فاجأتني بالسؤال عن حال البلد، ولم تبرد بعد قبلة ثانية على خدي الأيسر، تأوهت بين يديها عميقا مستغربا تجاوز السؤال عن حالي، بعد فراق طال أكثر من عشر سنين، ذراعاي اللتان حضنتاها بحجم الشوق إلى لقائها، ما زال يدب فيهما دفء وصال افتقدت طعمه، كانت عيناها ذابلتين، لا ينضح الشرار منهما بريقا أخضر، فصل بيننا صمت كنت موقنا من فهمها لدلالته، هل سنبقى واقفين هنا عند باب محطة القطار؟ أسندت مفرق يميني بأصبعين أو ثلاثة، تخطو بي عتبة كبيرة تفضي إلى موقف * الميترو*، قبل امتطاء القطار الموصل إلى مدينتها بألمانيا من باريس، عاودني الشك في التعرف عليها بسهولة، فهاتفتها ملتمسا منها الحضور بشيء يميزها بين النساء في بهو الاستقبال، لم تعلق، ردت سريعا بأنها سترتدي معطفا أحمر، حملتني على بساط اللون إلى صورتها، حين استوقفتني للسؤال عن اتجاه مكتب الطلبة، ابتسمت من حرجي، وقبل تمكن الاستغراب من نفسها، أخبرتها بأني مثلها غريب على الدار، ابتسمت هذه المرة قبلي، ثم رحنا معا نسأل عن نفس الاتجاه، كيف تركت المغرب؟ تمنيت لو أنني تركته بالفعل من زمان، أحسست ببرودة أناملها حين سرت في جسدي رغبة لثم شفتيها من غير بهار، سللت مرفقي ببطء نحو كتفيها، حضنتها، تسمعت حفيف شعرها همسا بضلوعي، في رسالتها الأخيرة، حدثتني عن حرقة الاغتراب القسري، شعرت بتقطع أنفاسها تتصاعد من فورة حلق ظامئ لقطرة ماء، رغم مسافات خلتها كافية للتآلف مع النسيان، ظلت سعاد كما هي، حادة النبرات حين تستحضر الوطن، قبل لقائها بباب المحطة الرئيسة، حاولت تجديد رسم صورتها من وحي تقاسيم الذاكرة، وحده لون وجهها المدور يطفو ماثلا أمام عيني، شبهت مرة، سمرتها الباردة بظل حبة قمح، قالت: لا يشبهني أحد، أريد احتساء قهوة سوداء في هذه المحطة الجميلة، كانت خلفي محطات بلدي المتهرئة، مازالت سعاد تتقن الحكي بإيقاعات نبضها المتكسر، أنقذت صمتي الواجف من عجز كبريائي عن مجاراة صمودها صلبة لم تلن رغم تعاقب السنين، حين بادرت بالحديث عن خروجها تلك الليلة، تسللت إلى مليلية*، مباشرة بعد دخول الجيش المدينة، لم تنكر خوفها من الوقوع بين أرجلهم، استحضرت الشهيدة *سعيدة المنبهي*، قالت إنها تفهم حلكة الظروف السابقة على عهد الملح والاختطاف، غير أنها لا تفهم كيف تتكرر نفس المآسي في *إيفني*، ارتشفت قهوتي السوداء مضطربا بين يديها ثم تعطلت لغة الكلام، استدركت بالسؤال عن حالي طيلة هذه المدة، لم أجد في العشر سنوات شيئا يذكر، قلت بنبرة هادئة،غير زواجي العاثر بحثا عن لحظة أمان بين أربعة جدران، فلم أشأ وضعها في الصورة، تخيلت أنها ستحسبني أراودها عن نفسها من جديد، على قربان التشكي بالباطل ، ما أشبه البارحة باليوم، يصر التاريخ على معاندة المجرى في حياتنا، قالت: يعيد التاريخ نفسه، و نزلت دمعة متباطئة على الخد الكالح، أتراجع عن مواصلة الرؤية في عينيها، سألتني عن ما بعد تلك الليلة عام*الأوباش* اعتذرت بخجلي منها، ظلت تسألني عن الوطن الذي تركته خلفها هاربة من بطش الحديد والنار، لمجرد صرخة ، هل تريد كأسا أخرى؟