في ظلمة حالكة، أتذكر فقط قبضة أبي، ثم ارتخت أصابعه و كأن أحداً سرقه، وكأن الوهم كان يمسك بيدي. بكيت، صرخت، استنجدت ولا مؤنس لوحدتي غير سواد الليل. لا أعرف أي المفقودين أبحث عنه، هل أبحث عني ؟ أم أبحث عن عظمة اليد التي كانت تمسك بي؟ الجسد هش، والعمر صغير، و الليل ذئب جائع يفترس الصغار، لكن رحلة البحث عن أبي أولى. فإذا وجدت أبي، حتماً سأجد نفسي. كنت أجري في غابة مرعبة، أشجارها سدراً وثمارها جمرا. لم أخشى وحوشها أكثر من خشيتي على ضياع أبي. ركضت حتى بلغت مصبّ النهر، فوجدت ماءه يغلي كالبراكين ذي حمرة تسمع من خريره صوت التنّين. من هول شكله عدت أدراجي هرباً من أن تسرقني أم اللهيم. وبينما أنا هارب من غلظة الواد، سمعت صوتاً أشبه ب"المفقود" عدت إليه وكأنني لم أهرب منه، عدت لأبي حتى لو كان نهرا بركانيا سأرتمي في أحضانه. ركضت ثم ركضت، وضاعفت السرعة لأصل إليه، ولما بلغت قدميّ حافة الواد سمعت منادياً يقول : « لن تجد أباك حتى تجد نفسك ». يرباه كيف أجد نفسي وأنا أشعر بروحي عالقة بين جانبي ؟ لكن رغم هاته التساؤلات سأبحث عن نفسي و سأبدأ الرحلة من حيث انطلقت. جلست من حيث بدأت أستحضر تلك القبضة التي أفلتت يدي. هل تركتني بفعل فاعل؟ أم شبعت من أصابعي النحيفة، وابتسامتي البريئة، وجسدي الهش. واليوم.. اليوم.. اليوم، تركتني لتفترسني الوحوش في ظلمة الغابة ؟ هنا بدأت أبحث عمن أنا، ومن أكون ؟ شرد عقلي، ورحلت ذاكرتي تستحضر شيئاً من الماضي، أذكر بهاء أمي قبل أن يغطيها الشيب والانكماش. أذكر شعرها الحالك السواد وجسدها المنحوث. بعد فلاش باك دام لحظات، صرت أتصور بطنها الرطب الذي صار أخشن من حصيرٍ قديم بسبب الولادة. صرت أتصور صورتها الأولى قبل أبي، وقبل ولادتي. كيف كانت أمي وكيف صارت بعد أن عضّت عليها مثالب الدنيا... ثم أقول إذا كان أبي مات وفارق الحياة، لما سمعت صوته على ضفة النهر ؟ لاجَرَمَ أنه أفلت أصابعي ولم يأبه لي من هول الغابة. سيكون حتماً بين أحضان مراهقة تداعبه في سمر الليل، بينما أنا أبكي خشية من غول الظلام. أي سناء بعد أن أطفأ شموعه وتركني أتجرع مرارة السواد. مراهقة لعينة دفعت به ليرمي فلذات كبده دون الإكتراث لدموعهم الفيوضة الصبّابة. ها أنا الآن وحيد بلا أب. كما أنني وجدت المفقودين، مفقوداً مظلوماً و مفقوداً ملعونا. عجباً لأناس ينساقون وراء نزواتهم حتى لو كلفهم الأمر التخلي عن أبنائهم. فلا سمح الله من رمى بأولاده عنوةً في تلك الغابة.