نادرا ما يتحدث الكاتب والقاص المغربي عمر والقاضي، لكنه حينما يفعل يسهب في الكلام، ويطلع محاوره على العديد من القضايا، مثلما فعل، أخيرا، مع الكاتب عبد العزيز جدير، في الحوار الطويل، الذي أجراه معه ونشره، أخيرا، على موقع إيلاف الإلكتروني،ويعتبر ثمرة لقاءين بالكاتب في مدينة طنجة، حيث يقيم الكاتب عمر والقاضي حاليا، نشدانا للعزلة وتنقيح مجموعة من أعماله، التي سترى النور قريبا. عمر والقاضي، كما قال عنه عبد العزيز جدير، كاتب من طينة خاصة، يكتب كالسلحفاة، بعد أن يترك النص يختمر في الخاطر، ثم يحوله حروفا وعواطف، ويظل يعالجه حتى يقطر شعرية. هدوء الكاتب يتحول حرارة في النص واشتعالا، رضع قسوة المكان وعزلته، اشتد عوده قبل الأوان، يتميز بقوة الملاحظة والذاكرة، يكتب بروحه، ويظل يضمخ كلماته بدم قلبه حتى تستوي رافعات همة الإنسان وفرادته. في هذا الحوار، تحدث الكاتب عمر والقاضي عن بداياته، وقال إنه بدأ الكتابة منذ مرحلة الدراسة الابتدائية، ففي هذه المرحلة اكتشف السينما، خاصة الأفلام العربية والقصص الرومانسية، والاجتماعية، التي تأثر بمواضيعها وأحداثها، التي شغلت باله، ثم شرع في كتابة قصة أساسها أحداث الفيلم الذي شاهده، لكن بأسلوبه الخاص. وعندما انتقل إلى المرحلة الإعدادية، اكتشف أن هناك قصصا شبيهة بما يحدث في الأفلام يكتبها كتاب من مصر ولبنان، فتعرف على ما كان يكتبه المنفلوطي، الذي تأثر به، فبدأ يقلده، مثلما قلد بعض كتابات الأدب الإسباني. وفي مرحلة التعليم الثانوي انفتح والقاضي على ثقافات أخرى، وكتاب آخرين ومبدعين عرب منهم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وجبران خليل جبران، وكان أول نص ينشره الكاتب في أواسط الستينيات من القرن الماضي، نص شعري أتبعه بقصة قصيرة. وبعد ذلك، ولج مرحلة التعليم الجامعي، فبدأ النشر في الصحف، والمشاركة في الندوات والقراءات القصصية، وخلال تلك المرحلة، حصل نصه المعنون ب "السيد الخلاص" بالدرجة الأولى، في قراءات قصصية نظمتها تعاضدية كلية الآداب ظهر المهراز بفاس، وهكذا دخل عالم الكتابة. وحول وظيفة الأدب ذكر والقاضي أنه كان يكتب انطلاقا من تأثره بما يكتبه كتاب عالميون وعرب وهو الالتزام. وقال "كنا نعتقد أن الأدب له وظيفة اجتماعية وسياسية وندعو إلى كتابة ملتزمة. وكنا لا نستسيغ دعوة الفن للفن ولا نقبل ذلك الرأي، لأن الكتابة من أجل الكتابة لا تعطي خبزا، ولا تشفي مريضا، ولا تعلم أحدا. وقد أنتجنا نصوصا قصصية تدخل ضمن الأدب الملتزم. القصص التي كتبتها، خلال مرحلتي الدراسة الثانوية والجامعية، كانت نصوصا ملتزمة تدور حول الصراع الطبقي وتبين استغلال أرباب المعامل للعمال، واستغلال الإقطاعيين للفلاحين الصغار. هذه النصوص المنتمية للأدب الملتزم ضاعت. وحينما فكرت في نشر مجموعة قصصية، نشرت نصوصا كتبت بعد هذه المرحلة. النصوص القديمة ضاعت، ولم تعد لي رغبة في نشرها، ثم إنها فنيا لم تكن ناضجة. في تلك المرحلة كان المضمون هو ما يهمنا، وكنا نضحي بالشكل دون أن يرف لنا طرف. كان همنا هو إبراز الفكرة. ثم بعد ذلك نظرا للتطورات التي حدثت في نظريات الأدب ووظائف الأدب ووجوب مراعاة الشكل والمضمون، وعلاقتهما التي لا تقبل الانفصام، وانفتاح بصيرتنا على أن