تعتبر النقانق (الصوصيص) من أكثر الأكلات انتشارا في العالم؛ وهي الأكلة التي لا تباع اليوم في المطاعم فقط، بل تباع كذلك على ناصية الطرق فوق العربات ومطابخ الشوارع في العديد من مدن العالم؛ بل إن هذه الأكلة أو الطبق تحول في بعضها إلى الأكلة الرسمية لمباريات البيسبول خصوصا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. شهرة هذه الأكلة وانتشارها ؛ لدرجة أنها أصبحت جزءا من طقوس الأكل اليومي للكثيرين من ساكنة العالم، تدفع أي باحث أو مهتم بتاريخ الطبخ إلى البحث عن تاريخها ؛ وهو التاريخ الضارب في القدم ؛ ويرجع إلى أكثر من ألفي سنة في أقل تقدير. 1 الطبق في الحضارة الرومانية ترجع أولى الإشارات إلى هذا الطبق، إلى أبيكوس في كتابه “فن الطبخ”، وهو كتاب ترجع أهميته إلى كونه أقدم كتاب عن المطبخ الأوروبي أرخ الوصفات ترجع إلى ما قبل الميلاد . وقد جذب هذا الكتاب الذي قدم أكثر من 500 وصفة الاهتمام على مدى العصور الوسيطة إلى اليوم. أبيكوس هذا الذي عاش في عصر تيبيريوس ( 42 ق م _ 37 م ) وكان من المنظرين في تذوق الطعام؛ سيقدم بشكل مدقق مكونات هذا الطبق وطريقة تحضيره؛ وإن كنا لا نعرف هل ورد في كتابه طرق عديدة لتحضير هذه الوصفة ؛ بالنظر إلى أن أجزاء كثير ضاعت من هذا الكتاب الذي كان يتكون من عشرة أقسام؛ أم هي طريقة التحضير الوحيدة التي أورد المؤلف. وتتلخص طريقة الإعداد والتحضير ؛ في تحضير اللحم المفروم جيدا وخلطه مع الفلفل واللكومين ولباب الصنوبر؛ ثم حشوها في جلدة النقانق وغليها في الماء ؛ ليتم شويها بعد ذلك. وتعتبر بلقيس شرارة في كتابها “الطباخ” أن الرومان الذبن كانوا يتناولون الطعام وهم متكئون على الأرائك؛ اتجه أسلوبهم في الطبخ إلى تقطيع الطعام إلى قطع صغيرة ؛ لأن من الصعوبة تقطيع الطعام في حالة مستلقية؛ معتمدا الشخص في الأكل على يد واحدة ؛ فاتجه الطبخ بالتالي إلى الاعتماد على الأطعمة المفرومة. أما كيف عرفت شعوب البحر الأبيض المتوسطة هذا الطبق؟ إذا اعتبرنا أن أجنحة الطعام هم البشر الذين يسافرون أو يتنقلون؛ وبالنظر إلى أن الرومان أسسوا إمبراطورية تمتد من حدود المشرق العربي إلى شمال أفريقيا؛ حيت أن التواجد سيتكرس مع تدميره لقرطاج سنة 149 ق م؛ وبناء مستعمرات على طول جغرافية المنطقة إلى حدود وليلى وشالة. فإن هؤلاء سيحملون معهم تراثهم الثقافي والاجتماعي ومن ضمنه فن الطبخ أو الطبيخ كما سماه العرب. 2 الطبق في تاريخ المغاربة ( الصوصيص باللحم والصوصيص بالبادنجان ) . أولى الإشارات التي وردت عن هذا الطبق في موروث الطبخ المغربي بلفظ المركاس ؛ فترجع إلى صاحب كتاب ” أنواع الصيدلة في أنواع الأطعمة ” وهو كتاب حول فن الطبخ من العصر الموحدي لكاتب مجهول ؛ حيث اعتبره غذاء سريع الهضم ؛ ليقدم بعد ذلك طريقة التحضير والإعداد؛ حيث يؤخذ لحم مدقوق مضاف إليه التوابل من قرفة وفلفل وكزبرة؛ مع شحم مقطع حتى لا يذوب كما ينصح صاحب الكتاب ؛ تم يعرك الجميع ويحشى به المصران المغسول المجرى بالخيط بآلاته المصنوعة لحشيه. ( الإشارة إلى استعمال المغاربة لآلة خاصة لحشو الحشوة في المصران). ولم يكتف المغاربة بتقديم المركاس ( الصوصيص ) محشوا باللحم المفروم كما تقدم؛ بل جعلوا منه أكلة للفقراء أيضا . حين قاموا بإعداده بالباذنحان بدلا من اللحم ؛ وهي الوصفة التي قدمها كذلك صاحب كتاب ” أنواع الصيدلة” حيث يتم سلق الباذنجان وإخراج مائه بعد عصره ثم يهرس وتضاف إليه التوابل والبيض والشحم _ كنا جرت العادة في غيره يقول صاحب الكتاب _ ثم يحشى به المصران ويقلى بزيت عذب. لكن لا بد من الإشارة إلى أن المغاربة قد ميزوا بين المركاس ( الصوصيص ) واللقانق ( وردت بهذه الصيغة باللام عند بن رزين التيجبي) ؛ وسيقدم بن رزين هذا في كتابه فضالة الخوان طريقة تحضير المركاس ؛؛ والتي لا تختلف عن الطريقة التي قدمها سابقوه ؛ بالإضافة إلى تقديمه طريقة تحضير اللقانق كما سماها ؛ حيث يميز بين المركاس ( الصوصيص ) واللقانق ؛ فهذا الأخير تضاف إلى مكوناته البصل ويكون مصرانها اكبر ؛ مع تعليقها في موضع الريح لكي تجف بعد غليها ؛ فإذا أريد أكلها قطع منها وجعلت في مقالات؛ مما يجعلها كالبسطرما في نظرنا. 3 الطبق في تاريخ المشرق العربي أما المشرق العربي فقد عرف هذا الطبق بدوره كذلك؛ حيث إن بن سيار وهو صاحب كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات ( القرن العاشر الميلادي ) ، فقد قدم هذا الطبق بأكثر من ستة طرق للتحضير والإعداد؛ وقد سماها كذلك اللقانق؛ حيث قدم إحداها باسم الخليفة المعتمد ( اللقانق المعتمدية) وهي لا تختلف كثيرا في طرق تحضيرها عما قدمناه سابقا من طرق التحضير والإعداد.