يصور فيلم "200 متر" حكاية أسرة فلسطينية منعها "جدار الفصل العنصري" أن تكون أسرة، فيضطر الأب إلى قطع 200 كيلومتر ليستطيع اللقاء بزوجته وأطفاله، عوض أن يتجاوز 200 متر هي المسافة الفاصلة بين أفراد البيت الواحد. "مصطفى" فلسطيني مقيم في الضفة الغربية، رفض الحصول على هوية المحتل (إسرائيل)، رغم أنه من عرب 48، متزوج من فلسطينية حاملة لهوية الأغراب، فيخرج في الصباح من بيت الزوجية إلى العمل، متحملا أعباء رحلة شاقة وطويلة شبه يومية نحو الحاجز الحدودي الإسرائيلي. الفيلم الذي ابتعد عن نقاش السياسة والحرب، اعتبر لدى طيف من النقاد إيجازا لمعاناة ووجع الفلسطينيين اليومي، بعد أن فرض عليهم الجدار حياة الشتات، مثلما فرضها على مخرج الفيلم أمين نايفة منذ طفولته وحرمه من رؤية والدته وجدته. 200 يوم من العدوان على غزة، استمرار واقعي لدراما "200 متر"، لا أهمية لحياة الإنسان في فلسطين في حالتي "السلم" و"الحرب"، 700 كيلومتر من الإسمنت المسلح، تحرم الفلسطيني من أسرته وجيرانه وعمله وحياته، مقابل توفير سكن آمن للمحتلين المهاجرين. وجه التشابه أيضا، أن مصطفى بطل الفيلم رفض الاستسلام لواقع الاحتلال وقبول الهوية الزرقاء، كما تحمل نتيجة قراره، فكان محرضا لوعي أطفاله، الذين أخرج واحد منهم هذا العمل الدرامي الذي انتزع إشادات واسعة عالميا. كذلك غزة في تلخيص الكل الفلسطيني ترفض الاستسلام، فتختار المقاومة، رغم أنه موت لا عودة منه، فتركب جواد التاريخ، وتستل سيف الحق، وتطعن إسرائيل في موضع "شرفها" ولا تبالي. كما الأساطير في الروايات، تحكي عن البطل الذي يقضي بضربة واحدة على عدوين، فعلت ذلك غزة، فضحت كذبة إسرائيل "الجيش الذي لا يقهر"، وإسرائيل رسول الغرب وحامي قيمه وحياده ووساطاته وشعاراته التي أكذبها "حل الدولتين". ضربتها كانت تفريغا لألم "مصطفى" المخزن لعقود، وزفراته مع أبطال الفيلم، إذ ينتظرون الساعات الطوال على حواجز جيش الاحتلال، طمعا في العبور إلى بلدهم المسروقة، خسفت الأرض بالذين تجمعوا لدفن فلسطين في مقبرة النسيان، وإقامة أعراس التطبيع. شبان الفجر الذين أشرقوا على فلسطين في 7 من أكتوبر، فتحوا عصرا جديدا، عنوانه الحق ينتزع ولا يستجدى، درس من التاريخ لا يبلى، يا صاحب الأرض لا تقف أمام حواجز الاحتلال، طمعا في دراهم مقابل عرق تنزفه على أرض تعرفك أنت وأسلافك السابقون، وكأي نبت حلال تقر أن أجدادك وآباءك أحسنوا إليها، قبل أن ينهبها بيض البشرة القادمون من أوروبا وأمريكا. 200 يوم من الحرب على غزة، مائتا يوم من الموت، والدمار، والإفناء، مائتا يوم عاشت غزة وهي تدافع عن النور، ومائتا ليلة في إظلامها عاشت البشرية، قبل أن يتململ بعضها خوفا من الشهداء الذين احترقوا لينيروا طريق الخلاص. الخلاص هو الدرس الكبير الذي كتبته غزة بدمها، ورسمت حروفه بأشلاء أبنائها، وإكبارا لمكانته لم تنس أن تلفه بأثمن ما تملك لحمايته بعد نفاذ الأكفان وحصارها، وكأي بريد من التاريخ أبت إلا أن تعبّقه بأجل ما لديها فكان البارود وأنواع من الأسلحة لم تتمكن مصانع الحرب من إيجاد تسميات لها. ماذا لو استسلمت غزة؟ ما كنا نقف على حقيقة الإبادة، التطهير العرقي، محو عائلات من السجلات المدنية، ما كنت تألم أنت ولا غيرك، ما كان العالم يتوجع ويتحرك. لو استسلمت غزة لانتهت، لكنها رفضت هذا الحل السهل. غزة اختار الحياة، وفي الدنيا التي نعيشها، "الخلاص" مؤلم وموجع، لكنه ضروري لأي ولادة.