في سبعينيات القرن الماضي، وفي مدينة تازة المتوارية خلف الجبال بدأت قصة مراهق في مقتبل العمر اكتشف القراءة بصدفة غريبة بعد أن وجد في منزله الذي لم يكن أحد فيه يهتم بالقراءة رواية «جزيرة الكنز» فقرأها عدة مرات. لم يعرف الفتى لحد الآن كيف وصلت تلك الرواية إلى منزله، هل كانت بفعل فاعل كما حدث مع «صوفي» في عالمها الذي رواه «جوشتاين غاردر» أم أنها جاءت بالصدفة. كانت تلك الرواية المكتشفة بالصدفة حافزا لهذا الفتى ليبحث عن آفاق أرحب للقراءة في المكتبة الوحيدة التي كانت في تازة، هناك اكتشف فولنكنر وهيمنغواي ونجيب محفوظ وغير هؤلاء، وبعد القراءة لا شك أن الفتى تأثر بكل هؤلاء وانغرزت في قلبه شوكة الكتابة، وبدأ محاولاته الأولى التي وصلت بين يدي أستاذه في اللغة الفرنسية. كانت هذه هي بداية المغامرة مع عشق القراءة والكتابة، لكن هذه المغامرة كانت أشبه بالحكاية العجائبية ، فبعد الرواية التي وصلت صدفة إلى المنزل دون أن يدري الفتى من أوصلها، التقى ذات يوم في ندوة كان كاتبان فرنسيان أحباها بقاعة البلدية، كان الفتى من بين الحاضرين، كيف لا وهو المعجب بالكتابة والقراءة، ولم يكن في ذلك الزمن ما يشغل عنها أو يعوضها. حضر الفتى واستمع خجولا إلى المحاضرة، وبعد الانتهاء قدمه أستاذه الفرنسي للكاتبين الفرنسيين وطلب منهما قراءة أحد نصوصه، ولما انتهى الكاتب الفرنسي من قراءة ذلك النص قال للفتى: أيها الشاب الصغير أنت كاتب! لم يصدق الفتى تلك الشهادة التي كانت مثل الحلم، ولكنها ظلت حافزا يدفعه إلى الأمام ويزيد من توثيق علاقته بالقراءة، ومن طموحه في ارتياد عوالم الكتابة. حصل الفتى على الباكلوريا ورحل إلى فرنسا للدراسة، وبعد 35 سنة خط رواية ما كان يظن أنها ستصل ما وصلت إليه. وضع المخطوط في غلاف رماه في صندوق البريد - كمن يرمي قارورة فيها رسالة في بحر كبير لعلها تصل إلى يد من يقرأها أو لا تصل، ولكن الراجح أنها لن تصل. هكذا كان شعوره. بعد مدة جاءته رسالة من دار نشر «غاليمار» التي بعث إليها بمخطوطه، لم تسعه الدنيا وهو يتصفح الرسالة الجوابية، فكان يريد استباق اللحظات ليصل إلى موعد اللقاء الذي ضربه له مدير غاليمار. وصل في الوقت المحدد وبعد استقبال قصير، وإعجاب بالنص قال له المدير. أريد أن أقدم لك من سيتكلف بنشر روايتك وهو أستاذ كبير ومحترم وله مكانته الأدبية. وكم كانت دهشة الفتى كبيرة حينما رأى أن الشخص الذي حدثه عنه الناشر هو ذلك الرجل الذي قال له منذ أكثر من 35 سنة «أيها الشاب الصغير أنت كاتب». فهذا الشخص لم يعرف ذلك الفتى الذي أصبح رجلا ولما حدثه بالقصة تذكر فقط فتى تازة. هل كانت هذه القصة صدفة تاريخية أم أنها قدر حلم الكتابة. هذه هي قصة الروائي المغربي كبير مصطفى عمي الذي أصدر أخيرا روايته الأخيرة «الفضائل اللاأخلاقية» Les vertus Immorales"» الصادرة عن دار «غاليمار» الفرنسية والتي جمع فيها التاريخ بالخيال والحكي بما يشبه السيرة الذاتية، لكنها سيرة تضرب بعمقها في التاريخ، وفي الهوية الحية، لكنها الهوية التي تجاهلها التاريخ الذي كتبه الآخرون. تحكي الرواية مغامرات فتى مغربي عاش في القرن السادس عشر الميلادي في مدينة سلا، هذا الفتى قرأ «ماركر بولو» وشارك في اكتشاف العالم الجديد 35 سنة بعد كريستوف كولمبوس، بعد أن جال كل أوروبا، ركب البحر وعايش الإسبان والإنجليز والسكان الأصليين لأمريكا. هذه هي الرواية التي قدمها كبير مصطفى عمي يوم الجمعة المنصرم في نادي الصحافة بالرباط، بتواضع كبير وبحميمية نادرة كانت في بعض الأحيان تعقد لسانه عن الإجابة، وكأنه في حيرة من أمره، وكأن الرواية لم تكتمل بعد، أو كأن جلسة التقديم كانت امتدادا لكتابة الرواية بشكل آخر، أو كأن الروائي تذكر تفاصيل لم يقلها، فكان يريد استدراك ما لم يقله أو ما لم يخطر بباله.. وهذه هي حكمة الكتابة فالآتي يكمل ما جال في الخاطر ولم يدركه حبر القلم.