صدرت في العاصمة الرومانية بوخارست أنطولوجيا الشعر الروماني المعاصر بعنوان " أكاليل الغار " و التي قام بترجمتها للعربية الشاعر و الروائي والمترجم العربي و المقيم في رومانيا ( منير مزيد ) بالتعاون مع الشاعر والباحث الروماني ( ماريوس كيلارو ) في إعدادها و اختيار أسماء الشعراء و القصائد المدرجه في هذا العمل الأنطولوجي . تعد هذه الأنطولوجيا الثانية ل ( منير مزيد ) فقد قدّم قبل ذلك عملاً أنطلوجياً عن الشعر العربي سبق وأن صدر بثلاث لغات هي العربية والرومانية والإنكليزية وذلك في شهر آذار 2008 و يستعد حاليا إصدار أنطولوجيا عن الشعر الصيني التي أنهى ترجمتها للعربية و بنفس الوقت وقع عقدا مع دار نشر رومانية ل إصدار أنطولوجيا عن شاعرات العرب والتي أوشك على الانتهاء من ترجمتها لتصدر بالإنجليزية والرومانية ويتوقع صدورها في حزيران من هذا العام . هذه الأنطولوجيا تعد عملا فريدا من نوعه بين الأدبين العربي والروماني و تدشين الأواصر الثقافية بين بيئتين ثقافيتين عرفتا بأصالة وعمق نتاجهما الفكري والثقافي، النابع من العمق الحضاري للثقافتين. احتفى هذا العمل بأسماء شعرية لها الأثر الفاعل في تغيير حال رومانيا مما كانت عليه إلى ما هي عليه اليوم كدولةٍ أوروبية تتجهُ بخطوات واثقة نحو الحرية والاعتزاز بإنسانيتها . وضع الدكتور حمد محمود الدُّوخي ، مدرِّس فلسفة الأدب العربي الحديث في جامعة تكريت / العراق مقدمة هذا العمل وقد أشرف أيضا على مراجعة وتدقيق النصوص وقد كتب في مقدمته : يجب الانتباه والتدقيق في قراءة مثل هذا الجهد الفاعل في تدشين الأواصر الثقافية بين بيئتين ثقافيتين عرفتا بأصالة وعمق نتاجهما الفكري والثقافي، النابع من العمق الحضاري للثقافتين. فالكلُّ يعي ثقل وزن الأدب العربي والأدب الروماني، ففي الأدب الروماني بدأت أولى صرخات المسرح العالمي منذ حركات الأبطال والكهنة في صلاتهم المكتومة بحضن الآلهة، ومن ذلك إلى صور الفروسية والعشق المحموم في قصائد العشاق والفرسان العرب. أقولُ يجب الانتباه لأنَّ المهمَّةَ القرائية هنا لا تقل أبداً عن عملية كتابة النصوص، لأنها _ أي عملية القراءة _ إعادة خلق وتخيُّلٍ مستمرٍ للنصوص ، إذ لا بدَّ من المحافظة على المسافة المهمة واللازمة التي تتمركز بين لغة الأدبين وأعني بهذه المسافة : الفجوة التي تنحدر منها حركة التأويل، أي لا بد من قراءة تضع مدى مفتوحاً أمام المقروء لكي تفترض له حركة في كل لغة على جهة ومن المسافة التي أَشَرْنا لها والتي تتمركز في هذا ال(بين) تنحدر حركة المعنى والدلالة التي يدير دفتها التأويل. وها هو الأديب والمترجم المبدع (منير مزيد) يضعنا أمام كوكبة مختارة بتدقيق القارئ / الشاعر ، الذي يجيد القراءة في المنطقتين الأدبيتين لذا فليس من المستغرب أن نجد شعراء جهده الأنطولوجي هذا كلهم من الصُنَّاع المهرة وذلك وفق ما يُجبرنا النص من خلال البيئة الدلالية التي