يعتبر فن البلدي ( عروض البلد) أبرز أنماط التعبير الشفهي بتافيلالت ارتباطا بمدى انتشاره المجالي الممتد من شرفاء القصابي و ميسور شمالا الى قصور تافيلالت جنوبا و من تنغير غربا الى بشار بالجزائر شرقا و اتساع و تنوع قاعدة عشاقه من الصغار و الشباب و الكبار ذكورا و اناثا اغنياء و فقراء متعلمين و غير ذلك , طبعا الى جانب أشكال اخرى لا تقل عنه جمالية و انتشارا كالملحون و إملوان وأحيدوس ,الهوبي… هذا الفن الواحي بامتياز نشأ من تربة و رمال و طين ” لبلاد ” و ترعرع بين أحضان نخيل مدغرة و تافيلالت و ارتوى من زيز و غريس. فقد عاش البلدي رديفا للملحون و يمكن الحديث عن هوية وشخصية البلدي خلال أربعينيات القرن 20م مع محمد باعوت ( بمفهوم الاستحداث حسب الأستاذ سالم عبد الصادق) إلى جانب عروب و مولاي علي بالمصباح… بمدغرة و عبدالقادر الرجدالي ( قويدر) بارفود و تزيمي و بلكبير بتافيلالت ناهيك عن شيوخ منطقة الجرف و في مقدمتهم الهاشمي كرومي (النحاس) و الهاشمي لعميمي واحمد بلخير ( مسيو) …وبفعل التراكم و توالي الايام تشكلت و استوت شخصية البلدي : على مستوى بنية الاغنية اعتمد النظام على مفهوم ( الحبة) اي جملة لحنية تنسج على منوالها كلمات بسجع بسيط تفصل بينها اللازمة و بشكل نادر على القصيدة الزجلية (المزوكي , الميسوري, النكادي, الشطيبي خاصة بمنطقة الجرف), و لهذا نجد ان كلمات البلدي تتكرر في اغاني متنوعة و بمقامات ( قياسات) مختلفة. من أهم المقامات و بايجاز يمكن الحديث عن المقامات العادية (لا تحتاج الربع تون) و منها مقام الحجاز من أمثلته ( الحراميا دركوك عليا, اما عيشة, ماني ناكل ماني نشرب, الولفية…) ثم العجم نماذج ( وعد الله, البراد, بلا سبة بلا سباب, لاموني يا الظالمة…) و مقام النهاوند ( ديري هلال …) ومقامات شرقية ( تحتاج الربع تون في نوتة او أكثر) و منها البياتي حيث نشير إلى ( رجال البلاد, ايامي يا ايامي, بلادي بعيدة , العساسة ,الله يا مولانا , اوليدي يا وليدي…) إلى جانب الرست و السيكا , حيث تم الاعتماد على الآلات الوترية كالسنيترة و العود و الات النفخ كالقصبة (العوادة ) بمنطقة الجرف و بشكل محتشم الكمان و الاكورديون. أما بخصوص الايقاعات فتنحصر في مجموعتين كبيرتين أولهما ايقاع بلدي 4/4 و كل التشكيلات المستخرجة منه بإضافة نوتة او ازالتها على السلم الموسيقي او تغيير قيمتها الزمنية. و ثانيهما ايقاع شعبي 8/6 و فروعه المتنوعة. ايقاعات البلدي اعتمدت على الات ايقاعية تقليدية الدربوكة و الطعريجة ( الكوال) و الطارة و الخرخاشة. بخصوص الكلمات فهي (سهل ممتنع) لحظية الميلاد و ارتجالية التشكل حيث يمكن أن يشارك الجميع في الالقاء و البوح باليومي الواحي فتتأرجح بين عام غيث ” الى روات الصحراء الله يهنيك يا الغرب ” و عام قحط “يا ربي يجيب السحاب و يحملوا دوك الشعاب” , و بين أمل مطلوب ” رجايا في العالي” و ألم مدفون ” شافوني نغني و انا كنفجي الغيض” , و بين لقاء ” مزين مجمع لحباب” و هجران “يا ربي يجيب لحبيب” و بثنائيات عديدة تنهل من ثيمات : المرأة , النخلة ,الواحة الحب ,الصبر, التضحية ,التوسل, الغربة… و بطقوسية تلفت الانتباه تعم المؤدي و المستمع في تناغم تام مع الايقاع و اللحن. لقد تميزت مرحلة النشأة بالبساطة من حيث المبنى و المعنى بساطة أهل الواحات و تبقى قمة الانتشاء بفن البلدي حصة ” الماية ” حيث يتوقف الغناء و يستمر العزف بالة او التين تتحاوران بجمل موسيقية تتخللها الاهداءات التبريحة ( تحتاج إلى مقال خاص)….