احتضنت مدينة الشاون، مؤخرا، يوما دراسيا من تنظيم مندوبية وزارة الثقافة بشفشاون ومختبر السرديات: الرواية وتقاطعات المتخيل: قراءات في نصوص مغربية ومصرية. وقد شارك في هذا اللقاء العديد من الباحثين المغاربة، في مقاربات لنصوص مغربية ومصرية. افتتح عبد اللطيف محفوظ الجلسة الافتتاحية لليوم الدراسي بكلمة أشار فيها إلى البعد الثقافي والمعرفي لهذا اللقاء، ثم أعطى الكلمة لشرف الدين ماجدولين والذي مهد لهذا اللقاء بورقة تقديمية، مما جاء فيها: «حين فكرنا مع الإخوة في مختبر السرديات في تنظيم ندوة عن «الرواية وتقاطعات المتخيل» كان القصد في البداية هو توجيه تحية إلى جيل من المبدعين المغاربة والمصريين ممن ساهموا في صياغة التعدد الروائي في الوطن العربي اليوم، ورفده برؤى وتشكيلات بنائية، وصور، وتخاييل، ووقائع، عمقت احتمالات حداثته، وانغماره في هموم المحيط والمجتمع، وجددت أسئلته بصدد اللغة والأمكنة والزمن والنماذج البشرية ومخاضات الحياة». لينتقل بعد ذلك شرف الدين ماجدولين إلى التأكيد على أن الندوة إن هي أرادت أن تحقق إضافة معرفية.. فلن يتأتى لها ذلك إلا بتحقيقها لثلاثة مآرب متكاملة: المأرب الأول يتصل بالبعد النقدي، ذلك أن تقديم أعمال روائية جديدة، بكل ما تتضمنه دلالة الجدة من مغايرة في نهج التعبير، ونسق التشكيل، ومضمون الرؤية، في لحظة وحيز موحدين، في غياب مؤلفيها، مع ما يستتبعه هذا المعطى الأخير من رفع للحرج النقدي، لهو فرصة استثنائية لتكريس نوع من الممارسة النقدية التي بدأت تفقد وهجها في المشهد المغربي في الآونة الأخيرة، أي أن تكون لحظة للمكاشفة التحليلية الصادقة، مع إعمال لآليات الوصف والتقييم معا دونما اكتفاء بالتحليل الرمادي المحايد الذي لا يمكن إلا أن يعمق من أحوال الخلل القائم في علاقة النقد بالإبداع الروائي. أما المأرب الثاني فذو بعد ثقافي، ذلك أنه بات من الملاحظ اليوم شيوع نمط من الخطاب الوصفي الصرف، ينتهي إلى خلاصات مفرغة في العمق، وتكرس مديح الذات أو تبخيسها نظريا وبشكل مطلق وممتد في الزمن، والحال أنه من المفترض أن نصل إلى خلاصات ذات كنه جمالي واضح يكون محصلة لإجراءات تطبيقية متواترة ومتجددة عبر الإنجاز المتواصل للحظات الإبداع والقراءة، بل أعتقد أنه حتى تلك المقولة الأثيرة لدى البعض التي تزعم أننا نعيش زمن الرواية، تحتاج لتأكيد صدقيتها إلى مثل هذا النوع من الاشتغال التطبيقي المقارن، الذي لا يكتفي بتكرار المستنسخات النظرية وإنما ينخرط في مساءلة المنجز وتقييمه، سعيا إلى استكناه أثره الثقافي العام، ورصد إيقاع تصاديه مع الوجدان الجمعي. بعد ذلك أخذ الكلمة شعيب حليفي (رئيس مختبر السرديات) والذي رحب، بدوره، بالمشاركين واضعا الندوة في سياقها، ارتباطا بالمحور المقترح الذي يحدد في بناء رؤية نقدية، جمالية للنص الروائي، ويقارب الروايات المدروسة باعتبارها تجارب تستحق القراءة لما تحمله من عناصر الجدة والتجديد وقضايا جمالية. تقاطعات افتتحت جلسة القراءات النقدية، والتي ترأسها شعيب حليفي، بالمداخلة الأولى لرشيد برهون بعنوان «رجال في مهب اللغات والأحلام» حول رواية أحمد المديني «رجال ظهر المهراز»، مركزا مناقشته على عدد من الأبعاد الفنية والجمالية في رسم التخييل الروائي.. بخلق الترادف النصي بين الأعلى والأسفل ثم صور مترددة للمنفى والمسخ والتضاد، ليصل الباحث إلى الحديث عما أسماه بالحكي الهادر