يهندسها الشعراء الرومان في هذه العمل المهم والذي سيجد صدىً باذخ التهليل ، ذلك لأن هذا هو العمل الفريد من نوعه بين الأدبين العربي والروماني . وهنا نود تقديم إلماحة عن النصوص لإعطاء مفاتيح أوالية للقارئ العربي من خلال هذه الترجمة المهمة لاقترابها من النص بنسخته الأصل ، وذلك ليس كشفاً منا ، إنما هو تحصيل حاصل فالمترجم شاعر معروف ، وعارف بالسلوك الشعري في المنطقتين وهنا أعني منطقة الشعر ومنطقة الترجمة. لقد اجتهد المبدع (منير مزيد) في استخلاص مجموعة من ابرز شعراء رومانيا مقدماً إياهم للقارئ العربي في محاولة إغناء رؤية هذا القارئ ، ذلك لأن هذه المجموعة المهمة من الأسماء الشعرية الرومانية تمثل لوحة بانورامية تكاد تختزل مجمل الأساليب الشعرية للأدب الروماني المعاصر ، فها نحن ننطلق في الفضاء الرحب للشاعر(آيدي كريستي) إذ أن لهذا الشاعر مهارة واسعة في الاشتغال على حساسية التجاور بين الملفوظات الشعرية بحيث يختزل كل ما يريد الإلماح إليه ولكنه يُبقي على خارطة طريق تُرشد الى المعنى المراد ، إذ أن القارئ يلاحظ أن المعنى الكلي يتدفق من المسافة الفاصلة بين ملفوظاته .. ففي قصيدة (أخيراً كل الحيطان تتهاوى) نجد أن عملية البث تستند الى ضغط كثيف للمعنى في المقول .. كما في قوله :_ دعي الغسقَ يسقطُ فوقي في حين الستارةُ ثابتةٌ على المسرحِ خُذْيني باليدِ واعتنِي بالزهرةِ التي يَجِبُ عليها ألَّا تسحقَ نداه على عقلِي المتأرِّقِ جداً دعي عيني تنامُ فقط في المَهدِ المربوطِ بنهديكِ الحارَّينِ مثلُ تلَّينِ خَصِبَينِ يَتحرَّكانِ دائماً ولا تقفُ حركتُهما أبداً إلا للسريرِ الذي أَعُودُ إليهِ بعدَ الموتِ أما الشاعر (أدريان الوي جورجي) فإنه يجتهد في تغيير الأشياء وكذلك تغيير طريقة التعامل معها، وبالطبع هذا هو العمل الخلاق والصورة الأكثر وضوحا للوجه الشعري ، وهو أن يكون الاجتهاد من أجل تقديم ميثولوجيا حديثة للواقع ، فها هو يعيد الى الذاكرة صورة (ابليم ميشو) وابليم ميشو: اسم احد دواوين هنري ميشو، وهو إنسان آخر يؤسطر تصرفه حيال الأشياء كما في قول هنري ميشو :_ وما أن مد ابليم يديه خارج الفراش حتى أحس بالدهشة لأنه لم يجد الجدار. وفكر قائلاً: عجباً، ربما أكله الدود... ونام من جديد. نعم هنا نجد الصورة هذه ولكنها صورة (أدريان) أعني أنها ليست مستنسخة من مشغل ميشو الشعري إنما هي عملية داخل حيِّز شعري واحد ، متقارب ، وفي هذه الصورة نجد (رينير أدريان) يتفحَّص الأشياء بخصوصيته هو داخل النص كما في قول (أدريان) في قصيدته (رينير تعال) :_ في البِدايةِ رَفضَ اسمَهُ كَانَ اسمُهُ رينير رُبَّمَا ديميتري أو لاكينتو ، إسمٌ غيرُ عاديٍّ بين أكثرَ وأكثرَ السكانِ تجرُّداً لعاَلمٍ يَحتشدُ للارتفاعِ للأعلى إلى السماءِ .. أَو رُبَّمَا اسمُهُ كَانَ عزرا عزرا كَانَ أيضاً اسمَ البيتِ الذي يَعِيشُ فيهِ واسمَ الشارعِ والبلدِ والقارةِ أيضاً
