الحلقة الرابعة في دار مسيو كوكو كل شيء مرتب و جميل و مثبت في لوحات معلقة على الجدران. أرضية المطبخ مبلطة بزليج مربع أبيض تنعكس عليه الظلال و الأشكال. أرضية مسكننا مليئة بالنتوءات و الحفر التي تتشكل على الحصير البالي و تؤلم الظهور، تصب فيها أمي الماء الوسخ أحيانا و تقذف فيها أخواتي بقايا ثفل الشاي المترسبة في قيعان الأكواب. يعجبني التبول فيها أثناء غيبة الجميع و أغرز أصبعي فيها مخلطا البول حتى يتحول إلى وحل سائل أسود أخلط به أشكالا غامضة، أتلذذ بها ملوثا ظهر القصعة الخشبية و الصينية النحاسية و هي أثمن ما عندنا في المسكن. رفعني مسيو كوكو من إبطي و وضعني على كرسي أمام حوض أبيض كالسكر. شعرت برعشة تدبّ في جسمي، فأنا لم أطمئن بعد إلى مسيو كوكو. غاب عني في الغرفة الأخرى و تصورت أنه سيحضر بندقيته الطويلة ليطلق علي الرصاص أو يركب أسنانا جديدة ليعضني كما قال لي أبي. تركني في حالة من الدهشة و أنا أولد من جديد في عالم غريب عجيب. سمعت حديثا يدور في الداخل بتلك اللغة التي كنت أعتبرها صياحا أو سبابا. كان هناك صوت نسوي يرن كالناقوس. عيناي مشدودتان إلى الحوض الثلجي الذي تمنيت أن آكل فيه الكسكسو بدل القصعة السوداء. الجعبة معلقة فوقه مباشرة، لم أكن أعرف أنها مصدر الماء حتى أدارها المسيو كوكو فانبثق منها سائلا في الحوض. بدأ ينظف جرحي الملوث بالقطران متقززا من الخرقة الملوثة بالسواد. صاح: -لي فّو، لي صالو. بالحدس فهمت أنه كان يلعن أهلي جميعا بكل فروعهم و أصولهم. كانت هذه بداية شحن ذاكرتي بكلمات فرنسية. نظف ساقي بقطعة قطن ثم صبّ عليه سائلا كالماء أشعل جرحي نارا فصرخت من الألم. فتح قنينة أخرى و صبّ منها سائلا أحمر أفزعني و لكنه كان باردا كالثلج. كنت أتابع أصابعه الرشيقة و هي تعمل بإتقان محدقا في وجهه و كتفيه و لباسه. لماذا لا يكون أبي مثل مسيو كوكو؟ هل في استطاعته أن يكون مثله و لكنه يرفض ذلك لأنه مسلم و الآخر نصراني؟ لماذا يرتدي النصراني بدلات أنيقة و مزركشة ذات أزرار لامعة و تلك القطعة الملونة التي يربط بها عنقه و تتدلى لتندس بين ياقتي المعطف و الجاكيتة و تسميها أمي لڭرفاطة. شعره الأملس البراق بالأدهان و رائحة العطر الفواح الذي سكن أنفي حتى أصبحت أستنشقه في خيالي. يحلق أبي رأسه حتى يصبح مثل الدّلاحة و يلوث تقاسيمه بهذه اللحية السوداء الخشنة المغبرة. يزيل البدلة العسكرية عند عودته و يرتدي التشامير الطويل الفضفاض، فيبدو كميت مكفن. يعذبني أن أعشق مسيو كوكو و حياته و الهروب من أهلي. من يوم شممت عطر هؤلاء، نفرت من أولئك و تكنيت ألا أغادر الجنة التي يحلم بها أهلي و هي هنا في دار مسيو كوكو. أحاط ساقي بضمادة بيضاء ناظرا إلي مبتسما: -أنا يعطيك الحلوى و انت يكون زوين! ثم صاح: -نيكول! نيكول! وجّه نداءه إلى الداخل فالتفتّ. برز طيف نيكول كتلك الغزال