بعد غد الأحد 17 غشت يفتتح المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية دورته التاسعة والعشرين، لكن الأهم يحتفل بوبيله الذهبي..واللافت للنظر هو أن الذين يسهرون على تنظيم الدورة شباب لا يتعدى معدل أعمارهم نصف سن المهرجان.. كيف سيتعامل الشبان في إرث أسسه الأجداد؟ أجزم أنهم متمترسون بالحلم، بالتجديد، بالبحث و بالمثابرة؟ تشهد الجمعيات العتيدة في السينما تقهقرا، إما لتطور واقع السينما إنتاجا (انقسام غرفة المنتجين) أو لسيطرة بعض الوجوه التي باعت الجمعيات للطاغية (كجمعية السينمائيين التونسيين) أو لتطور آلات العرض وتفتت قطاع قاعات العرض (جمعية الموزعين) أو لتغيير وسائل بث البصريات (الجامعة التونسية لنوادي السينما).. أمام كل هذا التحول في المشهد النضالي السمعي البصري تبقى الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة صامدة وراسخة ومتمسكة بمهرجانها في شكل محضنة بصرية تستقطب عيون الشباب الحالمة، عيون غضّة وخصبة تعكس صورا تختلف عن المسلمات البصرية الثابتة التي تكرسها السينما المحترفة. من الجامعة، من قليبية، تسللت بعض التجارب الهاوية رويدا رويدا الى الاحتراف، وتعتبر الجامعة المنبت الحقيقي للسينمائيين المحترفين الى جانب الاكاديميين الذين درسوا في أوروبا (فرنسا، بلجيكا، تشيكوسلوفاكيا وبولونيا)، فأسماء مثل رضا الباهي، فريد بوغدير، خالد البرصالي، الجيلاني السعدي.. والقائمة طويلة، انطلقوا من الهواية. كيف صمدت الجامعة، وكيف صمد مهرجان قليبية؟ وعي الضرورة أساسا، حلم ليلة صيف 1964 فجر الاستقلال؟ تعطش للصورة؟ الكل تظافر لتأكيد ديمومة جعلت من مهرجان قليبية أعرق مهرجان في العالم العربي وافريقيا ووجهة هواة السينما في العالم ضمن مهرجان يعقد كل سنتين أصبح مهرجانين: السنوات الزوجية مهرجانا وطنيا، يكتفي بالتكوين وعرض الافلام التونسية ومناقشتها، والسنوات الفردية حتى لا يتصادم مع مهرجان أيام قرطاج السينمائية :مهرجانا دوليا حتى تحول منذ خمس دورات سابقة الى مهرجان سنوي ودولي. تطور المهرجان على مسارات ثلاثة: المسار الأول هو التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد، من مرحلة الاشتراكية (وقد ولد في صلبها) لأن الداعم الاساسي لبعث الجامعة والمهرجان كان أحمد بن صالح وزيرا نافذا وممسكا بجل قطاعات البلاد، ولولاه لما كان مهرجان قليبية ثم في السبعينات لما بدأ الانفتاح الاقتصادي، واكب السينمائيون الهواة حشرجات المجتمع لما كانت الحركة النقابية على أشدها وحركة الشباب في أوجها والاحتجاجات في الجامعة في صمودها، فكان القمع ضاربا حتى أتي انفجار 26 جانفي 1978 وكانت تلك الفترة من أخصب فترات الجامعة والمهرجان.. ثم أتت السينمائيات بتلكؤها وتردد النظام في ظل خريف "الباتريارك" الحبيب بورقيبة وعكست بذلك الأفلام ارتعاشات المجتمع، الى أن أتى الانقلاب الطبي وكان من حصافة رأي الشباب واستقلاليتهم عدم السير وراء سرب "النوفمبريين" وتشبث عيون الهواة باستقلاليتهم وكانت سينما التسعينات خصبة، حيث انفجر الفلم الوثائقي وخاصة الفلم الفاضح المعرّي للمسكوت عنه في المجتمع ولا