حكى يحي بن جعفر قال: نزلت بفاس ليلا، وقد جرى الماء سيْلا، في يوم مَطير، يسوءُ الطَّرير، ذاتَ شتاء باردٍ هِلَّوْف، تقشعرُّ منه الجلود مِن خَوْف، قصْدَ السياحة، وجَمامٍ وراحة. ثم إني بحثتُ عن نُزْل، وقد مضى شطرُ اللّيْل، وشوقي إلى الصَّباح، كما يشتاق الغيثَ الفلّاح. فنظرت فإذا بكلب يتبعني، فقلتُ استأنسَ الكُليب، به جوع ولا رَيْب. وإطعامُ الكلابِ الطّعام، خيرٌ من إكرام اللئام. ثم عَظَمْتُه فنبَح، وما إنْ نبح حتى استنبح. فإذا بالكليب صار أكْلُبا، وكلٌّ يرجو غَلَبا. فتكالبت الأكلبُ على عظم، وليس بينها غير فَدْم. وبَدا الغيظُ والبغضاء، والتحاسدُ والشحناء. فقلتُ صَهٍ ليس ذا بقَدِيد! أليس بينكم كلبٌ رشيد؟ فلما هدأ العِراك، دبَّ الحَراك، إذْ لمحَتِ الأكلبُ سلَّتي، فقلتُ: يا ويلتي! الخَلَّة تَدعو إلى السَّلَّة، والسّلة زادتِ الطينَ بِلّة، وليس للكلاب مِلَّة. ثم إني ألقيتُ لهمُ السَّلة كما يُلقى الحبلُ على الغارب، وقلتُ إِذا لم تَغْلِبْ فاخْلِبْ! ثم جريت فجرتِ الكلاب، جريا دونه قطْعُ الرِّقاب. وأنَّى منه عدْوُ السُّلَيْك، ووَدِدتُ لو أني البازُ فوق الأَيْك. فلم أنتبه إلا وأنا بباب أبي الجُلود، فقلت لعلَّ الزُّقاق تمنعني والأسوار حدود. فولجت المدينة العتيقة، وكلها دروب دقيقة. ثم التفت فإذا الكلاب ورائي، وليس فيهم غير عازم لا يُرائي. فسابقت الريح حتى انقطع النَّفَس، وجفَّ الرّيق وانحبس. فأرسلتُ النظر أبحث عن مَنفَذ، أو عوْنا مِن شهمٍ مُنقِذ. فإذا الدرب مغلق، لا مخرج ولا نفق. فأيقنت أني واقعٌ في شَرَك، وألّا مفرَّ من شِدَّة وضنْك. وأني هالك لا محالة، ويا لموتةِ النّذالة! فذكرت قول القائل: إذا لم يكنْ مِن الموت بدٌّ ؞؞؞ فمن العجزِ أن تموتَ جبانا وذكرتُ أن التَّولي يوم الزحف خطيئة، وهذا يومٌ تُبلى فيه كل خبيئة. وإذا لم يكن الحينُ وقتَ مُحاجَزة، فلا خيار غير المُناجَزَة. فاستجمعت قُواي، وخالفت هَواي، ثم رميتُهم بحجر، وقلت الله أكبر! ففرَّ من فرّ، وتراجع من تراجع. ثم إني عجبت للكُليب تماسك، كأنّي به يَتدارك. لم أسمع له وَقْوَقة، ولا هريرُه بَقْبَقة. ينظرُ إليَّ شزرا، ويَنتوي غدرا. فقلت اسْتَنَّتِ الفِصالُ حتى القَرْعى، حَرىً بِك حرْسٌ في مَرعى. قبَّحك الله! كلبٌ أعلقُ من قُراد، وأفسدُ من جراد. هذا وقد أهديتُك عظما يا أظلمَ مَن حَكَم! ومَن أشبهَ أباه فما ظلم. لكني ذكرتُ أن الذئبَ مُخْلِياً أَشدّ، وما لي عن النِّزال مُحْتَدّ. فقلتُ افْتَدِ مَخْنوق! ليس هنالك ما يروق. أوَليس قد قالوا: هو الكلبُ وابن الكلب والكلب جدُّه ؞؞؞ ولا خيرَ في كلب تناسل مِن كلب ثم إن الكليب همَّ بِعضّي فركلتُه، ثم تقدّم فانتهرته. وبينا نحن كذلك إذ جاءه المدَد، لا يُحصيه حاصٍ ولا يجمعُه عدد. تُخبر عن مجهوله مَرْءاتُه، وتُنبِئ عن بواطنه سَوءاتُه. فقلت: هذه ساعة العُسرة، ولا حيلة لي ولا قُدرة. فلتكنْ إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، والجهاد عبادة. وكاد يزيغ البصر، وأستسلم للقدر، لولا أني أبصرت على الجدار حَلْقاتٍ بعضها فوق بعض، فتسوَّرتُ الحائطَ على عجل، قبل أن يحلَّ الأجَل. ولما نظرت إليهم من فوق، وقد تحلَّقوا كطَوْق، تنفست الصُّعداء، وشكرت