أَو رُبَّمَا لا ، إسمُهُ فقط باول بول .. إسمُ ذلكَ الموتِ الذي تصعبُ رؤيتُهُ ، أما الشاعر (جالو دوريان) فهو شاعر يتمتع بطاقة تقصيص القصيدة أي إفادة قصيدته من نظام القص ، ففي كل قصيدة من قصائده نجد بنية مشهدية مؤطرة بموضوع ، أو قصة مضغوطة كما في قصيدته (التعب) التي يقدم من خلال استهلالها الافتتاحي ثيمة ، أو بؤرة الموضوعة التي تدور عليها قصيدته هذه، إذ يقول :_ أخيراً سنحظى باستراحةٍ لقد قاتلنا طوالَ حياتِنا مثلَ بَعْضِ الحمقى، والآن نحن مُتعبون بدلاً من أنْ نَكُونَ سريعينَ كالأسهمِ وهي تُواجهُ الموت لا يومَ الأحدِ ولا يومَ الاثنين ليس هناك أيُّ سريرٍ قريبٍ فضلا عن تعمُّده توزيع القصيدة على مقاطع تفسح المجال أمامه واسعاً للتركيز على الموضوع الشعري الذي يبنى من خلاله العمل الشعري كما في هذه القصيدة (التعب) وكذلك قصيدة (البطن). في حين نرى الشاعر (لوتشيان اليكسي) يعتمد على الجانب السيري في بناء نموذجه الشعري ، وهذا الجانب ، أي الجانب السيري ، يعطينا نظرة خاصة إلى قصيدة (لوتشيان اليكسي) أنها تعتمد وتركز على حساسية الانتخاب والاختيار ، إذ على هذه الحساسية يرتكز العمل السيري ، وحين يوظَّف شعرياً فهذا يعني أن نسبة هذه الحساسية ستصل إلى مرحلة فاعلة وإشكالية تفيد في تقوية المجال التأملي للقصيدة والانفتاح أكثر على مناطق تأويل واسعة، وهذا الجانب يبدو واضحاً وبقوة في قصيدة (مفكرة كلارا) لاسيما أنها موقَّعة بتصدير يفيدنا في تقوية خريطتنا لتتبع المسار الدلالي للقصيدة إذ يقول (كُتبت فنياً من قبل أدولف الرجل المجنون ..) وهذا التصدير يعتبر موجِّهاً لفعل القراءة، حيث يبدأ بعد هذا التصدير بإعطاء ملمحاً عاماً عن القصيدة هذه من خلال المفتتح الذي يجمل تفاصيل العمل الشعري هذا ، إذ يقول: مغامراتُ كلارا : مكتوبٌ بحساسيةٍ في المفكرةِ ، الوحيدُ الذي اختبرَ تلك المغامراتِ، هو الوحيدُ الذي يستطيعُ أن يخفيهم. الكلماتُ الآتيةُ مِن المخطوطةِ المقدَّسةِ تتقطّرُ _ مثلَ المستنزَفينَ _ على جلدةِ الكتابِ ، والإفرازُ المُقَزِّزُ يَدْبغُ للمخطوطةِ عنواناً غيرَ مقروءٍ . بعد ذلك يعطي لهذا العمل نوعاً من التخطيط الأرسطي للعمل وأعني التسلسل المنطقي للعمل (البداية ، الوسط ، النهاية) ، إذ يشير الى ذلك بوضوح ، حيث يقدم البداية علناً من خلال قوله :_ البدءُ بالصفحةِ الأولى العالمُ يكفهرُّ الكلمةُ مثلُ بطيخٍ مشويٍّ تذوِّبُ مشاعرَ امرأةٍ طائشةٍ وتقْذفُها بالإهانات، لأنَّها رسمتْ روحَها بحبرِ الصينِ الورديِّ .. الخ