التي رسمتها في خيالي و التي كنت أنتظرها في ليالي العطش لتسقيني عندما تتكاسل أمي لإروائي. سرقتي لقطع السكر التي أمتصها ليلا تنتهي لذتها برغبة شديدة لشرب الماء. -انعس، دابا تجي لغزال و تشربك! و أنام محتضنا حلم الغزال الآتية بكوب ذهبي تسقي عطشي. هكذا رأيت نيكول و هي تبرز بطيفها الملائكي و التي انتظرتها ليالي طويلة لتسقيني. عيونها الخضر ككرات الحدج التي تعلقها أمي في السقف و المحرم علينا مساسها. شعرها الأصفر المائل إلى الحمرة كزغب الذرة. اقتربت مني حاملة علبة بيضاء مغلقة: -لباس!؟ هتفت، و استنجدت بما تستنجد به أمي: -أنا في عارك أسيدي مومن! هتفت في خاطري، هل تتكلم لغتنا؟ من أين تعلمتها؟ ترتدي صاية بيضاء ترتفع فوق ركبتيها و تبرز جزءًا من فخديها. تراقصت عيناي بين العلبة و الفخدين المشعين كالشمع، و أجبت بخجل و أنا أتجنب عينيها: -لباس! التفتت إلى أبيها متسائلة: سوني بّا ڭراڤ؟ أجاب: -نو!! و هو ينزلني من على الكرسي، مدت لي العلبة التي خطفتها منها و وددت أن أفترسها بكل ما فيها. رافقتني إلى الخارج حيث رأيت أمتي بكاملها محشورة أمام المسكن في انتظار عودتي من رحلة تمنيت ألا أعود منها. إطلالة نيكول ذلك اليوم، كانت بداية رحلة الاستشهاد و الإغراق في اللعب حتى الحمق و الجنون. أية فرحة زرعتها تلك الحمامة الشقراء في حياتي الحائرة الموحشة المحاصرة بقلعة أبيها المسورة. كم عذبني الإحساس بهشاشة الجذور التي تشدني إلى أرض الفيرمة. لو كنت أعرف أن عضة الكلب بوبي ستفتح لي أبواب الجنة، لذهبت إليه باختياري و أعطيته رجلي هدية ليفترسها بكاملها!! من يومها لم أعد أنتظر غزال أمي لتسقيني، بل أصبحت نيكول تجلب لي الماء في كوب ذهبي بقية ليلي عمري الظامئة فأشرب و أشرب حتى الثمالة. تلك أروع الأيام لم أعشها قطّ، فقد متّ يوم غادرت نيكول إلى الأبد. تتأوّه أمي و هي تعصر الغسيل في الساحة الفاصلة بين مسكننا و دار النصارى. تضغط على الفرّاكة بكل قواها و كأنها تخنقها و هي تتمتم: -أ حياني أ ميمتي على الغربة و الهم. أشياء كثيرة تصدر عن أمي تبقى غامضة لديّ. كنت أدرك أن أمي تغرق في عذاب غربتها و أن الانتماء و الجذور لا تمتد إلى لامكان خارج القبيلة و الدوار و العشيرة. التادلاوي يبقى إلى الأبد تادلاوي، المزابي و الدكالي و الحريزي لا انتماء لهم بيننا..و الخبزة ما تربي الدم! فالجذور جذور الحزن و الفرح و البكاء و النواح و الڭُرحة على الموتى بالحزن المتوحش، لا تتشابه بيننا. قنديل تادلة، بوعبيد الشرقي، لا يمكن أن يمدّ الجذور في أرض غير أرض تادلة. و الويل لمن يحاول إطفاء القنديل! هكذا كانت تفكر أمي بطريقتها التي لا تشبه أي تفكير آخر. نهارات أمي تبدو لي كسفر طويل بلا نهاية. تبدأ مع الفجر و تنتهي في منتصف الليل في رحلة لا تتوقف بين مسكننا و دار مسيو كوكو. حتى ليليها أسفار بين التنصت و