أقاصي الريف بتاونات أو دواوير وأرياف الأطلس الصغير في تافراوت وتزنيت وتارودانت، حيث يكثر حفظة القرآن الكريم في الزوايا والجوامع، الأمر يتعلق من دون شك بفئة النخبة المتعلمة، ونوع من الطلاب والطالبات بعضهم يتابع دراسته في أكبر المعاهد العلمية والتكنولوجية في المغرب وكليات الطب والصيدلة، وبعضهم الآخر يتابع دراسته الجامعية العليا في أقدم الجامعات وأعرقها بكبريات مدننا المغربية. لم تدفعهم حماسة عابرة بعد تناولهم وجبة مخدات سريعة، ولكنه الجهل المقدّس الذي تولّد عن الإدمان المُزمن للتكنولوجيا الحديثة، واستسلامهم لما ينتجه الذكاء الاصطناعي من استسهال في كل شيء، بما في ذلك الفكر والقراءة. والمسألة لا تتوقف أيضا على الأهمية المبالغ فيها للكاتب والكتاب، ولكنها إدانة صريحة لفقرنا الثقافي والقرائي، وبُؤس مًؤسّساتنا الثقافية والتعليمية والقرائية وصناعاتنا الثقافية ورسالة إلى المشرفين عليها، مهما كانت قيمة الكتاب الأدبية أو العلمية وقيمة الكتاب. والأمر لا يقتصر في هذه الحالة على المغرب وحده، ولكنها بلية ابتلينا بها في وطننا العربي بكامله. تدوينات "عجائبية" و"غرائبية" في كتاب لمؤلف سعودي، وكأنه يكتب بالغاز والنفط وليس بقلم مملوء بسائل المداد. الظاهر أنه سخّر من يُروّج لهذه الكتابات في الإنستغرام، وانتصر في رمش عين على كل ما كتبه فيكتور هوغو ولوركا وغارسيا ماركيز وأحمد بوزفور وهمنغواي من قصص بواقعيّتهم السّحرية بحبرهم السّري. نحن نشكو، بل متأكدون من أن شبابنا لا يقرأ، وإن قرأ فإنه لا يختار ما يقرأ، ولا يعرف قاصًّا مغربيا اسمه أحمد بوزفور كتب نصًّا عجائبيا وغرائبيا في القصة القصيرة تحت عنوان: "الرّجل الذي وَجد البرتقالة"، ولا شاعرا مغربيا اسمه محمد السرغيني أبدع في ديوان شعري سمّاه: "من فعل هذا بجَماجمكم…؟" فيه من الغرائبي والعجائبي ما لن يجدوه في كل مؤلفات هذا الكاتب "المسلم"، ولا اطلعوا على ما كتبه العروي ومحمد برادة في"لعبة النسيان" ومحمد عابد الجابري في "بنية العقل العربي"، ولا ما جاء في محاضرات محمد جسّوس من أفكار حول علم الاجتماع ومستقبل "أجيال الضّباع" التي بشّرنا بها، ولا مستقبليات المهدي المنجرة أو ما ألفه البروفيسور الغالي أحرشاو في علم النفس وعلوم التربية والسيكولوجيا، ولا يتتبعون أخبار ما اخترعه المهندس والعالم المغربي رشيد اليزمي وأنشطته العلمية، ولا غيرها من الأسماء المغربية التي أبدعت في مختلف الآداب والعلوم. الأمر ملتبس على ما يبدو، رغم ما في ظاهره من إيجابيات حول تدافع مراهقين ومراهقات في معرض دولي للكتاب، من أجل اقتناء كتاب والظفر بتوقع كاتبه، وهو أمر مقبول من حيث المبدأ، ولكن المسألة تتعلق أساسا بما يُرَوَّج له خِفية وعلانية من تفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يكن الأمر يفاجئني، فقد سبق أن تطرق إليه "ألان دونو" في كتابه "نظام التفاهة" الذي شغل الدنيا والناس. الظاهر أن ما رأيناه من صور وفيديوهات في معرض الرباط الدولي للكتاب، ما هو إلا ترجمة واقعية لما جاء في مضمون هذا الكتاب، وأن مجالا مثل الثقافة، كان محصنا من قبل من التفاهة، لم يسلم بدوره هو الآخر من سيطرة التافهين، وأصبحت الأعمال الثقافية الرزينة التي تحترم ذائقة المتلقي عملة نادرة. ويرجع الأمر بالدرجة الأولى إلى هيمنة منطق السوق، وتسخيره لتمرير الرسائل الضرورية لاستمرار النظام الرأسمالي، وهيمنته على كل مناحي الحياة. المتحكمون في القرارات العالمية الكبرى يعرفون ذلك جيدا، ويرون أنه لن يتم ذلك إلا من خلال "سحر" ومفعول التفاهة وسيطرتها على العقول. قد نجد مبررات أخرى لما حدث في معرض الرباط، ونقول بأن الكاتب المغمور في السعودية، عرف كيف يسوّق لنفسه ومنتوجه الأدبي جيدا في معرض الرباط بالمغرب عبر "السمارت فون-smartphone" والذكاء الاصطناعي