الحلقة الثالثة الفصل الثاني يتراءى لي في عتمة المساء آتيًا نحوي بقامته الهائلة و كأنه ينبع من الضباب، يخطو نحوي بتلك الخطوات الواسعة و هو ينحدر من ذلك المرتفع الذي يفصل منطقة سيدي مومن عن بقية العالم الذي لا أعرفه. عندما يقترب مني، أميّز سحنته السمراء المتعبة، فأقفز مادًّا ذراعي القصيرتان، فيتطاير التشامير في الهواء كاشفا عن ساقي الهزيلتين. يقنرب مني داكًّا الأرض بحذاء عسكري ضخم مبتسمًا بعينين نديتين و تنفرج شفتاه عن أسنان مصفرة من أثر التدخين، من خلال لحية كثة مرصوصة على وجهه بكامله. -أهلاً بالراجْل! يهتف لي و هو ينتزع يدي الملفوفتين عن ركبتيه ثم يرفعني بيدين عملاقتين حتى أصبح في موازاة وجهه، فيهوي على فمي بقبلة حارة طويلة تسد أنفاسي. ينزلني على الأرض و يبقى دبيب وخز لحيته على وجهي. يسحبني وراءه و هو ينحني في اتجاهي ماسكًا يدي الصغيرة التي تتمسك به و كأنه سيهرب مني. عندما نصل إلى الباب الصغير المؤدي للفيرمة، يدفعني أمامه و يحني قامته العالية لينفذ من العتبة. هناك تقف أمي لتهتف له: -على السلام! يبادلها أبي بتحية هامسة: -الله يسلمك! كل شي لباس. و تفسح له الطريق مبتعدة، في حين تتسابق أخواتي الثلاث معانقات الأب الذي يغيب أسبوعا كاملا يشتغل فيه ليلا. ندلف جميعا إلى المسكن الذي كان عبارة عن ڭراج مسقوف بالقصدير عال و عريض و معتم، فصل منه جزء صغير استعمله المسيو كوكو، صاحب الفيرمة دكانا تتناوب على مراقبته أمي و أخواتي و أبي في عُطله. الڭراج المعتم مبني بالبريك دون تبليط، مفروش بحصير عريض و فوقه على الحواشي هَدّونات باهتة و عدة مخدات تستعمل للاتكاء نهارا و للوساد ليلا. كل شيء كان محشورا في تلك الغرفة التي كانت تشكل موطننا جميعا، المقراج الأسود و علقاته الثلاث و الخباز و المغرف و القصعة الخشبية التي تستعمل للعجين و للكسكسو معا، و الطاجين و حتى القَعدة القصديرية التي تستعمل للغسيل و الاستحمام. أهم شيء في عالم أمي، تلك الأشياء ذات الأسرار و القوة التي لا يدركها أحد سواها، المعلقة على الجدران و المحرم علينا جميعا مسّها؛ حوصلة خروف عيد الأضحى السوداء المتدلية من السقف و عدد من حبات الزقوم التي تطلق عليها اسم الحدج و صرات صغيرة تضم أشياء سرية لا يعرفها أحد. من أهم ما كانت تحافظ عليه أمي، ذلك الشاقور ذو النصل العريض الذي تضعه كل ليلة تحت وسادتها في غياب أبي تحسّبًا لكل طارئ. ينهار أبي على الحصير البالي و هو يتمتم: -آه يا ميمتي! ما أن يزيل الحذاء العسكري من قدميه حتى يبدأ في إخراج محتويات الكيس العسكري في فخر و اعتزاز و حذر؛ طايب اوهاري، و الحمص المسلوق و الشريحة-التين المجفف- و كاوكاو...ثم رأس خروف ملفوف في ورق سميك بعينين براقتين تحدقان في لا شيء و بنحر ما زال طري الدم. حبه لذكر الأماكن و الأحياء التي يشتري منها أغراضه، جعل أسماءها تلتصق بذاكرتي إلى الأبد؛ هذي من الباب الجديد، بوسبير، سانترا، بورنازيل، بوشنتوف...لفافة سرية يسلمها أبي لأمي و هو يحاول إخفاءها عن أخواتي، لم أكن أعرف محتوياتها. أسأل أمي في فضول و تشوق: -آشنو هذاك أمي؟ تنهرني مبتسمة: -هذاك شغل لعيالات. ثم تخفيها في مكان لا أعرفه. أدركت سرّ اللفافة الغامضة عندما ضبطت أمي تمضغ شيئًا كلحاء الشجر ثم تحك أسنانها و تصبح شفتاها مصفرة بلون غامق. تمرّر تحت أهذابها عودًا رفيعا مبروما بعد أن تغمسه في مسحوق أسود يقطر من عينيها دموعا بلون المطر، يحدث ذلك يوم عطلة أبي الأسبوعية عندما أغتسل معها في القعدة القصديرية و أحك ظهرها بخرقة خشنة تفرز خيوطا سوداء مفتولة تتساقط و تترسب في قاع الجفنة، و تمشط عُرفي و ظفيرتي في حب و فخر. أثناء ذلك اكتشفت مواد تجميل العصر، السواك و الكحل و الحنة و الحرڭوص... تلك الأسماء التي يذكرها لنا أبي، من حيث يشتري البضاعة الأسبوعية المدسوسة في الكيس، تبدو لي رموزا غامضة لمدينة سرية هائلة يتحدثون عنها كشيء عظيم يفوق مخيلتي و التي ترمي أبي كل مساء فيعانقني. كنت لا أرى منها إلا أفقا مسدودا مغلفا بسديم أبيض يختلط بزرقة السماء، يكوّنان حصارا على مخيلتي لم أستطع النفاذ منه. لم أكن أغادر هذه القلعة المسورة إلا نادرا متشبتا بأذيال أمي و هي تحمل سطلا تطوف به على أبواب الفيرمات الأخرى طالبة اللبن. عندما يمتلىء السطل أحتسي منه غاطسا أنفي و فمي و ظفيرتي في ذلك السائل الناصع البياض، تنهرني أمي غاضبة: -تلعق كالكلب النعمة التي خرجنا عليها لبلاد. و أعود لأقف أمام باب الفيرمة متطلعا إلى الأفق الذي يقذف أبي فيعانقني و يحملني بين يديه كطائر الزرزور. الفيرمة التي نسكنها واحدة من عدة ضيعات منتشرة بفضاء سيدي مومن بعضها مسورٌ بأسوار عالية، كضيعتنا، أو منخفضة، و بعضها محاط بأسلاك، يملكها النصارى منذ عهد الاجتياح الفرنسي، يُربّون فيها الأبقار الحلوب و يزرعون الورد و الخضر.. جنسيات مختلفة من إسبان و ألمان و فرنسيين..لا أذكر منهم إلا مدام مورطو و عدد من المغاربة؛ السّي الذهبي و آيت الغازي و محماد الشلح. في مساءات و صباحات الصيف الجميلة، تنتشر الكرويلات و سيارات البيكاب العتيقة، محملة بصفائح الحليب و حُزم الورد و الخضر، متجهة إلى المدينة الغامضة التي يطلق عليها أهلي اسم، دار بيضا. تقول أمي أن هناك مسافة خالية بين كاريان سانترا، و هو جزء من المدينة، و سيدي مومن تزرع فيها الخوف على أبي الذي يقطعها ماشيا بعد مغادرته الطوبيس الآتي من الباب الكبير و نهايته في سانترا. صورة أبي من ذلك الزمن الرائع، تحتل مساحة هائلة من ذاكرتي الطفولية، القامة الشامخة و البذلة العسكرية ذات اللون الأخضر الغامق بأزرارها النصف مكورة، تلمع مع أشعة الشمس كصَوانٍ نحاسية مصقولة. بقي هذا الإرث من عمله كمنظف طائرات في مطار أنفا، حتى كبرتُ و ارتديتها لأتقمّص صورة أبي المحارب بلا انتصارات كدون كيشوت. في عزّ شبابي الخائب، عندما أصبح أبي يلقبني، بالشماتة و الخاوي، و ألقاب مهينة أخرى، و أصابني بجرثومة الكتب، قرأت رواية طيران الليل لسانت إكسيبري و حدقت في غلافها و هتفت في داخلي، هذه صورة أبي في عصره و دون طائرة. ألوك مرارة أن يكون أبي مجرد صورة باهتة لحلم عظيم. أريته الصورة: -هذا بحالك أبّا في دار بيضا! و بمرارة و غيظ يجيبني: -واش عملت أنت؟ و يصبّ على جسمي ماء صقيعيا من المهانة. كان يريد مني أن أكون رافدا من روافد حياته القاسية لا قارئًا بالمجان. أيام جنتي و أنا صغير، أسأل أبي و أنا أمسك طرف القبعة العسكرية متلاعبا بها: -علاش أبّا هذو ابحال وذنين لكلاب؟ يشير لأختي إيزّة و إلى الكيس العسكري: -اعطيني عدة الدخان! تناوله السبسي البني الطويل و المطوي الجلدي الذي يحشو فيه تبغ التدريحة الرخيص. يحشو الشقف الحديدي بلون البلاتين و يشعله بعود الثقاب. يسحب نفسًا طويلا حتى يصبح شدقاه حفرتين ثم ينتفخان بالدخان. يشهق ثم ينفث غمامة سوداء تملأ المكان بعتمة و يرمي الثقاب المشتعل على الحصير المهترئ. يبقى مشتعلا فترميه أمي بفردة البلغة لتطفئه و تهمس: -الله يكون في عون هذا الحصيرة! ينفث الدخان ثم يسحبه ليبتلعه مرات متجاهلا تعليق أمي. يلتفت ليجيبني: -على حقّاش مواليها كلاب و أولاد الكلاب! يشدني الإلحاح و أسأل في خوف: -ما تخاف يعضوك أبّا؟ يطلق سحاب الدخان من منخريه كغبار أسود و ينحني عليّ قائلا: -كيعضو الملايين، آش يسوا ابّاك؟ ألحّ على أبي و خوفي يكبر: -مسيو كوكو، ما تخاف يعضك أبّا؟ تحتجّ أمي: -النصارى أولدي كايعضو ناس الوطن اللي كايضاربو معاهم، احنا ما كانديرو والو! لم أفهم شيئا مما قالت، فسبحت مخيلتي في قلق بلا حدود و أصبحت أخاف. حيّرتني فكرة أبي عن النصارى، ظلّت تحفر في داخلي خوفا كلما رأيت أحدا منهم. كم تختلف عنا هذه المخلوقات في كل شيء؛ العيون الخضر و الزرق، الشعر المائل إلى الصفرة أو الاحمرار كالزعفران، حتى في اسوداده يسترسل في خيوط حريرية متموجة يتلاعب بها الريح كلما هبّ. تجلس أمي مادةً رجليها في أي مكان، تنشر عليهما منديلا أبيض و هي تمشط شعرها القصير الكث، تعضّ على نواجذها و هي تشدّ المشط ممررة إياه و كأنها تحفر الأرض. يتساقط الشعر على المنديل و تتوقف عن المشط لتبحث عن قمل صغير تسحقه بين أظافرها كحبات رمل. تعذبني المقارنة و أسأل أمي: -أمي واش النصارى مڭملين بحالنا؟ تجيبني أمي من ثقافتها الأصيلة و بجدية: -لا، هما ماشي مسلمين! أبحث عن قملة بين ثنيات التشامير، فأقبض عليها بحرص بين أصابعي. أجري نحو أختي الكبرى رابحة و أصيح منتصرا متحمسا: -دادا! دادا! شوفي الڭملة. أنا مسلم!! تتقزز و تُشيح بوجهها صارخة: اتفو! سير يالمسطي ارمي الخنز! أُصاب بالانتكاس و أنا أبتعد عنها ساحقا القملة بين أناملي. من منّا أو من منهم النصراني أو المسلم؟ مسيو كوكو يتبول أمامنا دون حرج، مخرجا عضوه الأبلق متتبعا خيط البول، يرفعه و يخفضه و كأنه يسقي حديقة. تهرب أمي إلى الداخل و هي تتمتم: -ويلي ويلي على الجيفة! أختي فاطنة تسترق إليه النظر من تحت إبطها و هي تعصر الغسيل. أبي يجلس تحت أشعة الشمس مادا رجليه و هو يخيط قطعة ثوب و يهش رأسه دون أن يتكلم. أبي عندما يتبول يجلس القرفصاء منزويا في مكان لا يراه أحد. أتبول أنا بطريقة عشوائية و في أي اتجاه فعلمني قائلا: -لا تبول على القبلة! و وضّح لي الجهة الممنوعة. أخرج عضوي الشبيه في حجمه بشقف التدريحة الذي يدخن به أبي و أريه لأمي صائحا: -شوفي أمي أنا ما عندي شابّو بحال مسيو كوكو!! تغرق في الضحك حتى تستلقي على