ولعبة اللغة لذاكرة روائية تلاعب اللغات والأحلام. وقد عمل الناقد عبد الرحيم جيران على مقاربة رواية «شجرة أمي» للروائي سيد البحراوي وفق تصور بلاغي يقوم على ضبط العلاقة بين ما يشكل الكل بوصفه مكمن تلاحم النص الروائي، والجزئي باعتباره مكمن المتنافر. وقد جعل من موضوع الموت مجالا للكلي وربطه بفعل الكتابة، من حيث هي تظهير لموتها من خلال موت الأم. وعمد الناقد فيما بعد إلى معالجة ما يسميه بالعقد النصية الدالة على المتنافر، وحددها في ثلاث وهي: الكتابة والشجرة والشمع. وحاول انطلاقا من هذه العقد النصية التدليل على صلاتها بالموت وفعل الكتابة، وكيفية تعبيرها عن الفوت في علاقته، من جهة، بتاريخ الذات الخاص وبالزمان والمكان، وبتاريخ الكتابة الروائية من حيث هي مرتهنة بالتاريخ العام، ليخلص الناقد في نهاية مداخلته إلى أن الفوت الذي يسم هذا التاريخ هو ما يحدد العلاقة بين سؤال الموت والكتابة الروائية. أما مداخلة عبد اللطيف محفوظ، الموسومة ب«باريو مالقة بين استعارة الشكل وغموض الموضوع» والتي استهلت بالإشادة بالرواية وقدرتها على الوصف الدقيق للمكان وخلقها للمتعة وتوفيرها للمقروئية، فتميزت بالرغم من ذلك بطابعها النقدي الحاد، مذكرة بمناخ السبعينيات. حيث حاول المواءمة بين التوجه الوصفي والمعياري، وهكذا انطلق من ملاحظات حول ما سماه بالقناعات القبلية للكتابة التي تجلت في مقصديتين، حدد الأولى في استعارة الكاتب للشكل من نجيب محفوظ، موضحا أن هذه الاستعارة لم يكن مصدرها رواية واحدة أو مجموعة متناسقة من الروايات، بل توليفة من الأشكال التي أنتجتها تجربة نجيب محفوظ. وخلص إلى أن هذا التوليف لم يراع خصوصية تعدد الأشكال عند محفوظ والذي يخضع عنده دائما لسؤال معرفي محدد، مشيرا إلى أن هذا الصنيع قد جعل الرواية تخرق مجموعة من سنن الكتابة الروائية، فبدت كما لو كانت مجموعة من مشاريع روايات لا يجمعها إلا المكان الموحد. وقد حاول التدليل على ذلك انطلاقا مما سماه بالمرحلة ما قبل التظهيرية، التي يربطها بالمحافل السردية. وحول رواية «شهد القلعة» لابراهيم عبد المجيد، تدخل عبد الرحيم مؤدن بموضوع «شهد القلعة: تحولات شهرزاد، تحولات شهريار وتحولات الكتابة».. مقدما في البداية ملخصا عن الدلالات الكبرى للرواية والتي تقارب هوية المرأة والرجل والوجود داخل فضاء القلعة الحافلة بالأسرار، ومنها أسرار جثتي امراة ورجل. وهكذا سيمتزج الدم بالشهوة والقدرة بالعجز والحقيقة بالوهم. واعتبر الباحث أن هذه الرواية في مسيرة ابراهيم عبد المجيد تمثل طفرة نوعية في الكتابة الروائية من حيث كونها توظف تقنيات منها التضمين الحكائي بالأسلوب البوليسي، والفصل والوصل عن طريق التداعي أو التذكر. ثم انتقل عبد الرحيم مؤدن إلى قراءة الرواية من خلال ثلاثة أقانيم جسدت البناء الروائي، وهي تحولات شهرزاد وشهريار والحكاية. في مداخلته التي تحمل عنوان «الإدراك الروائي للعالم: حكمة اللايقين في رواية «مسألة وقت» لمنتصر القفاش، ركز محمد أمنصور على الإدراك الروائي كعنصر وحافز سردي مولد للسيرورة الروائية، معتبرا (اللغزية، الكفكاوية، جاهزية الحكاية) هي مكونات بنائية ساهمت في بلورة صوغ أسلوبي متميز في إدراك العالم روائيا، وهي الدينامية السردية التي تؤالف بين السجل الغرائبي القائم على منطق الاستحالة واللامحتمل والسجل الواقعي المتمسك ببناء الشخصية الثابتة والمتماسكة.