"الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يأكل المغاربة في الشارع؟ وجبات ماتت مع أصحابها وأخرى ظلت في الذاكرة
نشر في نيوز24 يوم 14 - 09 - 2014

الفرنسيون يأكلون «البانيني» والأمريكيون يأكلون «الهوت دوغ» بينما يأكل المغاربة كل شيء!، الوجبات السريعة على اختلافها والأطباق التقليدية أيضا بأنواعها، فقوائم الطعام لا تنتهي، والأذواق لا تتوقف عن الاشتهاء... جاذبية طعام الشوارع فرضت نفسها بقوة وجعلت المغاربة يفضلون تناول وجباتهم خارج المنزل، مبتعدين عن الأكلات الشعبية ومقصرين في حق بعض الأطعمة التقليدية التي تندثر يوما بعد يوم، معلنة نهاية حقبة مهمة من الزمن وبداية ثقافة جديدة ولدت في الشارع، وجرفت معها أطباقا وطبخات تقليدية أصيلة عاش عليها المغاربة سنين طويلة وتلذذوا بطعمها الفريد.
في هذا الملف الذي يعتمد على كتاب للباحث المغربي عبد الكريم ردادي، الذي يحمل عنوان «المغرب فن الطبخ في الهواء الطلق (كولوبان)»، نغوص في عالم الأصالة والذوق والرائحة الشهية، وصوت القلي المغري، وأكلات الأجداد التي اختفى بعضها واندثر مع مرور الزمن، وأصبح المتبقي منها تراثا أو فلكلورا شعبيا، وأطباقا تقدم فقط في بعض المناسبات السعيدة أو التجمعات العائلية، والتي يستشعر الحاضرون بأن روائح الزمن الجميل تهل عليهم كلما عمت رائحتها أنحاء المنزل أو في الشارع منبعثة من عربة «الباشرنون» أو«بحليسة»، وكذا أكلاتهم الأصيلة التي ستموت بموتهم، مسطرة نهاية أكلات شعبية ظلت راسخة في الثقافة المغربية، انتزعت حب المغاربة لكنها لم تنجح في فرض نفسها وضمان استمراريتها.
الوجبات السريعة أثرت على الأذواق وفرضت ثقافة جديدة للغذاء
وأنت تبحث عن موطئ قدم، وسط زحام مدينة الدار البيضاء أو غيرها من المدن المغربية على اختلافها، تشاهد من على بعد، دخانا كثيفا يتصاعد، يحجب الرؤية. وكلما اقتربت، تتوضح معالم الصورة أكثر فأكثر، فترى أسلاك الشواء ممتلئة باللحم وبغيرها من الأكلات التي اعتاد المغاربة على تناولها في الشارع. روائح شتى، تتسلل إلى أنوف المارة. موائد الطعام المصطفة وعربات الشواء المنصوبة على الهواء الطلق، تنادي على زبائنها، قبل صاحبها الذي يضع شواية صغيرة الحجم، وعليها قطع من اللحم، يقلبها يمينا ويسارا بحركة مغرية وفي مشهد يثير كوامن البطون الخاوية من الطعام، كمن يضع طعما يجعلهم يتسابقون على ابتلاعه.
تنتشر عربات الشواء و»الكبدة» و»لحم الرأس» و»السندويتشات» المتنوعة، في معظم الشوارع. جميعها مختصة في بيع المأكولات والمشروبات بدءا ب «سايكوك» إلى «الصوصيص» والرايب وبعض أنواع العصير، إضافة إلى المشروبات الساخنة. ورغم بساطة وجباتها إلا أن هذه العربات تتمدد على الأرصفة ومداخل الأحياء الراقية والشعبية، نظرا للإقبال الكثيف عليها، فمعظم المغاربة يفضلون أكل الشارع سواء كان شعبيا أو عاديا أو مواكبا لرياح التغيير والعولمة. فحسب قولهم لأكل الشارع لذة خاصة تغنيهم عن أكل البيت الممل الذي اعتادوا عليه.
يرى محمد، أستاذ بإحدى الثانويات، أن الإقبال على الوجبات الشعبية يعتبر حفاظا على العادات والتقاليد في المأكولات الشعبية، التي تمتاز وتتمتع بالطعم الفريد والنكهة الخاصة. ويضيف أن تزايد الطلب على المأكولات الشعبية من قبل الموظفين يرجع إلى أن أغلبية الناس ملوا من الوجبات السريعة المضرة بالصحة، خاصة بعد الانتباه إلى ضرورة العودة إلى الأطعمة الشعبية.
وترجع أسماء (ربة بيت) سبب إقبال المغاربة على الأكلات الشعبية بالشارع رغم تعدد الأكلات وكثرة المطاعم المغربية والعالمية إلى أن هذا الطعام رخيص ولذيذ، ولذلك لا يقارن بأسعار المحلات والمطاعم ويناسب مستوى دخل معظم المغاربة ذوي الدخل المحدود مما يجعل الحصول على وجبة غذائية لا يمثل عبئا اقتصاديا عليهم. وتضيف أسماء أنه مازال هناك حنين إلى الأكلات التراثية القديمة ف «البيتزا» و»السندويتشات» ذات النكهات العالمية رغم تصدرهما قائمة الطعام اليومية للفئة الشبابية، إلا أن المطبخ الشعبي والأكلات الشعبية سواء التي تحضر داخل المنزل أو التي يتناولها البعض في الخارج لا تزال تحتفظ بمكانتها لدى المغاربة.
وتوافقها الرأي سلمى (موظفة)، بأنه لا يمكن لمطبخ الوجبات السريعة أن يحتكر الأذواق في المغرب، مشيرة إلى أن هناك أكلات تقليدية تربينا عليها رغم قلة استهلاكها، إلا أنها تنافس الوجبات السريعة، ورغم أننا نلجأ أحيانا للوجبات السريعة للتخلص من الروتين اليومي إلا أن الحنين لبعض الأكلات يدفعنا للرجوع إليها.