الحراسة و التربص. أراها من خلال صفحة الزجاج العريضة المطلة على باب مسكننا، تشدّ وسطها طابلية تتدلى إلى أسفل ركبتيها و هي تتحرك في حركة دائبة لا تتوقف و كأنها آلة كهربائية. أميّز منها ربطة الرأس الصفراء و الوشم الطويل الممتد من شفتها السفلى إلى أسفل ذقنها و الذي يشبه حشرة أم الأربع و الأربعين. عيونها البراقة المتحركة في دوران لا يتوقف، نديةٌ أبدًا، شاحبةٌ أبدًا، المفتوحة ليل نهار. مرات كثيرة أفاجئها و هي تبكي في ركن المسكن بصمت مغربلة الدقيق، محركة الغربال بين يديها بحركة آلية، تغطي وجهها و شعرها و رموشها طبقة شفافة من غبار الدقيق الأبيض، و دموعها تسيل تاركة أخاديد رفيعة وسط ذلك الغبار الشفاف. أرفع عينيّ في أرجاء القلعة الخالية، لا صوت و لا وجود للكلب بوبي و جسمي المنفي و المعزول في ذلك العالم الذي تسميه أمي، الغربة و تبرّانيت، و تلك العصافير التي تعبر سماء الفيرمة في اتجاه لا أعرفه، تاركة وراءها حسرة الجسد المحاصر الذي لا يملك قدرة الهروب من هذا العالم الفارغ من ثرثرة الأطفال و جنونهم. صفائح بوبي جرجرتها حتى مللتها. الجري من طرف الفيرمة إلى طرفها الآخر لا متعة فيه إلا التعب. تشدني لهفة طاغية جارفة عارمة للكلام و الثرثرة و طرح الأسئلة و علامات الاستفهام! لا أحد يجيبني. يتخلص أبي من بدلته العسكرية الثقيلة و يعلقها في مسمار على الجدار. يرتدي التشامير الأبيض الفضفاض و يلف رأسه الحليق اللامع بالرّزّة و يقول: -الدين قبل البطن و لو كانت من نصراني. ينزوي في ركن بين المسكن و السور و يضع المقراج النحاسي الأصفر عن يمينه. يرفع الجزء الأمامي من التشامير و يجلس القرفصاء ليبدأ الاستنجاء. أجلس القرفصاء أمامه و أحني رأسي حتى تتدلى ظفيرتي على الأرض و أنا أتمعن في أعضاءه ببساطة و اهتمام و كأنني في فرجة. لم يحاول قط أن ينهرني، فقد كانت طفولتي جواز مرور لكل ما هو محرم و ممنوع. ينتهي من وضوءه و أبتعد عنه لتسلل يدي بين فخدي أتحسس أعضائي المكومة كحبات زيتون. أجذب هذا الشيء التافه النابت في لحمي كعقب سيجارة و لا يتجاوز ما بين أصابعي، فأحسّ بالغبن يجتاح روحي. متى أصبح بطول سارية كأبي، أحمل أثقال الشعر و الثياب الثقيلة و أغوص في الضباب و الليل كل يوم. يتفجر مني كل شيء، الفحولة و الرجولة و الطول و العرض و كل الأشياء التي أدركها و لا أدركها. عندما أصبحت رجلا لعنت الأيام التي داست عمر الطفولة و أغرقتني ندما. كيف نكبر ثن نطرد من زمن الفرح الهادر في حياتنا كغضب البحر. "تمنّوا ما شئتم، التحليق في الهواء أو السير فوق موج البحر، أنا لا أريد شيئا سوى أن أصبح طفلا! يصلّي أبي بطريقنه المرتبكة السريعة، صلوات جهرية و سرية، الحمد لاه رب العالمين الرحمان رحيم إياك نعبد و نستعين و لا الضالين.آمين. لا أكبر!! ينتهي من صلاته فيجلس مادا ساقيه متكأً على الجدار متنهدا: -آبني عمير و بني شڭدال..