الكتابة، بغض النظر عن الموضوع الذي نتناوله، هي صناعة، لذلك حينما فكرت في جمع قصصي للنشر، راعيت مدى نضجها الفني. وهذه النصوص القصصية القصيرة تجد عينات منها في مجموعتي القصصية "سوء الظن". هذا يعني أني أهملت الكثير من النصوص ولم أجمعها، لأنها أدت دورا في لحظة معينة أو ضاعت". وأضاف والقاضي أنه بدأ بكتابة القصة القصيرة، لكن أول كتاب أصدره، كان عملا روائيا، لتأتي بعده القصص القصيرة في الجرائد والمجلات. وأشار إلى أنه مزج بين كتابة القصة القصيرة والرواية، دون أن يتخلى عن كتابة الشعر، الذي يحتفظ به لتوظيفه في عمل روائي أو قصصي. ومن النصوص التي وظف فيها الشعر رواية "البرزخ"، ثم عمله الأخير "الجمرة الصدئة". وعن عملية الكتابة قال والقاضي إنها أشق من خلع الضرس، وأن التنقيح فيها يلعب دور إعادة تنظيف الفم. وأضاف " العمل لدي يمر بمراحل كتابة أولى وكتابة ثانية، وكتابة ثالثة. قد أكتفي وقد لا أكتفي بها. أعود لرابع مرة، ويكون العمل قد اكتمل. كل النصوص كتبت ثلاث مرات. وهناك نصوص أعود إليها أكثر من ذلك. الكاتب ناقد ينقد عمله. يكتب ويضيف إلى عمله عمل الناقد. وعن طقوس الكتابة، التي عرفت لدى الكتاب ومن بينهم غارسيا ماركيز، الذي يرتدي بذلة زرقاء قبل الجلوس إلى آلة الكتابة، ذكر والقاضي أنه ليست لديه طقوس معينة في الكتابة، ففي بداية كتابة أي نص، رواية أو قصة قصيرة، لا يحدد زمنا للشروع في الكتابة، يكتب في أي مكان: في الحافلة، الطريق، المقهى، يسجل بعض الملاحظات ليضمنها للنص الذي يكتبه أو يكون بصدد كتابته، وحينما يستوي النص، يخصص له وقتا لإكماله، قد يكون صباحا، لأنه نادرا ما يكتب ليلا، ونادرا ما يسهر ليكتب، كما أنه يخصص ثمانين في المائة من وقته للقراءة. أما الكتابة، فلا يتعدى الوقت الذي يخصصه لها، نسبة عشرين في المائة، المتبقية، في فترات متقطعة، أما القراءة فدائمة ولا يقرأ إلا الإبداع من قصة ورواية، وقد يقرأ مسرحية، إذا سمع أنها عمل جيد يحتل مكانة واضحة الملامح على صفحة الإبداع العالمي. أما الدراسات النقدية فلا يقرأها بالمرة. وعن عناوين كتبه، ذكر عمر والقاضي أنه لا يختارها بسهولة، وغالبا، ما يرشح للعمل القصصي أو الروائي عدة عناوين، ثم قد يبقي على عنوانين أو ثلاثة عناوين، وغالبا ما يستشير أصدقاءه من الكتاب المبدعين والنقاد، وهذا ما حدث في عنوان أعماله: "البرزخ"، و"الطائر في العنق"، و"رائحة الزمن الميت"، و"سوء الظن"، و"الجمرة الصدئة"، وكلها عناوين من اختيار المبدع الكبير أحمد بوزفور. وعن علاقته بالكاتب وعراب القصة المغربية القصيرة أحمد بوزفور، الذي أخلص للقصة القصيرة إخلاصه لأصدقائه، ذكر والقاضي أن علاقته به ترجع إلى أواسط الستينيات من القرن الماضي، حيث التقيا في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس، وهي اليوم تتجاوز أربعين سنة، وقال إن الغريب في الأمر أن بعض النقاد والكتاب لا يعرفون أن الكاتب بوزفور قبل أن يلتحق بالكلية كان قد اطلع على التراث العربي بكامله، من جاهليته إلى العصر الحديث. ولهذا، كما قال، فلا يعتقد أنه استفاد في فترة الدراسة الجامعية من شيء جديد، لأن ما كان يدرس لهم سبق لبوزفور أن اطلع عليه. وبعد تخرجه، فجأة، نشر قصة قصيرة أحدثت ضجة تساءل الكثيرون من هو كاتب هذا النص؟ لأن النص يعبر عن جدة وحداثة في الكتابة لم تعهدها القصة المغربية ولا العربية. الغريب في الأمر أن الكاتب أحمد بوزفور اعتمد في ذلك على مخزونه من التراث، ومنذ ذلك الوقت، توالت نصوصه الإبداعية اللافتة للنظر، الصادمة للكثيرين. فهو يكتب عن وعي، يتقن صناعة الكتابة القصصية. يختار لنصه الوجهة التي يريدها، بإتقان ومهارة. وأضاف أن هذا النوع من الكتابة جنا على كثير من الأدباء الشباب، الذين حاولوا تقليده، فبوزفور لا يمكن تقليده في كتابة القصة القصيرة. بعد تناوله في روايتيه السابقتين "البرزخ" و"طائر في العنق"، لمرحلة ما يسمى بسنوات الرصاص، ونظرا لهول هذه المرحلة من تاريخنا الحديث أو المعاصر، ولتوثيقها، كان على الكاتب، كما أشار، أن يضيف رواية أخرى، تحكي عن جانب من جوانب مأساة المرحلة، وهي رواية "رائحة الزمن الميت"، التي تحكي عن أسرة مكونة من أب وأم وابنهما الوحيد. الأب، غادر البادية إلى المدينة في مرحلة وانخرط في النضال ضد المستعمر، ثم جاء الاستقلال، ولم يعجبه ما آل إليه الوضع الداخلي. احتج ورفض التسليم بالواقع، لكنه لم يجد أذانا صاغية لرفض هذا الواقع، فاكتفى برفضه مقتنعا بذلك مع نفسه. ولكن، الخسارة كانت مضاعفة، لا هو استفاد من الاستقلال، ولا هو استرجع أرضه التي تركها في البادية، وقد استولى عليها إقطاعي بحماية المخزن. وقمة مأساته ومعاناته حينما اعتقل ابنه الوحيد، ذات صباح باكر، ولم يعرف مكان وجوده، قضى عمرا وهو يبحث عن مكان وجوده دون جدوى، وكلما سمع بمكان في مدينة ما يحتمل وجود ابنه هناك، يسافر إليه صحبة زوجته للبحث عنه. وهكذا، من مدينة إلى مدينة دون معرفة وجود ابنه. وحدث أن اختفى الأب بدوره، ربما لإصراره على معرفة مكان ابنه. ويمكن ملاحظة أن زوجته، أي أم ابنه، لكثرة المعاناة لم تتحمل الأمر فماتت وبقي الأب لوحده، إلى أن اختفى. كيف اختفى، من كان وراء اختفائه؟ هذا ليس معروفا. وهذا نموذج لأسر كثيرة حدث لها شيء من هذا القبيل، وهناك أسر أخرى عانت ما هو أفظع من ذلك. وهناك أحداث ووقائع ومواقف تتضمنها الرواية، ونبه الكاتب إلى أن شكل الرواية اتخذ شكل موشح، من مطلع ودور وقفل ونهاية، كما أن العنوان الداخلي للرواية، هو موشح من زماننا. وعن اهتمامه بالوطن وبالبعد السياسي في أعماله، التي تعكس الخيبة وعدم فاعلية النخبة في التقدم بالبلاد، ذكر والقاضي أن "كل الأحداث التي عرفتها البلاد وساهم فيها العمال والفلاحون البسطاء، يمكن أن يكون الباعث على اندلاعها ما يكتب في الصحف والجرائد أو تصريحات بعض السياسيين أو النقابيين. لكن، في العمق عندما تتحرك هذه الفئات من العمال والحرفيين لا تجد غطاء يحميها فتحدث المأساة، تتشرد العائلات، ويتخلى عنها. في مرحلة السبعينيات، معظم الشباب الذين كانوا طلبة بالجامعات، أو تلاميذ في الثانويات، أو موظفين صغار، الذين اعتنقوا الماركسية كوسيلة لتخليص المواطن من الظلم والاستغلال، حينما واجهوا الواقع، تخلى عنهم السياسيون، بعدما كان جل هؤلاء الشباب ينتمون إلى تلك التنظيمات السياسية. تخلوا عنهم وتبرأوا منهم، بدعوى أنهم قد نصحوا هؤلاء وأن ما يفكر فيه هؤلاء واتخذوه من مواقف، لم يكن باتفاق مع التنظيمات السياسية والنقابية ولا كان برضائها".