من خلال رسائل نصية وفيديوهات، مرّرها الكاتب بطريقة شبابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، وهو يعرف تمام المعرفة، إن لم يكن متأكدا، أن شبابنا المغربي والعربي يبالغ في التطرف والغلو في استعمال هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي تسيطر عليها شركات عالمية لا تهمها القراءة ولا القيم أو الأخلاق. هذه رسالة من الرسائل التي يجب أن نعيها جيدا في المستقبل، يجب علينا أن نكون وسطيين في استخدام هذا الذكاء الاصطناعي المتوحش، ونتأكد من أنه لا يشجع على القراءة والتحصيل العلمي، ولكنه يكتفي بتعليم الكسل والاسترخاء، ويشجع على التفاهة والتسطيح، وأن هذه الوسائل هي التي صنعت لنا اليوم شبابا يبحث عن السهولة والاستسهال والتشجيع على الاستهلاك، ولكن ليس استهلاك قراءة الروايات والكتب، حتى لو كانت هذه الكتب سطحية في مفاهيمها ومضامينها. هناك كتب وروايات ودواوين تستحق فعلا أن تقرأها، وأن نتزاحم من أجل اقتنائها في معرض الرباط وغيره من المعارض. ولكن من تزاحم هذه المرة في طوابير معرض الرباط الدولي للكتاب، وصنعوا الحدث بإغماءاتهم، لم يكن فعلهم من أجل عيون القراءة، وليس محبّة أو عشقا للأفكار الواردة في الكتاب وجودته، ولا في عمق الأشياء الجادة فيه أو بُغية إثراء معرفتهم وبناء ملكاتهم الفكرية وذواتهم، وتكوينها تكوينا جيّدا يليق بالمستقبل، وحتى تحصينها ممّا حصل من تدافع وإغماء. ما حدث في معرض الرباط للكتاب، يذكرني بما وقع قبل سنوات قليلة في جبل "سرغينة"، يوم حجّ آلاف المغاربة إلى قمّة جبل في بولمان يبحثون عن "كنز" مفقود، قبل أن يتفاجؤوا بأن الأمر لا يغدو أن يكون طيش شاب متهوّر اعتقدوا أنه ناقص عقل ودين، قبل أن تبيّن لهم في الأخير أنه ذو فكر وعقل وذكاء وقّاد أكثر منهم، قاد الآلاف من الناس بذكاء في مشهد درامي إلى قمة جبل في الأطلس المتوسط، وظهر أن صاحب قصة "الكنز" كان "أذكى" من كل تلك الجحافل البشرية العمياء، وأن الرجل يتمتع بذكاء خارق، وبمقدوره التهكم على آلاف مؤلفة من البشر أصيبت بعد عملية استخراج "الكنز" بالصدمة، بعد أن تبيّن لهم بأن ما كان يقصده الشاب هو شعار المملكة "الله الوطن الملك"، وليس الكنز كما كانوا يعتقدون، وأصبحوا بالتالي أضحوكة في وسائل الإعلام العالمية، كما وقع أمس في الرباط، بعد أن كانوا في بداية الصعود إلى قمة الجبل يتسابقون في غباء إلى الحظوة بنصيبهم من "الكنز" المزعوم. ويبقى التساؤل مطروحا ومفتوحا، إن كان الأمر يتعلق بحب القراءة فعلا، لماذا لا يبحث هؤلاء الشباب عن كتابات غارسيا ماركيز، ورواية "الحَسّون" للكاتبة الأميركية "دونا تارت" (Donna Tartt) الحائزة على أكثر من جائزة عالمية مثلا، أو رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" للكاتب "إيريك دو كريميل" (Eric de Kermel)، وإن كانوا لم يتخلصوا بعد من سحر الشرق، لم لا يقرأون سردية "فخاخ الرائحة" للروائي السعودي يوسف المحيميد أو روايات يوسف القعيد وإحسان عبد القدوس أو يبحثوا عن ثلاثية نجيب محفوظ. ولو أرادوا البحث عن جذورهم الإفريقية، كانوا سيجدونها في رواية "المُتسَرِّعات" (Les Impatientes) للكاتبة الكاميرونية "دجايلي أحمدو أمل" (Djaïli Amadou Amal) الفائزة بجائزة جنكور لطلاب المدارس الثانوية. ولكن المسألة تتعلق بشيء أكبر وأخطر، لا علاقة له بكاتب مغمور يشتغل في الأدب ويكتب الرواية، ولكنه شئنا أم أبينا سحر الرقمنة وقوة دهاء الذكاء الاصطناعي وجبروته، تعَولمنا وغرقنا في خندق العولمة، وجعلتنا تائهين عبيدا لها بين متاهات التفاهة التي تحدث عنها "دونو" مرة باختصار وفي أخرى بإطناب في كتابه "نظام التفاهة". أما وقد أمسك التافهون بمفاصل السلطة والقرار في جميع أرجاء العالم، علينا أن نكون حذرين قبل أن تبسط "التفاهة" سلطانها علينا جميعا.