منذ البداية، أعلن بالإبانة، أن هذه القراءة هي في خارج النص وليست في داخله، وإن كان الخارج هنا، يؤلف الداخل هناك، باعتبار أن كل قراءة هي (خيانة) مبدعة للنص من الداخل وتعبير عن خلل ما في المجتمع من الخارج. إن هذا النص الروائي الذي نقدمه، حرك في وعينا عدة قراءات لنصوص روائية وغير روائية ارتأينا أن نثبت بعض ما له علاقة بهذه الرواية، وإن كان فعل الاستحضار هذا، هو الذي جعل الرواية تكسب إجراء قراءتها. إذ من الصعب بل من المستحيل، أن يكتب الروائي شيئا لا يحيل على أي شيء خارجه، باستثناء إذا استحال هذا الشيء، ضربا من ضروب الأساطير الخارجة عن تجربة المعرفة الإنسانية بالإطلاق. إذن، هناك عالمان للنص: عالم داخلي مرتبط بكيفية انكتاب الرواية، وعالم خارجي مرتبط بالظروف والآثار المحيطة بشكل هذا الانكتاب. وفي إطار جدل الداخل والخارج يكون هناك إبداع خلاق. سنعمد إلى تحليل هذه الرواية، في ضوء خمسة مرتكزات أساسية، نعرضها فيما يلي: 1) سيرة رشيد القضائية، المدغمة حكائيا في سيرته الأسرية. 2) استثمار الرواية لمكون الشذوذ الجنسي - السجني. 3) توظيف الرواية لأسماء العلم دون إعلان الحذر والاحتراس. 4) حضور المغربي في القص المشرقي. 5) من اللفظ الأجنبي المقتول إلى اللفظ العربي الفصيح. 1- سيرة رشيد القضائية المركبة بالإدغام الحكائي في سيرته الأسرية. رواية سامي النصراوي (الدوامة) (1) 1990، تتوزع عبر اثنى عشر فصلا، وهي في مجملها مركبة بالإدغام الحكائي عبر سيرتين متداخلتين: سيرة رشيد القضائية - سيرة رشيد الأسرية. السيرة الأولى هي سيرة النص - التوليد عن السيرة الثانية التي هي سيرة النص - الإطار. وبين النص - الإطار والنص - التوليد تنكتب الرواية في ضوء اشتغال تقنية (الإرصاد المرآتي) la mise en abyme وهي في رمزيتها عاصفة في بحر تصغر إلى عاصفة في كأس. إن محاكمة رشيد من طرف هيئة قضائية، ما هي إلا صورة مصغرة لمحاكمته من طرف هيئة اجتماعية، وتتلخص في أن عنف استرجاع أحداث فظيعة مر بها في السجن، يوقعه في سلسلة من الانتقامات، تنتهي بقتل من نحر ذكورته. 2- استثمار الرواية لمكون الشذوذ الجنسي - السجني استثمرت الرواية هذا المكون بكل استعراء ومكاشفة. إذ بمجرد ما يحال رشيد على السجن، يتم اغتصابه. وقد أبانت الرواية عن هذا الفعل بإطراحها كل حياء وعراء. والحقيقة أن «الدوامة» ليست الرواية الوحيدة التي استثمرت هذا المكون، إذ تم عرض لوحات جنسية شاذة في عدة أعمال روائية عربية خصوصا تلك التي تنتمي إلى تيار الحساسية الجديدة (التيار الواقعي الجديد) نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: أ- (رسالة البصائر في المصائر): لجمال الغيطاني 1989: في هذه الرواية، تناول جمال الغيطاني الشذوذ الجنسي بطريقة معكوسة، وهو مخالف تماما لما هو معهود عليه كما هو بين في الشاهد التالي: «... برغم غضبه وضيقه منه سيقص عليه حكاية طريفة، حدث أن وصل إلى ليمان طرة شاب صغير يفوقك جمالا، أشقر أنت شعرك أسود، خشي عليه الضابط من عتاة المساجين فوفر له إقامة منفردة وأوصى الحرس بحمايته، ومع مرور الأيام أهمل أمره وصار يروح ويجيء في السجن، وأمر أحد الضباط بضمه إلى حجرة بالطابق الثاني كان يقيم فيها فتوة العنبر كله، رجل في حجم معالي الشيخ ثلاث مرات، قاتل، هل تعرف ماذا جرى؟ فوجئ الضباط والجنود أن هذا الشاب الصغير الرقيق هو الرجل، والفتوة الذي يهابه الكل في موقع الأنثى منه» ص. 59. (انظر في نفس الرواية ص 246 و247 حكاية ما جرى للشباب الذي أوقعه حظه العاثر في مدينة لوطية). ب- (تلك الرائحة): لصنع الله إبراهيم 1986 في هذه الرواية، تم تناول هذا المكون على الشكل الآتي: «... وجذب صاحب البطانية فوقه وبسطها بيده على صبي ممتلئ ينام إلى جواره. ورأيت وجه الصبي قبل أن تغطيه البطانية، كانت له بشرة خمرية وشفتان ممتلئتان». ما نستنتجه من هذين الشاهدين الروائيين، أن مكون الشذوذ الجنسي في الرواية، غالبا ما يتم إقرانه في تفضيته مع فضاء السجن دون سواه، باستثناء حكايات الشاب الذي أوقعه حظه العاثر في مدينة لوطية. وعن علاقة اقتران وتفضية الشذوذ الجنسي في الرواية بفضاء السجن، يقول سامي النصراوي في الرواية التي تفسر نفسها بنفسها: «تسمى هذه عادة؟!!!. نعم هي العادة المتبعة. فكل شيء ينبع من ذاته. ومادامت السجون أحادية الجنس، فلابد للحل أن ينبع من ذاته» ص: 94. نعم هي العادة، وبهذه البساطة، وكل شيء صار الإتيان به سهلا سمي عادة «ولكل امرئ من دهره ما تعودا...» فلو لم يكن هذا المكون فاعلا على مستوى الكتابة الروائية كتعبير عن خلل ما في المجتمع، وكشكل من أشكال التعبير، لما تم الإقرار به وتكراره في العديد من الروايات العربية والغربية منها على وجه الخصوص. 3- توظيف الرواية لأسماء العلم دون تنبيه واحتراس في المرتكز الثالث من هذه القراءة، هناك ملاحظة أثارت انتباهي كثيرا، وإن كانت لها علاقة بمكون الشذوذ الجنسي، وهي تتعلق بتوظيف رواية (الدوامة) لأسماء العلم دون إلصاق ملصق تنبيه واحتراس. بالرغم من أن ورودها في النص جاء ورودا خياليا من كل قصدية، إلا أنها كادت تكسب واقعيتها من خلال وجود شخصيات من لحم ودم لا من حبر وورق خارج الكتابة الروائية. وأصدح شاهد على ذلك، شخصية بنزهرة عمر الذي نحر الضابط ذكورته، قبل أن ينحر ذكورة رشيد في السجن. وهذا ما يشكل عائقا في قراءة الرواية، ما كان له أن يكون له تنبه الروائي إلى إعلان ملصق التنبيه والاحتراس من مغبة الوقوع في شركه. وهذا ما دفع الكثير من الروائيين - إذ ما تطلب الأمر ذلك - إلى إلصاق هذا الملصق، كصك براءة في الرواية كما فعل جبرا إبراهيم جبرا في (البحث عن وليد مسعود) 1978، حيث ترد كثرة أسماء العلم للشخصيات: مريم الصفار، إبراهيم الحاج نوفل، د. جوان حسني، كاظم إسماعيل، طارق رؤوف، وصال رؤوف... وحتى يتجنب الروائي مغبة مطابقة اسم علم الشخصية في الرواية مع اسم علم الشخصية في الواقع، وهذا غالبا ما يحدث حين يعلن الروائي ملصقه على الشكل الآتي: «هذه الرواية من خلق الخيال. وإذا وجد أي شبه بين أشخاصه أو أسمائهم وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك إلا من محض الصدفة، وخاليا من كل قصد». نفس التنبيه أعلنه إلياس خوري في (الوجوه البيضاء) 1986 قائلا: «الأحداث والشخصيات والأماكن والأسماء، في هذه الرواية، هي من خلق الخيال. وإذا وجد أي شبه بين أشخاصه وأسمائهم وبين أناس حقيقيين، أو بين أماكنها وأحداثها، وأماكن وأحداث حقيقيين، فلن يكون ذلك إلا محض صدفة، ومن غرائب الخيال، وخاليا من أي قصد». فمن خلال هذين الملصقين وملصقات لروايات أخرى، يكون الروائي قد سلّ نفسه من العجين، عجين المساءلة، وفر بأوراقه من مقص الرقيب. ومن غريب الخيال ما له مطابقة مع غريب الواقع. وهو بالضبط ما حدث في رواية «طومبيزا» 1984 لرشيد ميموني، عندما سئل عن الخيال الخالص، أجاب ما ملخصه بأن جميع شخصياته الروائية بما فيها شخصيته (طومبيزا) هي من صنع الخيال الخالص الجامح. إلا أنه فوجئ يوما عندما نشر رواية (طومبيزا) في فرنسا برسالة غريبة ومضحكة يقول فيها صاحبها وهو فرنسي ولد في الجزائر ما يلي: «قرأت روايتك، فأحببتها كثيرا لكن ما حدث، هو أنني أعرف طومبيزا . لقد كان صديق طفولتي إلا أنني بمجرد ما رحلت، فقدت عنوانه فهل بإمكانك أن ترسله إليّ «يقول رشيد ميموني معلقا على الرسالة: لكنني لم أجبه عن رسالته». 