ثم يترك للقارئ الغوص في تفاصيل ال(وسط) أو العقدة كما تُسمى باللسان الأكاديمي ، الى أن يقول ، مشيراً الى النهاية: في النهايةِ المفكرةُ تَشْبهُ أكثرَ ما تُشْبِهُ لوحةَ شطرنجِ كلارا لها عينٌ بيضاءُ / وأخرى سوداءُ بينما إحداهما على مؤخَّرةِ العنقِ والأخرى ثابتةٌ على أعضاءِ أدولف التناسليةِ أما الشاعر (لوتشيان فاسيليو) فهو شاعر يحمل همَّاً من نوع خاص آخر، هو أنه يتفكَّر في قوة وقدرة اللغة على إيصال المراد من البوح، وأمر عجز اللغة عن هذا الإيصال معروف إذ أنَّ اللغة ليست سوى مجموعة من الدلاء / الألفاظ ، التي تغرف من بحر لتعيد ما تغترفه منه إليه ، وهو يناقش هذا الهمَّ شعرياً وذلك متمفصلٌ في شعره ، كما في قوله في قصيدته (مونا ، الموناد (الثّالث عشر)) إذ يقول :_ تَدْفعُ الاستعارة رمحَها الاستعارةُ تَذلُّني الاستعارةُ تَقْلبُ طاسةَ البازلاءِ الساحرةَ رجلُ المفتاحِ نائمٌ في المعنى الاعتباطي أمّي نائمةٌ أيضاً أيقونةٌ على ذراعيها، في هذهِ الأثناءِ وكذلك قوله في قصيدته (جدليات) :_ قليلاً قليلاً تبْدأُ ماكنةُ خياطةِ الكلمَةِ بالعملِ تاك ..تاك .. تاك...تاك قليلاً قليلاً وكذلك قوله في قصيدة (حتى الصباح): هيّئْني أنشوطةً رائعةً للكلماتِ القادمةِ التي أُريدُ كتابتَها ، وقوله في القصيدة ذاتها :_ نَكْتبُ بينما فَمُهم الأحمرُ يُقبّلُ الأيقونةَ التي رُسِمَ عليها كبارُ الملائكةِ ومثل هذا الهمِّ يؤكِّد لنا على مدى تحسس هذا الشاعر للأشياء من حوله ومناقشته للطريقة التي يمكن من خلالها عرض الوجود المهمومين به نحن ، وهذه الطريقة هي اللغة بإيماءاتها وصوتها وصمتها وبكل أدواتها التعبيرية وأساليبها. أما الشاعر (ماريوس كيلارو) فهو شاعر أثيري رومانسي ، يصنع لمفردته أجواء حميمية تدفعها أعمق في المخيال الشعري وذلك بائن وطالع بوضوح في متنه الشعري لاسيما في الاشتغال العنواني لهذا الشاعر ، إذ نرى عناوين قصائده تنبئ بذلك ، وربما تقرر ذلك في كثير من الأحيان وأهم العناوين في هذا الجانب هي (الحب / الشعر مفتاح عيون العالم / قصّةُ حبٍّ أخرى لَمْ تَرَ ضوءَ اليومِ / أغنية شعبية يومية / صورة الليل ..) أما أبرز ما يشير الى هذه الأثيرية في متنه الشعري فقوله في قصيدته (الحب): شطرتيني وكأنني: تفاحةٌ في الحبِّ والكراهيةِ عيناكِ كانتا كدمعتينِ نَُحتتَا في صلاتِي حينَ اختطفتي لحمَ روحِي وكذلك قوله في قصيدته (الشعر مفتاح عيون العالم): أحلِّقُ في السماءِ بينَ قصصِ الحبِّ التي تَنْمو بينَ الخرنوبِ أَنهالُ على المدينةِ مثل المطرِ وأتدفَّقُ في الأرضِ
وكذلك قوله في قصيدة (قصة حب لم ترَ ضوء اليوم) الإنجيلُ لا يزالُ نائماً منذُ بضعِ سنين لباسُ القمرِ مُطَرَّزٌ بغيمتينِ منفوشتينِ و راقصو الباليه يَقْفزونَ نجوماً فوقَ كلِّ الرياحِ فهم ولادةٌ تَتْركُ أثرَها في هذهِ اللحظةِ بالذاتِ على خدِّ الليلِ ، وقوله في قصيدته (صورة الليل) : نزعَ لباسَ القمرِ وغَطّى شفاهيَ بالرغبةِ بينما نرى الشاعر (نيكولاي بانيتي) شاعراً مسكوناً بالإحساس الحاد بحركة الزمن، لذا تراه يحاول في كل نصوصه الإمساك باللحظة .. تلك اللحظة التي تتحرَّك داخلها الأشياء لمرة واحدة وتبقى حركة ديمومتها منطلقة من إحساسنا بهذا ال (مرة) وفي الشعر تكون صناعة هذه الحركة أمراً موكولاً لفعل القراءة