ظهرها و تدمع عيناها. لا تجيبني حتى ينتفخ صدري غضبا و تساؤلا: -المسلمين ما كايخليو الشابو، كايقطعوه! حدثتني في ما بعد أن السلطان ابن يوسف أمر بختان كل أطفال الفقراء بمقاطعات الدارالبيضاء و كنت واحدا منهم. و قد أنقذني الختان من الدم الفاسد. الدم الخايب، كما تقول أمي، و الذي لازمني في طفولتي المبكرة و أنا رضيع. سنوات طويلة و أمي ترفع عينيها إلى صورة محمد بن يوسف في دائرة القمر و تهتف: -الله يرحمك يا بن يوسف! كون مت انت ما عاش لي ولدي اللي ما شفتو حتى اعميت. أشياء كثيرة أخرى تعذبني بالمقارنة بيننا و بين النصارى؛ اللغة و الملابس و الطعام و الشكل و السلوك..حتى الضحك يظل فاصلا بيننا و بينهم. كل شيء لامع و مثير. لماذا يعضّون كالكلاب إذن؟ كلما رأيت مسيو كوكو يغمرني الإحساس بالخوف و التعجب. رجل جميل الوجه بشكل مثير، في الأربعينات، ذو شعر أسود لامع و متماوج. أبي يحلق شعر رأسه بكامله حتى يصبح كتيمومة. أشعر بقشعريرة و غضب معا من المقارنة التي تصيبني بالاندهاش من هذه الجاذبية الغريبة التي تميزهم عن أهلي. يُرعبني المسيو كوكو كل صباح و هو يغادر داره، ماسكا البندقية الطويلة الفوهة بيده اليمنى مع زوجته التي أعرفها باسم مدام كوكو كما تناديها أمي، و ابنتهما نيكول التي كانت تكبرني قليلا. يركبون سيارة الجيب المغطاة بباش أزرق غامق و يغادرون الفيرمة من الباب الخلفي الضخم ذي المزلاجين الحديديين، عبر ممر مرسوم بأحجار صغيرة نابتة رسمها أبي و زرع ما بينها أزهارا بألون مختلفة يسقيها أيام عطله بواسطة مضخة صغيرة تشتغل بالبترول، يشغلها بحبل يلفّه على أسطوانتها. يجذب أبي الحبل بقوة، فترتفع فرقعات كأصوات البارود، تخيفني فأهرب محتميا بأمي و أخواتي. يتدفق الماء من أنبوب مطاطي طويل يحمله عبر الفيرمة حتى الطرف الآخر منها حيث شيد المسبح المربع المحاط بجدران اسمنتية واطئة. أثناء فصل الصيف، تغلي شمس سيدي مومن، فيمتلىء المسبح بالنصارى نساء و رجالا و أطفالا، يسبحون عراة إلا من قطع صغيرة تستر عوراتهم. لم أكن أستطيع الاقتراب منهم لأان أمي تمنع علي ذلك مهددة بأصبعها: -شوف! و الله يا بوك و تقرب منهم حتى يضربك مسيو كوكو بالبارود!! لحمهم الأبيض الناصع، أكثر بياضا من جسم أمي و هي تستحم في القعدة القصديرية، يثير فيّ أحاسيس غامضة. أقف بعيدا عنهم و أقبض على ضفيرتي بيدي اليمنى و أجذبها حتى أحس برأسي يكاد يقتلع و باليد اليسرى أشدّ طرف التشامير و أرفعه أعلى حتى ينكشف فخذاي و أجري نحو أمي باكيا: -أمي! بغيت نعوم معاهم! تصاب أمي بالدهشة و هي تفتح عينيها الواسعتين العسليتين محدقة فيّ بغضب: -آشنو، تعوم معاهم؟ سر الله ينعل والديك! و الله يا بوك! تعض على شفتيها مهددة إياي بفردة البلغة التي تلوح بها في وجهي، فأهرب منها باكيا. فكرت بحرقة يومذاك و أنا أكتشف أن المسألة كلها ليست في من يعضّ و لكن في من يتقزز من من. امرأة رائعة الجمال و البياض كالشمع، مدام كوكو، لا يمكن أن تكون وحشا خُلق ليعضّ، فهي لا تشبه تلك الصورة البشعة التي تخلقها أمي اعيشة قنديشة. أمي تعرف ذلك و هي تصف مدام كوكو بعريش النعناع، لرشاقتها