ألقمت دادا النار في المحرقة أعواد زيتون يابسة. ارتفع دخان أزرق فأعادت تحريك النار بعود أسود كانت تعدّه للغرض. سال الدخان الأزرق إلى فوق، حيث السماء زرقاء أيضا. اضطرمت النار. أسدلت يدها اليمنى الممسكة بالعود الأسود، بعد أن أخرجته من الموقد وأطفأت ذؤابته ثمّ ركزته في الأرض المبلولة. بقيت متفكّرة. و في تفكّرها كان لابدّ أن تضع أصابع يدها اليمنى المتخشّبة من البرد ومن نتوءات المسحاة على شفتيها الممحوّتين. البارحة كانت في الجنّة. *** الأدراج التي تقود إلى الجنّة عالية و مديدة. قدّت كل درجة من حزمة صغيرة من أغصان العنب. قدّام باب الجنّة شجرة خضراء لا أعرف ماهي؟ ضعت في ثنايا الجنّة. وجدت «بركانه» على قارعة الطريق. قلت لها يا «دادا بركانه» لماذا أنت وحيدة؟ أين «سيدي التركي»؟ قالت لي «لقد ذهب إلى حوش «جهينه»، لأنّ ناقتها على وشك أن تضع. سحبتني من يدي إلى البئر. تعالى أريد أن أريك شيئا. إنّ حديثك مع ابنتي «عيشه» في سير الناس هو شَعر فوق الماء. نظرت إلى البئر: خوذات سوداء تقفل على الأعناق، وثمّة من يجمع التين في قفاف معمولة من الحلفاء. رأيت ذلك في «سانية سورال» قريبا من البئر. ثمّة من يجمع التين في سانية الجنّة. وثمّة من على رأسه خوذة من الحديد يحاول جاهدا أن ينزعها عنه. *** ذهبت إلى الجنّة. لي أطفال موتى هناك. قالت لي «تركيه»: تعالي أنظري. إنّ أطفالك قد ناموا دون دثار كاف. أنت لست ّأمي. إنّ كل غطائنا هو «حولي» لا يردّ برد الشّتاء. «الحولي» وهبته للّه. طرقت بابي متسوّلة فأعطيتها إيّاه. زاغت عيني بين أطفالي الموتى النائمين. بينهم برّادة ماء صغيرة. قلت لهم مد ّوها لأشرب. قالت لي «تركيّه» أنا لا أستطيع أن أحمل برّادة الماء. التقطيها أنت. انحنيت نحوها. بيد واحدة استطعت أن أشرب وعندما حاولت أن أسندها إلى فمي بيديّ الاثنتين، لم أستطع أن أحملها. ولم أشرب. «تركيه» لبثت عندي ثلاثة أيام ثمّ ماتت. كان عندي حلزون فارغ غير أني لم أفطم ثدييّ. لم أملأ الحلزون بالحليب ولم أضعه على قبر «تركيه». عندما تمتصّ الشمس الحليب من الحلزون، تنفذ الأثداء من الحليب الذي يثقل الصدر بعد أن غادرت «تركيه» إلى الجنّة. سنتان ونصف السنة وأنا أرضع «تركيه» من تحت الأرض. قرينتي هي من تقوم بذلك. ميّتة تجيؤني في الليل. أرضعها فتعود إلى قبرها. فطن الناس جميعا بي. أثدائي كانت مليئة. «محرز» لبث عندي أسبوعا. قدمت «النعوشه أمّ الصغار» مع غرانيق البحر في الليل وأخذته معها. كنت لا أزال نافسا. لم أضع شجرة حسك فوق السطح. لم أعلق منجلا على واجهة الدار. أخذوا «محرز» إلى الجنّة. «رشيد» لبث عندي شهرا. صنعت له دوحا من الدفلة. ذهب أبوك في الليل للسهر في حانوت «الذهبي». كنت نائمة ومرفقي فوق أخيك والعباءة مرفوعة بالكاد كي لا يختنق وحتى يدفأ قليلا. ولجت « أم الصبيان» من