الخلاق لذا نجد الشاعر هنا يصنع لحظته من أكثر الأشياء ارتباطاً بالزمن (الذكرى / الموقف / الحادثة .. الخ) .. ويمكننا ملاحظة ذلك على كثير من قصائده ، كما في قصيدة (الاعتلال) إذ يقول : رمادٌ في مصباحِ الشارعِ بأطرافِ الأصابعِ لمستُ الزجاجَ المدخَّنَ يبدو وكأنَّهُ الخلودُ إذ لم تزلْ عليه بصماتُ أصابعِ أبي والملاحظ على هذا التصوير انه ينطوي على قدرة عميقة وتخيل شعري مكثف للأشياء ولحركة الزمن ، كذلك في قوله في قصيدته (كل الوصفات) : أحرفُ العلَّةِ تهبطُ في زئيرِ الولادةِ ، وأنصالِ المحراثِ ، فلا توجدُ وصفةٌ من الوَصْفاتِ ذاتَ فائدةٍ .. وكذلك قوله في قصيدته (الخيط المزعج) تَمِيلُ بكرةِ مغزلِكَ والخيطُ المزعجُ يدورُ على مغزلِكَ الطينيِّ ، على خصرِكَ فيُصبحُ المكانُ مثلَ حافَّةِ صَندوقٍ . وفي هذين المقطعين نجده يصوِّر بشيء من العنف ، والذي أعنيه أنه يقدم لنا الصورة بلغة تحسسنا بعنف هذه الحركة الزمنية كما يمكن أن نلاحظ ذلك على المقطعين من خلال أكثر الألفاظ بهما مثل (أحرف العلة / زئير الولادة / أنصال المحراث / الخيط المزعج يدور / المكان مثل حافة صندوق) .. وأكثر ما يتجلى لنا أحساس الشاعر في قصيدته (يوما ما) ، إذ نجدها قصيدة تتكيء منذ البدء ، منذ العنوان على فاعلية الإحساس بالزمن ، فضلاً عن جعله للعنوان لازمة تدور عليها لغة القصيدة آخذة منها هوية اشتغالها ، إذ يكرر هذه اللازمة (يوما ما) داخل النص ثلاث مرات ليجعلها تقوم بدور العنوان الثانوي فضلاً عن دورها الأصيل وهو العنوان الرئيس وفي ذلك تفعيل واضح ، إذ يقول فيها : نعم ، يجيءُ ، يومٌ عاصفٌ مثلَ هذا حينَ تُصبحُ أقدامُكِ مغطَّاةً بغبارِ بَعْضِ الأضويةِ المائيةِ ، وبالظلامِ الملتصقِ في النيرانِ والأوراقِ يوماً ما حينَ يصبحُ الخطابُ مثلَ هزيمةٍ مباركةٍ يَتخلّلُ الفراغَ ونهرَه الذي يجري خارجَ الأرضِ والسماءِ يوماً ما حينَ تقولُ الأشياءُ لم يَعُدْ يحتملُنا أيُّ شيءٍ حتى الخلاص سَأَدْعوكَ حتى يَأْخذَ بكائِي شكلَ وجهِكَ وهذا المصباحِ يَحترقُ يحترقُ بالدمِّ أما الشاعر (رادو فلوريسكو) فنجده شاعراً يعمل على اختزال الشعور وتقديمه من خلال لغة تكثيف واختزال عالية لاسيما في شعر المطبوع بالتوقيعة أو كما يُسمى لدى نقاد آخرين بقصيدة الضربة ، كما في قصيدته (الكلمات الصامتة المرة) التي يقول فيها : لَيْسَ عندي شيءٌ يعودُ لي .. القصيدةُ التي أكتبُها الآنَ تصيرُ مفقودةً في سوقِ المدينةِ . لتتجنَّبَ أنْ تكونَ وحيداً قفْ إلى جانبِ الرجالِ المرضى وكن حاضراً في النومِ بينَ النِساءِ والملائكةِ . البرودةُ في الخارجِ تَجْعلُ النافذةَ بيضاءَ . الأطفالَ يتهيئون للخروج، ببطءٍ واحداً تلوَ الآخرَ من الغرفةِ والنافذةُ بيضاءُ كالصفحةِ وكذلك الكلماتُ أيضاً صامتةٌ ، مرةً ودمعةٌ ملطخةٌ ، مرةً أخرى إذن معاً نُنعشُ أملاً عالياً علوَّ السماءِ وبقدر بُعْدِ القُرى إلى حدِّ الموتِ ففاعلية الاختزال بائنة لعدسة القراءة الفاحصة إذ من الممكن للقراءة أن تقف طويلا أمام هذا الاختزال المكثَّف للمقول (البرودة في الخارج تجعل النافذة بيضاء) مستنطقة إياه ومستخرجة منه كمَّاً دلالياً يتحرَّك مع كل قراءة فاحصة ، أي أن تجعل معنى شعرياً يتنوَّع مع تنوُّع القراءة له. أما الشاعر (كاسيان ماريا سيبريدون) فنلاحظ أنه يكتب بلغة تصويرية تقترب من الكتابة السينمائية ، فهو يقطِّع الأشياء على غرار أسلوب المونتاج ، أو أنه يقترب بتصويره من هذا الأسلوب، ومن ثم يعود يرتِّبها داخل سياق محكوم بدلالة مركزية للنص، كما في قصيدته (تلقين) :
دموعٌ وحيدةٌ / أحزانٌ قديمةٌ / إشاراتُ مرورٍ لتلك الكائناتِ البيضاءِ / (باردةٌ جداً ، يَدُهم التي لَمْ تَعُدْ جبهتُهم تلمسُها ) لكي تكون الجلجلة / أبداً / مُداساً بالنعالِ المُرهَقةِ مليئاً بالغبارِ ، والعمى كثيرٌ ، وصعبٌ جداً على الروحِ الوحيدةِ شحوبُ الجبهةِ حارٌّ / كذاكرةِ طفولتِي / التي تتنبَّأ بمراهقةٍ عكرةٍ / (تحتَ إشارةِ اللامبالاةِ) أَتكلّمُ / مِنْ ديمومةِ الجسدِ كحرفِ علَّةٍ إلهيٍّ في رئتي اليومِ / من الأحداثِ البارزةِ أهبطُ إلى البحرِ الأسودِ والشمالِ / أهبطُ بمعاناةٍ كما أنه يقدِّم لنا نصوصه من خلال تغليفه لها بموضوعات تتعلق باليومي من الحياة ، أو بالأمور التي نلتصق بها بحياتنا كالحب والموت والخوف والملل من الرتابة وما إلى ذلك كما في قصيدته (قصيدة ما ورائية) إذ يقول فيها: دموعٌ وحيدةٌ / أحزانٌ قديمةٌ / إشاراتُ مرورٍ لتلك الكائناتِ البيضاءِ / (باردةٌ جداً ، يَدُهم التي لَمْ تَعُدْ جبهتُهم تلمسُها ) لكي تكون الجلجلة / أبداً / مُداساً بالنعالِ المُرهَقةِ مليئاً بالغبارِ ، والعمى كثيرٌ ، وصعبٌ جداً على الروحِ الوحيدةِ شحوبُ الجبهةِ حارٌّ / كذاكرةِ طفولتِي / التي تتنبَّأ بمراهقةٍ عكرةٍ / (تحتَ إشارةِ اللامبالاةِ) أَتكلّمُ / مِنْ ديمومةِ الجسدِ كحرفِ علَّةٍ إلهيٍّ في رئتي اليومِ / من الأحداثِ البارزةِ أهبطُ إلى البحرِ الأسودِ والشمالِ / أهبطُ بمعاناةٍ أما الشاعر (اوريل شتيفاناتشي) فإنه منشغل بالتفكُّر بالذات وما الذي تمثِّله هذه الذات من قيمة في الوجود ، وذلك يتضح من خلال عناوين ومتون كل قصائده المختارة بإتقان في هذا العمل الانطولوجي ، ويعمل على تقديم هذا الانشغال من خلال لغة تتقصَّد صياغة خاصة ، صياغة يتداخل فيها العلمي مع الشعري تداخلاً يرفع من نسبة شعرية النصوص كما نجد ذلك من خلال بعض العناوين مثل (التصوُّر الهولوجرامي (وصف كنوع من المعرفة)) ففي هذا العنوان يوجد تحديد لنوع من أنواع التصور فضلاً عن أنه عنوان مسنود بتعريف (وصف كنوع من أنواع المعرفة) وكأننا إزاء قراءة مادة علمية ولكن حين ندخل الى متن القصيدة الشعري نتفاجأ بالنظام المفارقاتي الذي يؤطِّر العمل الشعري بالكامل كما في قوله: العامل يَبْكي : واحد يستطيع سماع البكاء الكتابة / الحيوانات