الوجبات السريعة.. ثقافة جديدة للغذاء
بعدما كانت المعدة المغربية لا ترضى بغير الطبق المنزلي خاصة منه التقليدي كثير الدسم، أصبح الجيل الجديد يستغني عن أكل المنزل بحضور محلات الأكل السريع، التي باتت الوجهة الأساسية لهم خلال أوقات الطعام. فالوجبات السريعة تقدم بمختلف أصنافها، (الهامبورغر والبيتزا...) دعوة مفتوحة لكل ذي بصيرة للوقوف على ما أحدثته من تغيير في الأنماط الغذائية للمجتمعات، وكيف استطاعت أن تؤثر عميقا في أذواقها، وتفرض ثقافة جديدة للغذاء غير مسبوقة بكل المقاييس.
«الشاورما» هي الأخرى استحوذت على قائمة الأكلات السريعة، واستطاعت في مدة قصيرة أن تتربع على عرشها، وأن تجلب لها الكثير من المعجبين الذين دفعهم الفضول في البداية إلى تذوقها، لينتهي بهم الأمر إلى التعلق بها، بل والإدمان عليها لدى بعض الناس، والحرص على أن تكون جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في قائمة طعامهم. إن المتجول عبر شوارع المدن المغربية، تثير انتباهه تلك العبارات المميزة على واجهات محلات بيع الأكل السريع، «شاورما» لبنانية وسورية وغيرها، مسميات كثيرة وطعم واحد يجذب المغاربة إليه، والمؤكد أن لا أحد يستطيع مقاومة بطنه. وقد أخذت «الشاورما» نصيبها من ذلك واستطاعت كسب الرهان على حساب مأكولات أخرى.
أكلات شعبية تنافس الوجبات السريعة
يأتي الكسكس على رأس قائمة الوجبات، ولعله الأكلة المغربية الأشهر عالميا. ومن عادة المغاربة أن يتناولوه كل يوم جمعة مباشرة بعد العودة من صلاة الجمعة، كما تقدمه المطاعم، في اليوم نفسه، لمن لم تسعفه ظروفه فوجد نفسه بعيدا عن بيت العائلة. إلى جانب الكسكس، هناك الطاجين، وهو خليط متنوع من حيث طبيعة مكوناته، لكنها في الغالب تتباين من منطقة إلى أخرى حسب ما توفر في السوق من منتجات فلاحية، وتبعا لأذواق الراغبين في أكلة تهيأ على نار هادئة، يستحب أن تكون نار فحم. وهناك أطباق ومأكولات تعرف بها منطقة دون غيرها، ومثال ذلك أكلة «الطنجية» التي لا تذكر إلا بإضافة «المراكشية» إليها، دلالة على أننا مع طبق تختص به مدينة مراكش من دون غيرها.
«لحم الرأس» أيضا من الأطباق الشهيرة في المغرب، ويقبل عليه المغاربة بشكل كبير، ولذلك أصبح «رأس الخروف» يباع جاهزا في الأسواق الأسبوعية في عدد كبير من القرى والبلدات المغربية. وإضافة لما يأكله المغاربة في الشارع، يقبل الكثيرون على بعض الوجبات السريعة مثل «البوكاديوس» و»البانيني» التي تعد وجبات دخيلة على المجتمع المغربي، ولا تدخل ضمن الأكلات الشعبية، لكنها تفرض نفسها بقوة كأكلات مفضلة لدى المغاربة بشكل يومي ودائم. فبعدما عرف «البوكاديوس» لفترة طويلة على أنه طعام للفقراء، أصبح الآن وجبة للجميع، ويقال إن منطقة شمال المغرب عرفت هذه الأكلة أيام الاحتلال الإسباني للمنطقة، بيد أنها لم تنتشر كثيرا في تلك الفترة. وهي عبارة عن نصف رغيف خبز محشو بمصبرات السمك، ومنها السردين، بالإضافة إلى البصل والطماطم والبطاطس والبيض والفلفل الأخضر والباذنجان والأرز، ويمكن إضافة الفلفل الأحمر الحار لمن أراد.