و بشكل ناذر قد نصادف مواويل داخل الماية , تخصص الماية لرقص العوام حيث تتناغم الحركات تبعا للإيقاع الذي تزيد سرعته بشكل تدريحي وصولا الى الختم , و لرقص الخواص اي الرقص (بالصينية و الكيسان) او رقص المحترفين والرجال المتنكرين في زي النساء كتعويض لغياب المرأة لخلق فرجة شعبية بسيطة. عرف البلدي خارج تافيلالت بفضل الماية كونها موسيقى مميزة لواحة تافيلالت و بطاقة عبور لقلوب “صحراوة ” أينما حلوا و ارتحلوا . بعدما اشتد عود البلدي و اشرأب عنقه في عنان السماء و أثث الاعراس و الحفلات و الاعياد الوطنية جاء دور الجيل الثاني ليكمل البناء و برزت أسماء هنا و هناك جلها خرج من جلباب الرواد و انتشرت الفرق المحلية مسهمة في استمرارية البلدي إما بطبوعه الموروثة ك :الكاوي و الخاضر و القمر و اميح و مولاي عبد الله الويغلاني و محمد الزنوحي (الفقيه ) و عبد الرحمان ختاري وسالم الجرفي .. و اخرين ركبوا موجة التجديد في حدوده المقبولة فامتدت العصرنة الى الآلات بادخال الجيتار و الاورغ و الايقاعات المبرمجة -علبة الايقاع – و في مقدمتهم مولاي الشريف الحمري وأشرطة الله يداوي الحال.. الحمام يا الزين الصافي…في جاهك العالي… كانت جاية… هذا شحال.. حيث برز الكمان والة الباتري كمكونات ثابتة في ابداع الحمري مع تجديد في الكلمات و الالحان و مرد ذلك لموسوعية الرجل الفنية و نهله من نبع الملحون .و عبد الله هامي بدءا بشريط نمشي معاك… انا مزاوك في حماك…ثم وعد الله مع مجبر ..و صارحني و لا فارقني…و الله يسامحك…و ميمتي لحمام… ما بقى ما يليق … نخاف عليك … عييت من الغربة … حيث نلاحظ سطوة الاورغ و أحيانا الجيتار مع علبة الايقاع على ابداع هامي مع تجديد في الالحان و الايقاعات بفعل انفتاح الرجل على مشارب فنية اخرى كالراي و الاغاني الشرقية. إضافة الى محمد جلولي الذي حافظ على العود و السنتور كألة رئيسية منذ شريط عافاك يا مي لا طلبي محال…الى شريط وعدي…و هشومة..ثم ياربي فيك رجايا بنمطية لحنية و ايقاعية لكن بإبداع متنوع في الكلمات .وهنا لابد من الاشارة الى بصمات مولود المسكاوي و دمح البلدي بالإيقاعات الافريقية. ليصل المشعل الى الفنان مصطفى لعنان حيث سيحمل آهات و شكوى البلدي الى العموم عبر رائعتي ” فين الفن البلدي.” و “كلام البلاد” حيث يبكي البلدي من الصدود ويشكي النكران . مع نهاية سنة 2010 و بروز وحش القرصنة و تغول mp3 ستتهاوى شركات الانتاج الفني( صوت الوازيس صوت الرشيدية .