الشباك. كنت في حال بين النوم واليقظة عندما مرقت بين يدي. بين الإصبع الكبير والإصبع الصغير. يدي محلولة. طائر مرق بين يدي. كدت أمسك به لكنه فلت. عندما أشعلنا فتيلة الزيت وجدنا الطفل ميّتا وقد قاء دما. لبث «ابراهيم» عندي يومين، ثم تذكّره الله. قال الموتى سنذهب للعشاء. ذهبت معهم. ثمّة شبابيك تطلّ منها النار. ثمّة أدراج من العنب والتين. وديان بها أوحال. أكل الموتى طبيخا من اللفت وكسرات من الشعير. حمل لي صغيراي «محرز» و»تركيه» إناء من الحليب. «الحبيب» أرضعته في الصباح. أوقدت الحطب وأعددت له حمّاما من ماء دافئ. لففت القماط على جسده فنام. الغيم داكن. كان الغيم داكنا وثقيلا. وعندما حللت القماط، كان جسده مليئا ببثور من الماء. لم يمت في ذلك اليوم المطير. مات بالنهار الذي يليه. *** الموتى أحسن حالا منا. يشتغلون. تجيء حافلة تحملهم. يذهبون إلى «هنشير الشاذلي» كي يغرسوا العنب. صنعوا من أعواد العنب أدراجا. صعدت. وجدت نفسي في عرس. ناس الجنّة منهمكون في ختان الأطفال الصغار. قالوا لي يا «رمضانه بنت مختار» تعالي غنّي لنا. كانت هناك «ربح» بنت عميّ. انضاف لها طفل في الجنة فأرادت أن تختنه. قدمت على النساء في تمام زينتها. كانت نظيفة ولباسها جميل وكانت تستند على اثنتين من بنات عمّها: «تراكي» و»زهوه». ولم تكن تقدر على المشي لوحدها. عندما رفع الطهّار الولد بدأت أغني: شيّعتهم بالعين حتى اللّي راحوا حسّيت القليب مع الجواجي طاحوا شيّعتهم بالعين حتى اللي اتقّوا حسّيت القليب مع الجواجي رقوا صاحت بي النسوة: غنّي غناء غير هذا الغناء. غنّيت: طلّيت عل الأوهام نلقى عشب ونواره لا ضحن... لا دخان حافت الدمعة القطاره قالوا لي يجب أن تسكتي. قلت لهم نادوا من أجلي على «عيشه بنت التركي» كي تسندني في الغناء. كانت «علجيّه بنت خالتي» توزّع المناديل. «علجيّه» لا تزال حيّة. أعطت المناديل لخالتك «ذهبيه» فرفضتها. خالتك غاضبة على ربّي الذي لم يرد أن يهبها أطفالا في الدنيا. لم تكن خالتك تريد مناديلا من الجنّة. *** الجنّة بها سوق راسم. ضعت. لم أعرف أحدا. جذبني رجل من خلفي. ألست رمضانة بنت المختارّ؟ قلت له أين أبي؟ قال لي إنّه يشرف على العمّال وراء «الكرومه». قلت له أين أمي؟ قال لي إن أمك قد وضعت ابنا في الجنّة. دخلت على أمّي في الحوش. كانت تفرز القمح من الزئوان. قلت لها من يهتمّ بك؟ قالت لي أختك «غزاله». خرجت «غزاله» من بيت المؤونة، تحمل طفلا. رأسها مضفور. ثمّة ضفيرة مرميّة على صدرها من أمام. الضفيرة الأخرى على كتفها. قالت لي أمّي: برّاد الشاي قريب منك. سألت «غزاله» كيف حال «زعره». قالت لي «زعره» ستزفّ وهي لا تزال محتجبة على عريسها. قلت لها من هو عريسها؟ قالت لي «الذهبي ولد احمد بن الذهبي». هؤلاء جميعا موتى. كان خاطري مخطوف في سوق الجنّة. رأيت خالي «احمد» يمرّ معجولا. ناديته. قال لي: الحافلة سترحل ولن يمهلني أحد. كان ذاهبا للعمل وراء «الكرومه». *** رأيت الجنّة. الجنّة التي يختنون فيها الأطفال الصغار. إنّ قرينتي أنا «رمضانه بنت المختار» هي من جعلتني أتكشّف على كل شيء. الجنّة التي بها شبّاك وحيد من النار. ديار مصفوفة من أجل الموتى. غابات يحتطب فيها الموتى. زرائب تجزّ بها الأغنام. الأدراج التي تقود إلى الجنّة معمولة من أغضان العنب. كلّ درج معمول من حزمة صغيرة . قدّامها شجرة خضراء لا أعرف ما هي؟ *** لم ألتّق بقرينة أمّي عدا مرّة واحدة. كنت في السابعة، ربّما. وكان جدّي «المختار» وجدّتي «هنيه» لا يزلان على قيد الحياة. ركبت مع دادا الحافلة من حفوز إلى « أولاد هلال». كانت تتحدّث مع امرأة غريبة. وكنت ألصق وجهي ببلور النافذة. أتنفس بعمق. تتكوّن طبقة رهيفة من البخار فتحجب كلّ شيء. أمسح البلّور بكمّ قميصي: سفوح صغيرة بلون الرصاص، هضاب منثنية وكانت الأشجار تعدو. أشجار «الكالاتوس» واللوز والرّمان والزيتون كانت تعدو. كان الوقت صباحا ولكن الضوء الذي غطّى على كل شيء كان يشبه الضوء الآفل لنهايات النهار. توقفت الحافلة. جذبتني أمي. حان وقت النزول قالت لي. تشبثْت بثوبها البدوي - كان ثوبا أزرق، أذكر جيّدا - بينما كانت المرأة الغريبة تنتحي جانبا بساقيها وتدفعني برفق باتّجاه أمي. عندما كانت دادا تهبط الأدراج الصفراء التي تآكلها الصديد انحسر السفساري عن رأسها الملفوف في المناديل . كنت أرغب في تنبيهها. استدارت نحوي بضوء عينيها الضاحك. وحملتني إلى صدرها وهي تبسم لي ثمّ أنزلتني إلى الأرض وقد أسكرني عطرها العفويّ. انتحينا قليلا عن الحافلة التي كانت أبوابها تنغلق محدثة صريرا حادّا. كانت تمسكني بيدها. تحرّكت الحافلة ببطء. كانت دادا هناك. رأيتها وهي تلفت باتجاهنا ممسكة بيدها اليسرى سفساريها من تحت ذقنها. جفلتْ وبدأت في الخبط على بلّور النافذة الذي مسحته بكفي الصغيرة تاركا علامات واضحة. جفلت أنا في الأسفل، على الأرض. أخطأت في المحطة وتركت أمي بالحافلة. بدأت دادا تضرب على الكرسي وهي تنظر باتجاهي ثمّ هرعت نحو السائق وهي تصيح به أن يوقف غول الحديد الذي يهدّد بفصلها عني. كنت أحاول الإفلات من يد المرأة الغريبة التي حسبتها أمي. تجاوزتني الحافلة و لم أعد أر دادا. ازداد رعبي. توقفت الحافلة. انفتح البابْ القصديرُ. نزلت أمي وهرعت دون سفساري باتجاهي. انفلتّ من المرأة الغريبة ودفنت رأسي في عبّها. في الحافلة حشرت من جديد بين النافذة وبين أمي. وكان الركاب يلتفتون باتجاهنا. بلّور النافذة مضبّب في بعض الزوايا: غابة الصنوبر على اليمين تعدو. الضوء شحيح فوق قمم الأشجار الخضراء ذات الإبر. ربّما كان الفصل خريفا. تلك كانت المرّة الوحيدة التي التقيت فيها بقرينة دادا. كانت تشبهها إلى حدّ الرّعب.