ربّ السماء. ثم سبَبْتُهم واحدا واحدا، قائما وقاعدا. وما إن أَفْرَخَ رَوْعي، حتى تناهى إلى سمْعي: لصٌّ فوق السطح، هلُمَّ يا قوم! لا وقتَ للنّوم. فأدركت أني قد وقعت في الحَظِرِ الرَّطْب، ولا مَنجاةَ لي وقد عَظُمَ الخَطْب. فجريت فوق السطوح، على ما بي مِن قروح. حتى ألفيت خُمّا فدخلت، وما طرقتُ ولا استأذنت. ثم إني رجوتُ الدجاج ألا يُنقْنِق، إذ ليس هنالك ما يُخيف أو يُقلِق، فلبّى الدجاج رَجائي وإن لم يُصدِّق. لكن ديكا نقر رأسي ما شاء الله أن ينقُر، وما دريت لِم كان يحفر. وكنت أسمع جلَبَة ولا أرى، والدجاج مُتواطئ وما درى. أو لعلّه اتخذ قراره، فأحسن الإجارة، حين عزَّ المجير، وقلَّ النصير. فقلت هذا الخُم مجَمَّة، فلأمكثْ حتى تَمضيَ المُهمّة. وحين هبَّت ريحٌ أَلوب، تصطفق لها اللحوم والقلوب، شعرت بجوع هِلَّقْت، وحَنقٍ ومَقْت. وكان يصلني الهَرير، ورُبَّ ماء دلَّ عليه الخرير. مثلَ الكلابِ تَهِرُّ عند دِرابِها ؞؞؞ وَرِمَتْ لهَازِمُها مِنَ الخِزْبازِ فأدرك القومُ أني بالحِمى، فالكلابُ لا تنبح عن عَمَى. فقلت: قطَعَ الله نسلَكم! ألذلك قالوا إنكم أوفياء؟ ألا قبَّح الله الوفاء! صدق عزّ مِن قائل: "كمَثلِ الكلبِ إنْ تحمِلْ عليه يلهَث أو تترُكْهُ يلهَثْ". انبحوا يا كلاب! وما ضرَّ وهباً قولُ مَن غمط العُلا ؞؞؞ كما لا يضرّ البدرَ ينبحُه الكلب فسمعت من يقول: ما أهرَّ ذا نابٍ إلا شرّ، اليوم يوم كرّ لا فرّ. وقال آخر: الكَلاَّبُ بيننا، لا عاش مَن يَرُوع أمْنَنا! ها هي ذي كلابُه تنبح، قد أرْوَحتْ ريحَ مولاها! ويلهُ وويْلَها! فأُسْقِط في يَدي، وفقدتُ رَشَدي. لولا أني انتبهت فإذا الخمُّ يطلُّ على زقاق، فقفزت والقفز أهون من حميم وغَسَاق. فرجمني القوم بحَجَر، كما يُرجَم مَن عَهَر. وما دريت أني بسوق الحِنَّاء، حتى أبصرت الفِناء. ثم عدوت ساعة من زمن، كإبل تَحِنُّ إلى عَطَن. فنظرت فإذا بي بباب الفُتوح، فاستبشرتُ خيرا وقلت لعلَّ الفتح قريب، وقد آن أن يرتاح الغريب. فإذا قرنُ الشمس قد لاح، وأصبح الصباح. وما تفرّق الأشرار، حتى طلع النهار. وإذا بالأرض قد بلعت الأكالب، فما لهم أثر ولا عَثْيَر. ثم إني تأمّلتُ حالي، وما بقي من مالي. فوجدتُني استدبرت ليلة لا كاللّيالي. صرتُ لصًّا وكَاَّ با، ورأيت ما يُشَيِّبُ غُرابا. قد فقدت الحقيبة، وتلك أهون مصيبة. أما الحذاء، فطار بالبطحاء. فقلت: ألستُ قد خرجت طلبا للراحة، والنّزهة المباحة؟ فهذه سياحة، جريٌ وسباحة، في ليلة ليلاء، والفصل شتاء، وعلَيَّ عَرَق وماء، وبي حِرَّة تحت قِرَّة، في يوم عَصَبْصَب، تَرى المُجَرَّبَ قد دَرْدَب. أليس قد رأيتُ باب أبي الجُلود، وفي يوم مشهود؟! ومررت بباب الفتوح، ولا مَن يغدو ويروح! وحاذيتُ مولاي إدريس، وليس يتربص بي غير إبليس! وكلاب جائعة، تَراني لُقمةً سائغة، وشربةً مائعَة. وشممتُ طِيبَ القَرَوِيّين، ورِحْتُ سوقَ العَطارين، وتنسَّمتُ أَرَجَ الصَّفّارين. وأرخيتُ لِساقَيَّ العِنان، عند أبي عِنان! قال يحيى بن جعفر: فقلت علامَ إذًا أُطيلُ مَكْثا، وقد كَرَثَني الأمرُ كَرْثا؟ فعزمت على القُفول، راجيا المولى القَبول. وأنا أتلو قول الله جل وعلا: "ربَّنا أخْرِجْنا مِنها فإنْ عُدْنا فإنَّا ظالمون".