و روعة قدّها. ملاك و هي تمشي و ملاك و هي تتكلم. الذين يعضون لا يشبهون مدام كوكو، إنهم يشبهون ذلك الكلب الضخم المرعب المربوط إلى جذع الشجرة الهائلة النابتة وسط أرض الفيرمة. هذا الوحش بفروته السوداء و أنيابه و هيئته المخيفة، يحبه المسيو كوكو بشكل غريب. كل مساء ينزل من سيارته علبة كرطون مليئة بصفائح ملونة يفتح بعضها و يضعها أمامه ليلتهمها بسرعة مجنونة و هو يحرك ذيله الضخم. يلعقها في وقت وجيز فيتركها لامعة مغسولة بلسانه الضخم المتدلي. يتحلّب ريقي و أنا أراقبه من بعيد متمنيا أن أنال نصيبا منها، و لكن اللعين المجحوم، كما يسميه أبي، لا يترك فيها شيئا. أنتظر حتى تجمعها أمي في سطل الزبالة، فأثقبها بمسمار و أربطها بحبل و أملأها حصًى و أجرجرها عبر ساحة الفيرمة كعربة، مقلدا سيارة المسيو كوكو: -ڤان! ڤان! ڤان! عاع! تش! تش! يتطاير ريقي و أنا ألهث جاريا لأقلد سرعة السيارة. في أحد أيام عطل أبي، جلس كعادته أمام مسكننا المواجه لدار مسيو كوكو الخالية ذاك اليوم، مما جعلني أتجرأ و أسحب صفيحتي على أدراج مسكنهم الأسمنتية. خطر لي أن أستفزّ الكلب المنبطح تحت الشجرة الضخمة. توجهت نحوه و أنا أسحب الصفيحة المليئة ترابا و حصى و هي تطير كلما تعثرت في الأحجار. رغم حذري و تركي مسافة بيني و بينه، إلا أن قياسي كان خاطئا. بقفزة من مكانه و زمجرة، فقدت توازني فسقطت على مسافة تمكّن فيها من مدّ أنيابه إلى ساقي اليمنى. صرخت من الرعب و سقطت على وجهي. كان الألم قاسيا لا يُحتمل. صرخت أمي مولولة و جرت نحوي لتسحبني من يدي بعيدا عن الكلب. احتضنتني و وضعت فمها على أذني و صاحت: -كرررط، كرررط. باسم الله عليك اوليدي. أمسكت رجلي متفحصة مكان العضة التي كانت خفيفة، فلم يتمكن من غرز أنيابه في ساقي. وصل أبي مرعوبا يحمل هراوة هوى بها على رأس الكلب مرات و هو يصرخ: -الله ينعل جد مولاك ! كان الحيوان يعوي و يدور حول نفسه محاصرا بين الهراوة و السلسلة في محاولة للهروب إلى لا مكان. حملني بين ذراعيه إلى المسكن. أحضرت أمي قنينة قطران أسود و لطخت مكان العضة و حزمت ساقي بخرقة. وضعت حجرا مصقولا على المجمر المشتعل حتى سخن فلفّته بقطعة قماش و بدأت تضعه على الخرقة التي تلف ساقي و أنا أصرخ من ألم الحرارة التي نفذت إلى لحمي. حضرت أخواتي قبل العصر بقليل فتعالى صراخهن. ضمّتني إيزّة و هي تبكي و تصيح: -آويلي على خويا اللي ما بحالو حد! كانت الكارثة ذات وجهين، أصابتني بالعضة و الكلب الذي ما زلال يعوي من الألم دون توقف. و هناك كارثة لها وجه آخر، ماذا سيقرر المسيو كوكو و هو يكتشف ما أصاب كلبه؟ هل سيطردنا من الفيرمة؟ كانت أمي تنوح و تتمايل يمينا و شمالا: -أويلي على المكتوب لقفر! يا الله شبعنا خبز و استقرينا من الدوران في القبايل و الدواور. فين نمشيو ثاني؟ كان أبي صامتا يحدق في الفراغ في حين كانت أختي إيزة بتمردها المعهود تقول بصوت حازم: -هو مالو المسيو كوكو مولانا اللي خلقنا؟ خويا هو اللول! الله ينعل بوه و بو الكلب اللي عض خويا. قبل الغروب عاد المسيو كوكو. توقف أمام الكلب الذي ما زال يئنّ بصوت خافض. نزل من سيارته يحمل علبة الكرطون و وضعها قرب الكلب الذي لم يتحرك. كنا جميعا واقفين أمام المسكن نراقب الذي سيحدث. جلس القرفصاء و مد يده يتفحص رأس الكلب الدامي. صاح: -كْليفة، اڤيان إيسّي! حملني أبي بين ذراعيه و أنا أتركّل و أصرخ: -لا، لا، غادين يعضوني ابجوج هو و الكلب. لم ينتبه إلى صراخي فقد اتجه نحو المسيو كوكو بخطوات واهنة و كأنه يسير إلى إعدامه. حدق في أبي و هو يقول بهدوء غريب: كْليفة، أنت يضرب بوبي!! أحسست بذراعي أبي ترتخيان تحتي فأنزلني على الأرض: -نو، نو مسيو كوكو، أنا ما يضرب بوبي. أجاب بنفس الهدوء: -أنت يكذب كْليفة! شوف الدم! كانت لحظة شبيهة بالانتكاس لا أنساها طوال عمري و أبي ينكر ما فعل و هو الذي يقول لي: -الكذاب ما يغفر ليه الله، الكذب يقلل الرزق! أشار إلى رأس الكلب المنتفخ من أثر الضرب. خفض أبي رأسه في استسلام و إذلال. خشيت لحظتها أن يحدث له شيء. و من يدري؟ خشيت أن يعض أبي و يعضني كما فعل كلبه. كنت ما أزال ممددا على الأرض رافعا رجلي إلى أعلى. زحفت نحو أبي و لففت ذراعي حول ساقيه. انحنى عليّ و رفع ساقي المعضوضة قائلا: -شوف مسيو كوكو! بوبي يعض الموتشو! فتح عينيه مندهشا و انحنى عليّ متفحصا ساقي متقززا من الخرقة و رائحة القطران. صرخت من الخوف و أنا أتشبت بساق أبي. جلس القرفصاء و مدّ يده إلى ساقي قائلا بلطف: -ما يخاف، أنا يعطيك الحلوة. وضع أبي يده على رأسي مطمئنا و هو يقول: -ما تخافش غادي يعطيك الحلوة. كلمة الحلوة تركت في أذني صدى غريبا. لم أذق شيئا اسمه الحلوى من قبل، حتى عطر مسيو كوكو الفواح ويده الناعمة، جعلني أتشوق لاكتشاف عالم لم أعرفه من قبل، و مع ذلك كان الخوف أكبر من الرغبة و الفضول. أبي يغمز لي بعينيه الاثنتين و يعض شفته السفلى مشجعا. استسلمت ليده الناعمة و هو يسحبني وراءه في اتجاه داره و أنفي يمتلىء بعبق العطر الغريب الذي لم أشمه قط في دارنا. أي عالم هذا الذي أتت منه هذه المخلوقات التي يسكر عطرها الدنيا؟ كيف أقارن بين ما أشمّ الآن و بين روائح القطران و الحنة و الفاسوخ و الغاسول و تلك الأخلاط التي تطلي بها أمي وجهها فتصبح مخيفة كعيشة قنديشة التي تخيفني بها عندما أرفض النوم ليلا. حتى أبي عندما يضمني إليه تنفذ منه رائحة نافرة تسد أنفاسي، خليط من العرق و الرطوبة التي تفوح من رداءه العسكري الذي لا أذكر أحدا من الأسرة غطسه في ماء. أوقات أمي و أختي فاطنة موزعة بين الاهتمام بالدكان و دار مسيو كوكو، غسلا و تنظيفا و طبخا. أختي رابحة تشتغل عند نصارى آخرين لا أعرفهم. إيزّة الصغرى، كانت تشتغل في معمل الشرويط و لا ترتاح إلا يوم الأحد. في الليالي التي يغيب فيها أبي بعمله الليلي، ننام مصطفين على الحصير المحروق بطفية السبسي الذي يدخنه دون توقف أيام تواجده بالبيت. ما زال صورة ذلك الشاقور الرهيب ذي القبضة الحديدية و النصل الأسود العريض، تتراقص في ذاكرتي كلما جذبتني إلى ذلك الزمن الذي لا ينسى. في غياب أبي لم تكن أمي تنام و أنا أشعر بأنفاسها اللاهثة قربي. ربما كانت تواجه ضجرها اليلي بالتقلب في الفراش و التنهد و أحيانا تتمتم بصوت مسموع: -أستغفر