المثالية بالإضافة إلى أوراق الخريفَ الصفراءَ تَجيءُ وتزيح المُؤلفَ العامل يَبْكي : واحد يستطيع سماع البكاء فقط الكتابة / الجذع الرقيق حتما موجود في النيرانِ / مثل نوافذ الأرضِ وهذه القصيدة مكتوبة بتقنية عالية وهندسة نصانية خاصة ، ويرتفع إحساسه بقيمة الذات أكثر في قصيدته (ملاحظات الوجودية) إذ يقول : أَنْظرُ إلى ذراعي أَنْظرُ إلى صدرِي أَنْظرُ إلى سيقانِي أوه، لكن الحياةَ تنحشر بقسوة في لحمِي وعظامِي ويتقدَّم أكثر في النص نفسه حين يبدأ فعل المناجاة عمله داخل النص بقوله : أوه خذني بنعومة إلى الشكل المقدس لعين الثلج اقطعْ ظِلَّي في ظلامِكَ ليصبح قريبا من براعم السماء المنتشية لأضيف ذاتي إلى الطيرانِ الذي يُصبحُ دائماً مفقوداً.... وتكتمل صورة هذا الانشغال بالذات وهمومها في قصيدته (مشاهد متعقبة) فهي قصيدة مشفوعة بتوصيف يحدد العمل الشعري للقصيدة حيث يقول في هذا التوصيف (مسودات لصورة الذات. إن هذه المقدمة ليست إلا أشارة إلى أهمية هذا العمل الانطولوجي الجاد الذي يتقدَّم به الأديب والمترجم المبدع والمعروف (منير مزيد) إلى القارئ العربي لهوَ فعل جاد وأصيل في تفعيل التواصل الثقافي العربي / الروماني ، حيث أننا نثق بتفحُّص هذا المبدع واستقرائه للمشهد الثقافي في رومانيا فهو أديب شاعر عربي ومترجم متمكن، فضلا عن الإمكانية التي تنطوي عليها ذائقته في الانتقاء النصَّاني الذي يرتكز على تذوق ما يُشكِّل ملمحاً مهماً في حركة الإبداع الشعري في رومانيا وتقديم هذا المُذاق طازجاً على مائدة التناول القرائي العربي، لاسيما وان القارئ العربي يحتاج الى التطلع والتمعن في الأسرار الشعرية التي تتواجد في النصوص الرومانية ذلك لان لهذه النصوص إرثاً مرجعياً ضارباً في جذور الهم الإنساني المنشغل بالبحث عن ما يسوِّغ الوجود ويجعل له مآلاً موثوقاً به، أعني مكاناً في زاوية من زوايا التأمل يسكن به الضمير البشري ويطمئن له. وأخيراً نقف مع شاعر تتضح عليهِ ملامحُ التفكُّرِ بالذاتِ وبمستقبلها المجهول في هذا الزمن الصعبِ ، زمنِ انتصار الآلةِ والسوق ، على الشعري والمعرفي ، وهذه الملامحُ تتضحُ لنا من خلال شعرهِ الذي نتلمَّسُ به حلاوةً تختلطُ بها مرارةُ التفكُّر هذا ، على الرغم من الصعوبةِ التي تغلفُ مقولَهُ الشعري _ شيئاً ما _ إلا أن القاريء المتفحِّصَ، وأنا متأكدٌ من أنَّ القاريء العربيَّ كذلك، سيتعرَّفُ على مواطنِ الهمِّ هذه التي تتسمُ بها كل قصائدهِ الموجودةِ ضمن هذا الألبوم الشعري الهام جداً على مستوى التواصل الفكري بين العالمين: عالم الأدب الروماني ، وعالم الأدب العربي. نحن مع الشاعر (فاليريو ستانكو) فهو شاعر مسكونٌ بالحس الوجوديِّ المتأمل لحقيقة الأشياء من حولهِ ، ولقيمةِ دورِها في حياتِنا .. إنه شاعرٌ يضعُ قارءه وجهاً لوجهٍ أمام ثورة على كلِّ الموازين الموروثة. نعم إننا في شعره نتلمَّسُ حلاوةً تختلطُ بها مرارةُ التفكُّر