أذكر هذه التجارب والأندية، فذلك يطول. المسار الثاني كان في منعرج الألفية الثالثة وخاصة بعد اكتشاف العدو الحقيقي للعرب والعالم الثالث وهو منبثق منه ( ارهاب "القاعدة" مثلا) ومن خارجه (القوى الإمبريالية) وخاصة مع أحداث 11 سبتمبر التي تزامنت مع انفجار المدارس السمعية البصرية وانفتاح الجامعات عن السينما والتلفزيون تلاحمت تجارب الهواة بتجارب طلبة المدارس السينمائية والمتخصصة في فنون الحرف والتصميم والهندسة المعمارية وأصبح التجريب والبحث المحور الاساسي دون الهروب من التنديد والفضح والنقد والحرية المطلقة. بلا رقابة وحرية تعبير كاملة فرض مهرجان قليبية نفسه وهو المهرجان الذي لم تطاله الرقابة، ربما لأن الادارة رأت فيه "غيتو" وما أجمله من "غيتو". ومع ما يسمى بالثورة، أي انتفاضة 14 جانفي 2011 بقي السينمائيون الهواة على عهدهم متمترسين وراء دقة التحري واليقظة لكي لا يسقط مشروعهم البصري في تمجيد شيء غامض. وهذا هو المسار الثالث. التحولات التقنية وضرورة التأقلم مع العلم، وهذا ما يشدني أكثر الى هذا المهرجان وهذه الجامعة هو أن يوم 14 جانفي في شارع بورقيبة ولم يحكي لي ذلك أحد، بل كنت متواجدا وشاهدا بأم عينيّ، كان الصف الأول من الشباب امام وزارة الداخلية، جله من هؤلاء الذين يشكلون مناضلي الجامعة او اصدقائهم أو في سنهم من أسميهم "عصافير شارع بورقيبة" بلباسهم الخاص وبتسريحة شعرهم المتفردة، وخاصة بخفة أصابعهم في النقر على شاشات الكمبيوتر والهاتف وهم الذين فتحوا باب تكسير الخوف خاصة في مظاهرات ربيع 2010 وموجة "سيّب صالح" و"عمار 404". هذا من الناحية التاريخية الاجتماعية والسياسية، لكن تحولات الجامعة مرت كذلك بالركض وراء التطورات التقنية اذ بدأت التجارب كالنش في الرخام، اذ كانت الأفلام تصور بآلات عيار 16ملم غالية التكاليف وبشريط خاص ثمنه باهض، وكانت الأفلام بملاليم وتسقى بالعرق والعناد والصبر والتحدي. ثم أتى "السوبرويت" عيار 8ملم ممتاز بالألوان والذي يصور صوتا وصورة، وتتالت الأفلام ممططة وطويلة لكن حصافة الشباب وضعت حواجز وخيّرت الدقة والتنظيم عن الكم، حتى أطل الفيديو في الأول بالأبيض والأسود في عيارات غريبة: Umitec ثم Betamax ثم VHS، الى أن تفتق البصر على الرقمي الذي أصبح في المتناول، وأعطي مثلا في السبعينات حيث كنت تشاهد في قليبية ثلاث او أربع كاميرات، ومن يقدر على لمس كاميرا الا المتمرس، واليوم كل يد فيها كاميرا، وكل متفرج معه لوحة رقمية، وها هي بالصور، وها هي أدغال المخيال. كيف الولوج الى هذا الزخم من الإنتاج؟ للجامعة نبراسها، وللجامعة مساراتها تحدده وتبقي مهمه ؟؟ في العام 1960 بمجاز الباب وهي "الأرضية الثقافية" التي تعتبر نوعا من الدستور السينمائي والنبراس والعهد والميثاق. اذن 50 سنة هو عمر المهرجان الدولي لفلم الهواة بقليبية، سن الرشد وليس سن الشيخوخة، ان كان معدل سن الهواة 25 سنة، فهل استبق الهواة أعمارهم، أم هو اتساع الحلم هو الذي جعلهم يراهنون أن يبقى مهرجان قليبية الدولي لفلم الهواة صامدا يحاكي في صبره وعناده برج قليبية الذي جعله رمزا للصمود والحذر والامل الثلاثية