الله العظيم. أدنى حركة أو صوت يجعلها في حالة استنفار. خشخشة الفئران في الدكان المفصول عن غرفتنا بجدار من الآجر تجعلها في حالة استنفار. تقبض على الضاقور و تتنصت في حذر. كانت أمي شجاعة بشكل لا يصدقه الرجال و تفخر بوصف مدام كوكو لها: -رحمة كوراج! غالبا ما كانت تحمل سلاحها الرهيب في ظلمة الليل. أتشبت بأذيالها صائحا، فتدفع يدي بقوة هامسة في غضب: -اسكت، عيشة قنديشة تاكلك!! يشدني رعب قاتلفأتكوّم على نفسي في الفراش منتظرا الطوفان، شاعرا أن كل أعضائي مكبلة بسلاسل ثقيلة. لأول مرة أدخل دار مسيو كوكو، لأن أمي تمنعني من الدخول لسبب لا أعلمه. عندما كنت أتلصص على الأدراج لمغافلتها و هي مستغرقة في التنظيف، أجد الباب مقفلا فأمدّ رأسي لأنظر إلى الداخل و لكنني لا أتمكن. ذكاء أمي ظل أقوى من حيلي و لذلك لم أتمكن من النفاذ إلى تلك الجنة مغتصبا أسرارها بالقوة. يُخيل إلي أن هذه المخلوقات ليست من سكان الأرض مثلنا. من يدري من أين أتوا!؟ أقرر في استسلام أنهم هبطوا من السماء مع تلك الشهب اللامعة المشعة نارا التي تسقط من السماء و التي يقول عنها أهلي، إنها أرواح الذين يموتون. ارتخت يدي في قبضة مسيو كوكو و لم يعد يسحبني وراءه. بدأت أسير بجانبه و أنا أشعر بوخز خفيف في سلقي المخدوشة. تخلّف أبي وراءنا و اتجه إلى المسكن و أهلي كلهم واقفون منتظرون ماذا سيحدث. صعدنا الأدراج الثلاثة و دلفنا إلى بهو الدار الصغير الذي يشكل ىجزءه المواجه للباب مطبخا. يا لروعة الأشياء!! و يالبشاعة العالم الذي أعيش فيه أنا و أهلي! مغرفة أبي الخشبية السوداء المتآكلة جنباتها و كأن فأرا قضمها، يأكل بها لكسكسو أو صيكوك عندما تحضر أمي اللبن من الفيرمات الأخرى. الطاجين و البرمة المكسوان بطبقة سميكة من الدخان المتفحم و الذي تلحسه أمي أثناء وحمها، و المغرف الكبير الذي يستلقي على رأسه النصف الدائري في ركن المسكن و الذي ضرب به أبي أختي إيزة حتى طار دمها إثر فورة غضب لم أعرفها...أي شيء يثير الاشمئزاز في هذا الڭراج غير شبح عيشة قنديشة التي تذكرها أمي بالسمن و العسل نهارا و تصنع كوابيسي ليلا. روائح الرطوبة و علب الكرطون المليئة بصرات تضم مواد أمي المستعملة لحالات الطوارئ، حبات القزبر و الحرمل و الحديدة الزرقاء و نباتات جافة، الكروية و الغاسول و كرات الحدج الصفراء التي تحايلت على أمي لسرقتها و استعمالها ككرة، و لكنني لم أفلح. حراستها المشددة على عالمها الخاص تجعل من المستحيل على أي أحد المسّ بمقدساتها. ترش خليطا من الحبوب على جمر المحمر الملتهب، فيتصاعد دخان كثيف و لهب برائحة كريهة تطردني من المكان بقية النهار. أشياؤها و مقتنياتها، قشور الرمان و حوصلة الخروف المحنطة و حدوة الحصان التي تراقبها باستمرار...كل هذا ظل خارج دائرة عقلي، حتى الأسئلة التي أطرحها تواجَه بالصمت. اسكت! ماشي شغلك هذا! تنهرني أمي فأشعر بالدوران في دوامة لا تنتهي. من أي عالم جلب المسيو كوكو هذه الأواني اللامعة التي تبرق مع أشعة الشمس؟ صحون و أواني و سكاكين و أكواب و شوكات، تسميها أمي فرشيطة، تغرز أغلبها في ثقوب الجدران أو تعلقها في السقف.