غيتونا! أجلس على فخديه و أنا ألعب بضفيرتي: -اشكون بني عمير أبّا؟ يبتسم في سهوم و يهمس: -هي بلادنا أولدي هْلْنا و احبابنا، غادين نمشيو واحد النهار. تقاطعه أمي و هي تضرب العجين على جلد كبش عيد الأضحى: -آش تعمل فيها، مخلّي فيها فيرمة؟ لا يثور أبي على احتجاجها و يقول باستسلام: -كل برّاني معڭوبتو لبلادو! تزفر أمي: -أحياني على اللي ما يخمم! هاجس الغربة يحرقني و أهلي. تولد المسرة من عناق أبي في الأماسي، و في ليالي غيابه يلتهمني شبح عيشة قنديشة، الآدمية التي تملك قوائم حصان أو بغل، مهددا كلما فتحت عيني في ظلمة الڭراج. يقفز شاقور أمي بنصله الأسود، طائرا في الهواء باحثا عن عنقي. يشتعل في حلقي الظمأ و أفتح صدري طريقا للغزال التي ستأتي كاملة كوبها الذهبي لتسقيني ماء الزهر. تشق نيكول التشامير على صدري، تدفع الغزال فينهرق الرحيق من الطست اللامع. قبل أن أصرخ تلقم فمي خوخة وردية يسكرني رحيقها فأسبح في الدهشة و أتأوه من اللذة. أغمض عيني و أنام في فراش من زغب الذرة. يغرق أبي في أحلامه القبلية و أنا أقفز في الهواء و أرتمي على سرير مدام كوكو المنقوع في الحليب و الحرير فيحتج إطاره على الدخيل. يرتفع صراخ أمي في جنون و تغرز أظافرها في ظهري لتنتزعني من الجنة: -آويلي ويلي على المسخوط ابغا يحرم علي الخبز! الله يعطيك السالمة! اخرج اعطيني التساع! و تعالي أيتها الحصيرة المصابة بالجذري من فوق و من تحت لتري أين ينام أهل الرضى و تذرفين بحرا من الدمع على أهل السخط و اللعنة! "فيان ميمي، فيان!" تشدني غزال الليل و النهار من ضفيرتي السوداء، فأتبعها مطاوعا كالجرو. أضحك بجنون العمر كله و أقفز جذِلا. لقد جاءتني نيكول برخصة الحلم و الحياة. تغادر الفيرمة صباحا برفقة أبويها و أُقعي كالجرو منتظرا عودة شلال العطر. يسافر الموكب و تبقى عيناي تتلقفان الرحيق المخلفة. مدام كوكو، عريش النعناع، المبفوفة في سروال أسود و هي تمشي كطائر الزرزور. مسيو كوكو يتحرك في مشيته كما وصفته أمي بحال كركدان، حيوان الوعل الذي يتمختر في غابة من غابات الأطلس، يحمل بندقيته بيده اليمنى ملوحا بها في الهواء. تلقيت أول درس في القتل و الموت من تلك البندقية المخيفة و هو يطلق النار على كلب ضال تسلل إلى الفيرمة. ارتفع في الهواء و رسم دائرة لمجرد فرقعة من تلك البندقية اللعينة، قبل أن يسقط منكفئا على وجهه دون حراك. أزهقت الروح و ذهبت إلى حيث لا أدري. لماذا يضرب الموت ضربته في الهواء و يبقى الجسد كومة جامدة متكورة مثل وسائدنا المحشوة بالشرويط و الحَلفاء؟ عندما توفيت أختي إيزّة تصورت أن مسيو كوكو أطلق عليها النار من بندقيته. تحت الصاية السوداء يبرز فخدان عاجيان مصبوغان بلون الحليب و التفاح. أمي الحزينة تطلق بخور الجاوي و الفاسوخ لتطرد الجن و العين و النحس و العشق من الجسد الأسمر السابح في التشامير الملوث، ذكرها البكر، ذخيرتها في الأزمنة القاسية. لقد ولدتني عن شوق حار كالنار. -آ ولك حمادي ڭاسم! هذا لحمل خفيف ما يكون غير ولد و حق سيدي مومن! يجيب أبي في صوت متعب: -الحمل حملك، ديري منو اللي ابغيتي! و صدقت أمي و معها سيدي مومن الذي سمع استنجادها!؟ لقد سبقت أمي علوم العصر في معرفة جنس الجنين و هو في البطن و قد تكون من بركة كل الأولياء الذين استغاثت بهم!؟ ولدتني أمي عن شوقها الحار لتُسمّيَني نيكول، ميمي. تنفلت يدي لأرفع الصاية و كشف ما تحتها، فأنا سليل فرسان البارود و النساء. ثنت قامتها لتبعد يدي الوقحة و يحمر وجهها شفقا تنحر على صفحته الشمس قربانا للمساء. تنفر و تضحك بخجل و احتجاج: -نو ميمي، نو! تمتد قامتي القزمية حتى تصبح شجرة صفصاف تطاول ضفائرها السماء و تتدلى على وجه مدام كوكو العابقة عطرا و ألوانا. تشبه الحلم، بقفازين أبيضين و عينين بخضرة الحناء. تجمع شعرها الأصفر كصينيتنا النحاسية، بمنديل أزرق يختلط بلون العينين. تمد نيكول ضفيرتين نافرتين على الأذنين و تقفز كغزار مولود. مسيو كوكو، ببذلة بنية يسبح شعره الأملس البراق ذو الفَرقة الجانبية على طوله الفارع كأبي. يدفع نيكول أمامه و يمسك زوجته من يدها متجهين نحو باب الفيرمة الكبير. ترتفع دقات ناقوس كنيسة مسقوفة بالقرميد الأحمر، برنين جاف يضيع في الهواء. -فين غادي مسيو كوكو أَمّي؟ تندهش و تصيح: -و انت مال؟ غادين يصليو. هتفت متوسلا: -نمشي معاهم أمّي! تضرب فخديها و تصرخ: -أ ويلي هما انصارى و احنا مسلمين! وتخنقني رغبة في البكاء. ألحّ مرة أخرى: -نمشي معاهم! ترمي ما في يدها و تصيح بصوت مخيف مستنكرة تجذيف ابنها العاق الكافر الذي تتمنى أن تصنع منه إمامًا يؤذن و يصلي في المساجد و يرتل القرآن في الأعراس و حفلات الموت. -آشنو؟ سير الله ينعلك! و الله يا بوك! و تهدد وجهي بدقاقة المهراز النحاسية. لو تتركني أمي أتبع موكب الملائكة، لها دينها و لي ديني، عشقي المسافر عبر الكنائس و البيعات و المساجد و المعابد لا دين له. لين أمي تعرف أن العشق لا دين له! تسقط براءتي في مستنقع الغيرة من هذا الكلب اللعين. نقترب منه معا و يدرك من أنا و من هي. أقف بعيدا، فينظر إلي بعداء مكشوف. تضع نيكول يدها كملعقة فضية على رأسه فيخفضه إلى الأرض في خشوع محركا ذيله الغليظ بفروته الكثة. يُقعي على قائمتيه الخلفيتين و يرش الأرض بقطرات البول. ينكشف ما بين ساقيه فتصيح نيكول: -روڭارد ڭران استيلو روج! يتدلى عضو الكلب بلون عكري، يبرز و يختفي مع تحلّب ريقه و لسانه الضخم يتدلى بين أنيابه. تثيره نيكول و تسنفزه بيدها التي تتنقل عبر قروة ظهره و هو يرتفع و ينخفض متمسحا بها. لقد هشّم هذا الكلب اللعين براءتي، فكل تمائم أمي جاءت متأخرة. الشوافات و الفقهاء و البخور و وسائل الدفاع ضد العين و أم الصبيان و بوصفير..كل شيء ذهب هدرا. لقد فتح بوبي ثغرة هائلة في دفاعات أمي و جعلني أسقط في قبضة إبليس! رفعت طرف التشامير و أمسكت بعقب اليبجارة النابتة في لحمي. يشبه خلقة الكلب و لا يشبه قبعة مسيو كوكو. يعذّبني أن ترش نيكول أمواج العطر على الكلاب المكرمة. تشتعل تلك الحرائق القديمة ليصل لهيبها إلى أهذاب الذاكرة، هذا الصندوق العنيد الذي يشبه حقائب البخلاء التي لا تفرّط في شيء. ما تزال نيكول تتعلق بتجاعيد الذاكرة كل هذه السنين الطويلة. لماذا تموت منها و فيها أشياء كثيرة إلا تفاصيل النساء؟ يتحول الماضي إلى مقبرة هائلة من الجثت الحية لنساء يغبن عن الوجود و يقفزن في الخيال. نيكول و مارية و عائشة. آه من عائشة! تقول لي، أيها العروبي إن حبك غزا كل دروب المدن و كل ما فيّ و ما عليّ. تسدل خيمة شعرها الليلي، فتغتال الأهذاب و العيون و الصباحات. حوّلتني من عروبي جلف إلى رومانسي يكتب الشعر بالدم و الدموع و الآهات. لم تستطع سهول بني عمير الوضاءة أن تغالب أضواء و ضخب المدينة الهائلة، فهربت بجروحها التي لم تندمل بعد اكثر من ثلاثين سنة. سحبت نيكول من ملعقتها الفضية؛"فيان نيكول، تعلمتها على وزن فيان ميمي، أهلك يغتالون وطني و أنا أهتك عرضك الثلجي. أبوك المعطر يقدس كلبه و أنا أفترس ابنته في مهانة أستحق عليها الشنق. تطاوعني في استسلام كحمامة مكسورة الجناح. أقودها في اتجاه قفص الدجاج المعلق على أربع قوائم عالية و أزيل غطاءه السلكي المشبك. لقد اخترت عرش الحب على فراش من ذرّاق الدجاج. صعدت إلى القفص و استلقيت ببطولة على ظهري، تمددت فوقي خريطة النصارى المهاجرين من البحر إلى برّ سيدي مومن. كل شيء مصاب بالخصي في هذه الأرض. انهمرت فوق وجهي شلالات شمس الشمال فضممتها بقوة العمر. لم أدر ماذا عليّ أن أفعل!؟ حلمت أن أمي رفعت زغرودة عالية احتفاء بفحولة ابنها الوحيد الذي يغزو القطب الشمالي..و..هبت عاصفة مجنونة اقتلعتني من حلم تلك الغزال التي تبعثها لي أمي في ليالي العطش لتسقيني ماء الزهر. طارت نيكول من فوقي تبتلعها ذراع وردية، و امتد الهول إلى التشامير لينكمش على صرتي بفعل القبضة القوية. ما أبشع غضب مدام كوكو الرائعة!! لقد تحولت إلى ذئب بأنياب بشعة. أرتفع في الهواء ثم أهوي على كومة من الأخشاب. يرعد صوت مدام كوكو: -صالو، ديمون!! أتدحرج كالكرة التي لم أكن أعرفها إلا كُبّة شرويط محزومة بالخيوط. تتعرّى مؤخرتي العجفاء و تصطدم بقية أضلاعي بحصى الأرض، ثم يتلقّفها حذاء مدام كوكو الأسود اللامع. عجيب حذاء مدام كوكو، تمنيت لو أن أمي ترتدي مثله بدل البلغة المفتوحة من الكعب، تكشف عن تشقق قدميها. كم تمنيت لو أن أمي تمشي بكعب عال و تكشف عن ساقين عاجيتين كنساء النصارى و تتمايل كأغصان الأشجار في مهب نسيم الصيف. كم تمنيت أن أرى أبي يفوح منه العطر، بوجه لامع صقيل فأناديه جاك أو جون! أتذكر أمي تقول: -آش خاصك آلعريان، خاصني خاتم آمولاي! تقولها بإصرار كمن يكفر و يتوب رافعا أصبعه بشهادة أن لا إله إلا الله. تسلّق الكعب العالي تضاريس جسدي المغيب في الهزال، يحتك بعظامي كطرقات مطرقة. ذلك ثمن الغزو في الجسد الثلجي. تدحرجت مرات لم أعرف عددها ثم أنقذتني قدماي الحافيتان. من يجرؤ على تحدي نصرانية كمدام كوكو؟ عندما ابتعدت مسافة لا تمكنها مني التفت نحوها متحديا؛ موووه مووه! الصوت الوحيد الذي تعلمته خارج الفيرمة هو خوار البقر. تصلبت وقفتها رافعة يديها إلى وسطها تحدق في باندهاش. تعلمت يومذاك أن اللغة هي التي تترجم حالات الغضب. كل غضبها لم يؤثر في لأنني لم أفهم ما كانت تقول. ماذا كانت تقول مدام كوكو في ثورتها؟ من يدري؟ أجبتها متحديا مرة أخرى؛ مووه، مووه! مراقبة أختي فاطنة للمشهد أنقذني مرة أخرى. - اهرب، اهرب ألمسخوط!! انطلقت مدام كوكو تجري ورائي ككلبة مسعورة فالتوت قدمها اليمنى في الكعب العالي، فانكفأت على وجهها و تدلّت من صدرها كرتان عاجيتان معلقتان في تريكو وردي، و انتشر شلال شعرها الأصفر عبى الأرض، فتعلقت به الأعواد و الأتربة. ضربت الأرض بغضب مرات و هي تبكي و تصيح، ثم انطلقت هاربة لتغيب في دارها الجميلة. ترقرقت في حنجرتي ضحكة هازئة شامتة. تعلمت من هزيمة مدام كوكو و مصيبتها معي، معنى الشماتة. أختي كانت تختبئ وراء الباب، جرت نحوي و صحبتني داخل المسكن و هوت بضربة على قفاي خنقت آخر مووه كانت تصدر مني. كانت ضربة حب لم تُبكني. جئت بعد أربع بنات فأصبحت بذلك الفارس المدلل الذي يحصل على ما يريد. أدخلتني المسكن و أقفلت الباب بالمزلاج الثقيل. جاءت أمي و جلست على الحصير دافنة رأسها بين ركبتيها و أجهشت بالبكاء. ربما عضتها مدام كوكو أو هددتها ببندقية زوجها، من يدري؟ رفعت وجهها إليّ ميللا، بالدموع: -ما باقيش تمشي للدار، ما بقذاقي تقرب من نيكول. قالت ذلك بصوت متعب واهن. وصل إلينا صراخ نيكول من وراء الزجاج حادا مؤلما تخالطه لغة غير مفهومة. هل كانت تستنجد بي؟ هل أحدثت تلفًا في ذلك الجسد العاجي؟ من يدري؟ مددت يدي من تحت التشامير لأتحسس عقب السيجارة، ما زال هناك و لم تحدث فيه نيكول أية خسائر لكم! أحسست بالفخر! لقد أصبحت رجلا أثير اهتمام العالم كله. أهم من ذلك إغضاب النصرانية و الشماتة فيها. طلع نهار آخر على حياتي دون لعب. مللت جرجرة صفائح بةبي و الجري من مسكننا إلى الطرف الآخر من الفيرمة و أنا أشد طرف التشامير بأسناني. طلع نهار آخر بلا شمس و لا شلالات ألوان و لا نيكول. لم يُقدّر لي قط أن أضع ضفيرتي في يدها لتجرني منادية إياي؛ ميمي! استسلمت مرة أخرى لمراقبة المدينة الغامضة الغارقة في الصباب و الأسرار و بحرها المخيف: - البحر يا ولدي ليس وراءهإلا الظلام الكثيف، لا شمس و لا نهار و لا يعلم ما فيه و ما وراءه أحد إلا الله! أسأل أمي باستغراب: -و لكن النصارى، أ لم يأتوا من البحر أو من وراءه؟ لكن إصرار أمي على عدم مناقشة معرفتها و ثقافتها لم يرض أسئلتي. شيء ما يقول لي أن نيكول بأنوارها و أشعتها قد جاءت من وراء البحر مع أمها التي تشبه في قدها عريش النعناع و تحمل في صدرها الرمان الرومي. مسيو كوكو بقدّه الشبيه بكركدان لا يمكن أن يكون من هذا البرّ. لقد جاء هو كذلك من وراء البحر. ماتت نيكول من وجودي، اختفى الهمس المدغدغ و توقف جريان الدم في العروق. حُرّم علي طيف الغزال الساقية عطشي ليلا، فلم أرتو أبدا. أزور قفص الدجاج المعلق لاسترجع تلك اللذة المغتصبة بالأمس، بحثا عن ذلك الشلال المشع بالنور و الحليب و التفاح، شلال نيكول. اليوم بعد تكاثف السنين، أزور فيلات بولو بحثا عن شلالات شعر عائشة الضائعة في غمام المدينة الغامضة التي تخيفني. أراقبها مختبئا و هي تغادر الدار مع أبويها كلما دق ناقوس الكنيسة المبحوح يوم الأحد. تلوح لي بيدها اليسرى من خلف ظهرها، نفس التلويحة التي تبعثها لي من خلف الزجاج في بيتها كل مساء عند عودتها، و هي تلتفت حولها خائفة. علمتني عائشة أن تلويحة اليد هي سفر الحب من اليد إلى القلب. أركب الحافلة من ڭراج علال، فترفع يدها و هي ترفرف بالوداع فتغتال جسدي و تجذب خلفها الروح، تلك التلويحة التي تشبه جناح طير يرفرف على فؤادي. لقد أصبحت الدارالبيضاء بمحيطها المخيف و ظلال حي بولو و وحشة سيدي مومن، قدري الطاغي الذي لم يتوقف طغيانه عن مطاردتي. خُيل لي بعد ذلك، أنني لم أعش إلا لتلقي تلويحة الوداع من نيكول التي اختفت من حياتي و لم تختف من قلبي، و نحن نغادر الفيرمة ذات مساء من أماسي سيدي مومن الرائعة، لتفسح الطريق للحرائق القادمة التي لم تنطفئ ألسنة لهيبها حتى اليوم. أيها الناس، لقد ماتت أختي إيزة! أمي تبكي وحدها في حرقة قاتلة. تضرب رأسها العاري إلى الجدار و تجذب شعرها ىالقصير المجعد كالمجنونة. تغرز أظافرها في الوجه الشاحب المصقول و تحرثهما من الصدغ حتى يلتقيان دمًا أسفل ذقنها الموشوم. تتعب و تتأوه ثم تجلس و تمد رجليها و تلوي جسدها في دائرة تمتلئ دما و دموعا. تهتز و تبدأ في إنشاد ترنيمة الموت: الموت الحارة ما عذراتك الغربة و تبرانيت ما كفاتك لا دمعي و لا دمّي يبرد الڭلب الموت الغدار اغصب شبابك أمي يا مّي واش يبرد الڭلب غير الموت يديني في جنابك تلتفت حولها كالحمقاء باحثة عن فاطنة و رابحة اللتان تدفنان رأسيهما بين ركبتيهما. تصرخ أمي في هوس: -ياك ألكلبات باردات الدم! هذي هي حرقة إيزّة؟ نوضو ندبو ختكم! هيأت أمي مذبحة من أجل إيزّة، تناثر فيها الدم و الشعر و قطع الألبسة..عاشت بكلة للمآتم. يموت أقرباؤنا و لا يطفئ الحرقة إلا حضورها، رحمة حمادي و إلا بلاش!! تنبطح على زرائب الأشواك و ترمي نفسها في ضايات الماء و المرمدات و المزابل و هي تصول محرضة ميتات الڭلوب، الباردات الدم. يتبع