التي يرتكز عليها المهرجان: الصمود في هذا المهرجان أكد أنه العنيد الباقي بين مهرجانات العالم العربي هواية واحترافا. الحذر .. ألا ينساق وراء الضوضاء السياسية التي تعيشها البلاد ويواصل البحث والفحص.. والأمل ان تتحول عيون الشباب الخصبة الى ينابيع مخيال تعكس الواقع وتحلل المجتمع ولا ينسى الشباب ان السينما هي فن وإبداع، غير أن قوة الجامعة والمهرجان هو الطموح.. طموح لكسر الحواجز وتجاوز الامكانيات المحدودة والعراقيل لترسخ ثقافة سينمائية من المجتمع الى المجتمع.. • * * * * 50 سنة كان فيها المهرجان الدولي لأفلام الهواة بقليبية المهد الذي ترعرع فيه كبار السينمائيين في تونس، ونشأ في قلوب الشباب حب السينما وحب الفن وحب الحياة. وكبر المهرجان ولم يصبح شيخا وكبرت معه الجامعة وصار المهرجان حبلا راسخا على أرض السينما التونسية وتجددت عبره الدماء في عروق النوادي وصلب الهياكل، غير أن مهرجان قليبية يبدو وكأنه يستوحي من الشابي مقولته "ومن لم يتعلم صعود الجبال يعش أبدا الدهر بين الحفر". • * * * اعترف شخصيا وأنا اليوم على باب الشيخوخة أني تابعت هذا المهرجان منذ سنة 1969، أي حوالي 45 سنة كل دوراته بلا انقطاع، متفرجا وناشطا وعضوا في لجان التحكيم ومنشط ندوات وصديقا، لكن علمني هذا المهرجان الكبير كيف أبقى صغيرا، وأعترف لهؤلاء الشباب بأنهم أهدوا لي كيف احتفظ بشبابي وكيف أبق دوما ألهث وراء الجديد في مخيال حلم الشباب لأتعلم منه ما لم أتعلمه في الجامعات والأحزاب والتجارب في العمل. "إن العالم أرحب.. وأرحب منه الحلم".. فالذي يفتقد أحلامه لا يتمتع بأفلامه وهو مؤهل للانهيار. خمسون سنة من الخلق والمتعة والنضال، هكذا الجامعة التونسية للسنمائيين الهواة وهكذا مهرجانها وكأنهم يحاكون كسرى " اسسوا فصورنا نواصل فيصورون". ملامح الدورة الحالية زخم من الأفلام ولجان تحكيم من الطراز الرفيع سيعرض خلال هذه الدورة 411 فيلما من 25 بلدا من بينها 73 فيلما من البلد الضيف تونس. وستُمثل في المسابقة الرسمية الدولية : ألمانيا بستة أفلام، ولبنان وفرنسا بخمسة أفلام لكل منها، وإيران بأربعة أفلام، وإسبانيا بثلاثة أفلام، وكل من الكونغو وسوريا وإستونيا بفيلمين، فيما السويد ورواندا ومقدونيا وجزر الموريس والبرازيل والبوروندي والأرجنتين وروسيا والدنمارك والمغرب ستكون ممثلة بفيلم واحد لكل منها، إضافة لفيلم واحد إنتاج مشترك بين فلسطين والأردن. وتتكون لجنة تحكيم هذه المسابقة الدولية من كل من المنتجة والمخرجة المصرية مريان خوري، والمخرج المغربي داوود أولاد السيد، والمخرج السينغالي منصور صوراواد، والمؤرخ والجامعي الإسباني خوليو لمانيا أوروزكو، والمنتج وموزع الأفلام التونسي صلاح الضاوي. أما في المسابقة الوطنية التونسية فسيشارك 18 فيلما تونسيا. وتتكون لجنة تحكيم هذه المسابقة من كل من الممثلة سوسن معالج، والإعلامية والمخرجة التلفزيونية لمياء حريق ، والكاتب والناقد المسرحي والجامعي والمنتج التلفزيوني عبد الحليم المسعودي ، والجامعي المتخصص في الإشهار والسمعي البصري بلال بالي، والجامعي والحقوقي شفيق عصمان، وكلهم من تونس.