4 حضور المغربي في القص المشرقي وعدم حضور المشرقي في القص المغربي إن رواية (الدوامة) 1990 هي ثالث رواية يكتبها الدكتور سامي النصراوي بعد روايتيه الأوليين «صدى الصمت» 1988 «الصعود الى المنفى» 1988 «ما وراء السور» 1989 وتليها «زخات الطاعون» 1991 «المكافأة» 1995 «لوحات من الواقع» (مجموعة قصص) 1996 «على حافة الآخر» 1996 «أوراق الزمن الضائع» (مجموعة قصص) 2006 الشاطئ الآخر (في ثلاثة أجزاء) 2006 2007 2008 وقد سبق للدكتور سعيد علوش أن أفرد قراءة متميزة لرواية (ما وراء السور) تحت عنوان: عراقي يكتب الرواية المغربية: عن مهمشي (ما وراء السور). ومن طريف ما جاء في هذه «القراءة العالمة»، قوله: «أول ما يسترعي الانتباه في عالم الروائي العراقي، أنه يكتب عن فضاء وأطروحات مغربية محضة، فلا نجد برواية سامي النصراوي، النكهة العراقية، باستثناء نظرة العراقي الى المغرب، وصورته التي تختزل الصراعات الاجتماعية، وفي مجموعة من الأطروحات». وينهي الأستاذ سعيد علوش قراءته بسؤال مركزي وطريف قائلا: «تلك إذن هي النهاية التي ينهي بها سامي النصراوي روايته، فهل انتهت الرواية؟ ترى كيف ستكون الرواية التي سيكتبها المغربي عن العراق؟ وماهي صورة المغرب عن مشرقه؟» وفي سياق ما ذكر، هناك العديد من الروايات العربية التي اتخذت من المغرب والمغربي موضوعا لها، نخص بالذكر، رواية (أطفال بلا دموع) 1989 لعلاء الديب. حيث تم فيها استثمار المحكي المغربي بإدغام حكائي مع حكي مصري، ورابط الإدغام الحكائي بين النص الإطار والنص التوليد، توسل إليه الروائي بتوظيف تقنية الإرصاد المرآتي». ويتم إيراد المحكي المغربي في الرواية على الشكل الآتي: «و» «رجب» بائع الحلوى يحكي رقصة الديك، في الجبل كهف، وفي الكهف مغارة، في المغارة كنز، لا أحد يفتح الكنز حتى يحرق بخورا، البخور لا يحمله أحد إلا أعرابي رحّال قادم من المغرب، يقف خارج القرية، ولا يدخل، يلقاه صاحب الحظ فيشتري منه البخور، وإذا انتهى البخور والطامع في الكنز لم يقنع بعد، تغلق المغارة عليه، ويبقى في الكهف لعام كامل لا تخرجه سوى رقصة ديك يذبح فوق أحجار المدخل» ص: 30. وفي رواية جمال الغيطاني ما قبل الأخيرة (شطح المدينة) 1990 يتم إيراد المغربي في القص المصري بشكل سافر: «يقول المغربي إن الفندق الكبير مبنى آخر جدير بالرؤية، يقع قرب الحديقة اليابانية لكن سيحتاج هذا الى الوقت. ص: 84. إن السؤال الذي نصوغه في ضوء ما ذكر هو: ماهو سر حضور المغربي في القص المشرقي وعدم حضور الشرقي في القص المغربي؟ وبتعبير آخر مستعار: هذه هي صورة المشرق عن مغربه لكن، أين هي صورة المغرب عن مشرقه؟ مما لاشك فيه، أن الجواب عن هذا السؤال، يتطلب الخروج عن «المحلية في الكتابة الروائية». 5 من اللفظ الأجنبي المقتول الى اللفظ العربي الفصيح في المرتكز الخامس، وهو الأخير في هذه القراءة، سأحاول التركيز باختصار شديد على مشكلة تتعلق باللغة التي يستعملها الروائي في الصوغ الروائي La romantisation ، (باعتبار أن اللغة، هي محطة إرصاد نوايا الرأي العام)، وهي كثيرا ما ترد بشكل سافر وفج في القص المشرقي، ونادرا ما ترد في القص المغربي. وقد تم «الاصطلاح» عليها من طرف أهل البصر اللغوي والمشتغلين في حقل الترجمة والتعريب ب «الاستقلال من اللفظ الأجنبي المقتول الى اللفظ العربي الفصيح». إذ كثيرا ما ترد في الرواية، «كلمات» مكتوبة برطانتها الاعجمية، مع أن المعادل اللفظي لها موجود في اللغة العربية الفصحى. سنحاول جرد نماذج منها على الشكل الآتي: رتوش: تهذيب. الكابتن: قائد شياكة: أناقة باتسري: مقشدة كازينوهات: ملاه... إن الرواية شكل من أشكال الوعي الإنساني، بها يدرك الإنسان عالمه الخارجي والداخلي، وما يمور فيهما من آمال وآلام. إذن، يجب على اللغة التي تعبر عن هذا الوعي المركب أن ترقى الى مستواه ولا يحصل لها هذا الارتقاء إلا بالتعبير اللغوي العربي الفصيح. 1) (الدوامة) د. سامي النصراوي، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع الرباط الطبعة الأولى 1990.