ارفوديفون. صوت الياسمين …) ليدخل البلدي و مبدعوه مرحلة انكماش دفعت المعنيين للبحث عن حلول للأسف الشديد تركوا وحيدين فكانت ردود افعالهم فردية كالهجرة او الاعتزال و التوقف… بفعل التطور التكنولوجي و البرامج الموسيقية و الانتاح الرقمي سيظهر بالمنطقة العديد من الشباب ( الأسماء كثيرة جدا) ممن يحاولوا نفض الغبار عن هذا الموروث لكنها تجارب في اعتقادي لازالت لم تتخلص من الاجترار و تحتاج للتأطير و التوجيه لتجاوز مهلكة الانتاج السريع. اليوم يحاول فن البلدي مستجمعا قواه و بجهود فردية و تطوعية مشكورة أن يبحث له عن موطأ قدم في المشهد الاعلامي التقليدي من اذاعة و تلفزيون و الكتروني كاليوتيب…عبر تسجيلات و سهرات تحاول قدر المستطاع و في حدود المتاح ان توصل هذا الموروث الى عشاقه. كمتتبع غيور على الواحة و التراث ابسط بين ايديكم جملة من الاسئلة تنطوي على مقترحات و بدائل علها تجد أذان صاغية من قبيل: أليس من حق البلدي أن يستفيد من البث على القنوات العمومية على اعتبار المساواة مع باقي الفنون التراثية ؟ لماذا لم يحظى هذا الفن بالعناية الاكاديمية كمثيليه العيطة و الفن الحساني ؟ أليست مبادرات الترميم و التوثيق التي يقودها مصطفى لعنان و عبد الواحد مجبر و مولاي اسماعيل تستحق الاحتضان و الدعم ؟ أليس من حق البلدي أن يقام له مهرجان سنوي قار بتمويل محترم تتخلله سهرات و تكريمات و ندوات ؟ هل استطاعت حصص الاذاعة و التلفزيون أن تقدم البلدي بشكله الحقيقي البسيط و الواقعي و- إن كان البلدي كما يقال يصطاد حيا- أم انها خلقت نمطية غير مقبولة بتكرار نفس الاغاني و نفس الوجوه و بقيت حبيسة اختيارات السماسرة و الوسطاء ؟ أليس رجال البلدي أحق ببطاقة الفنان على رمزيتها من بعض أشباه الفنانين…و في عيش كريم يحفظ كرامة الانسان و أنفة الفنان ؟ أليس تضييعا للوقت و الجهد أن تترك قامات و رواد البلدي الأحياء خارج دور الشباب و الثقافة ليس بمعنى الريع الثقافي ولكن مقابل خدمات التأطير ,إحياء الحفلات,التوظيف… أليس من حقنا كجهة واحية إذاعة و تلفزيون جهويين لحفظ الذاكرة و ترميم ثقوبها ؟ ألا تستحق مجهودات السادة الأساتذة : مصطفى تيليوا و سعيد كريمي و عبد الصادق سالم و ميلود بوفلجة و ادريس بوعزاوي و عبد الرزاق السعيدي ,امبارك اشبارو, و الصادقي العماري…تثمينا و اعترافا كونها تؤسس لمبحث تراثي بكر؟ ألم يحن الوقت لنزول البحث الجامعي من البرج العاجي و التخلي عن الثيمات المسكوكة ليلامس شعر البسطاء و حداء المكلومين ؟ أليس من الظلم أن تستغل معزوفات أهل البلدي في أفلام و أشرطة وثائقية دون الاشارة إليهم في الجنيريك, و الأمر من ذلك أن تنسب الى اخرين و مناطق اخرى بمسميات متنوعة موسيقى بشارية , صحراوية , موسيقى الطوارق ؟ أقول بدافع حب الواحة و القصور و الخطارات و الرمال و الوديان و القصبات و البلدي و الملحون و النغمة و الايقاعات كتبت هذه الكلمات , بحرقة الواقع و نار التهميش و التطلع لغذ أفضل ينصف الواحة المكلومة مجالا و ساكنة و تراثا أختتم بالأبيات التالية من التراث الجرفي : مدى منو في قليبي ما صبت نعيدو وراني كاميه الى عدتو للجبال يريبو و الى عدتو للبكم ينطق بيه. رددوا البيت الشعري بلحنه المعروف….إلى مقال اخر.