بالذات وبمستقبلها، فها هو يقول في قصيدته (الظِلُّ، جرسٌ نائم) : ندى مقبرةٍ شاختْ تحتَ جفني وأبراجُ كنائسِ جسمِي تُطوِّلُ صوتُهُ يَبْقى في آذانِي إلى الأبدِ إنه الجرسُ النائمُ، والظِلُّ الذي بقيَ مسجوناً في منحدرِ السرابِ أما في قصيدة (الحلقةُ المُظلمةُ، ساعةُ دخانٍ) ، والتي يترافق فيها التأمل مع الخوف ، على اعتبار أنَّ الخوف هو الهاجس الأصيل والمحرِّك الفاعل في توجيه فعل التأمل في الأشياء، إذ يقول : في الليلِ ، ما أخشاهُ هو: السكونُ جرحُ الوقتِ ، الذاكرةُ ، الساعةُ الوثنيةُ على أيةِ حالٍ ، أتجنبُ الفعلَ المنزلقَ لكي لا أضحِّي بنفسي .. وفي هذين المقطعين يتضح مدى التفكُّر لدى هذا الشاعر ، فنحن هنا نستطيع أن نشخِّص تعامله رمزياً مع الموت لاسيما من خلال قوله (صوتُهُ يَبْقى في آذانِي إلى الأبد) وكذلك قولهُ (إنه الجرسُ النائمُ، والظِلُّ الذي بقيَ مسجوناً) ، وكذلك يمكننا ان نتطلَّع الى تخوُّفه من خلال قوله (ما أخشاهُ هو: السكونُ، جرحُ الوقتِ ، الذاكرةُ ، الساعةُ الوثنيةُ) وهذا التخوُّف يؤكد ارتفاع نسبة التأمل ، إذ _ كما يقول المفكِّر الأوروبي علي عزت بيجوفتش _ ان الشعراء هم جهاز الحس في الحياة البشرية وعن طريق شكوكهم ومخاوفهم نتطلع الى المستقبل الانساني ، وكذلك هناك قصائد لديه مبنية عنوانياً على ماهية الخوف مثل قصيدة (هزيمة) وقصيدة (الخلود جرح الوهم) الأمر الذي يدفع بالشاعر الى اعلان الاعتراض وتقديم الثورة على كل الموازين وذلك ما يتضح على قصيدة (الأحد بلا أحاسيس) فنحن كلنا نعرف ماذا يعنيه الأحد ، ذلك اليوم الطاهر ، ولكن شاعرنا هنا عمد الى التغيير في هندسة الاشياء الثابتة، اذ يقول فيها : الليلٌ ممزقٌ ، والفكرةُ تستنيرُ باللغزِ الذي يحيطُ بها .. ثلاثُ مِنْ أوراقِ الموتِ تهتزُّ تحتَ الجفنِ، تحتَ الجفنِ الذي أَحْملُ فيهِ مقبرةَ الندى .. تستنيرُ الفكرةُ بدونِ غطاءٍ ، لا لبَّ ، ولا حدودَ، لا ألمَ ، ولا عاطفة. الأحدُ أعمى، فكُلُّ الآلهةِ ماتت بداخلي وكذلكَ لهبُ التنازلِ الثمينِ. والعجزُ داخلَ المنفى، المرآةُ الباطنيةُ لنتيجةِ الكلامِ .. وهنا واضح مدى حجم انتفاضة الشاعر على الاشياء ، لذا نراه يعلل ذاته بالركون الى المخلِّص الحياتي ، اليومي وهو النوم ، إذ يقول في قصيدة (الخلود جرح الوهم): أَنا ممزّقٌ بالأشياءِ العابرةِ ، بالأفاعي ، والسحرِ إنهُ النومُ فقط هو الذي يكسرُ العقابَ الأبديَّ
وفي مثل هذا القول الشعري الاشكالوي نرى لذة القراءة ولذة الشعر ، ذلك لأن هذه اللذة مستخرجة بطريقة البحث في النص وبطريقة استدراج المفردات الى منصة المعنى. وأخيراً يبقى العمل الانطلوجي الرائع هذا ، الذي تقدَّم به الشاعر والمترجم والروائي الانساني (منير مزيد) هو فيصل الحكم بين يدي القاريء ، وأنا متأكد من أنه _ أي هذا العمل _ سيظل علامةً بارزة في تاريخ العلاقة الثقافية والادبية بين الأدب الروماني ، والأدب العربي.