من إنفاق الأسرة على الأغذية يحدث خارج المنزل
أظهرت إحدى الدراسات أن معدل إنفاق الأسر في كل من المغرب، تونس والجزائر على الأغذية خارج المنزل يتجاوز 25 بالمائة، وأن بعض قطاعات السكان تعتمد اعتمادا كاملا على أغذية الشوارع. وقد جاء ذلك نتيجة لسرعة نمو المدن ووتيرة العمل السريعة التي لا تسمح بالعودة إلى المنزل وقت الغذاء أو بسبب السفر والبعد عن المنزل لمدة غير محدودة. وهناك ملايين من العاملين الذين لا يعيشون مع أسرهم أو لم يكوّنوا أسرة مستقرة بعد، كما أن هناك نسبة كبيرة من السكان تتنقل إلى المدن وخارجها من أجل العمل، وهؤلاء جميعا يعتمدون اعتمادا كبيرا على أغذية الشوارع في طعامهم اليومي.. ونظرا لأن أغذية الشوارع تكون أسعارها معقولة وتكون متوفرة بسهولة، فإنها تلبي حاجة حيوية لدى سكان المدن. وتنتشر هذه المأكولات والمشروبات الجاهزة للأكل والتي يعدها بائعون في محلات أو متجولون، أساسا في الشوارع أو في أية أماكن عامة أخرى يسهل الوصول إليها، مثل الأماكن القريبة من أماكن العمل أو المدارس أو المستشفيات أو محطات السكك الحديدية أو محطات الحافلات.

عربات الأكلات الشعبية... وجبات ماتت مع أصحابها وأسماء ظلت محفورة في الذاكرة
كانوا ينتشرون في كل مكان، عرباتهم هنا وهناك، وبابتسامتهم العريضة يجذبونك إليهم، يعطونك صحنا مملوءا بطعام تتفنن أصابعهم في صنعه مقابل سنتيمات معدودة، يفرحون بها ويحمدون الله على ذلك الرزق. كانوا معدودين ومعروفين وكانت شهرتهم وأسماؤهم مشهورة تتعدى حدود المدينة التي يعملون فيها. عرباتهم تنتشر في كل المدن المغربية كل واحد واختصاصه وطعامه وصنعته التي تميزه. فهذه العربات تعتني بالعديد من الأكلات الشعبية التي تمتح صميم الثقافة الشعبية المغربية، من "السكفكف" إلى "سايكوك" مرورا ب "الباريدة" وصولا إلى "الخودنجال" وغيرها من الأكلات الشعبية المغربية التي كان لها حضور قوي ومكانة كبيرة، اختفت اليوم بعد أن احتفى أصحابها.

يقول الباحث عبد الكريم ردادي في كتابه فن الطبخ في الهواء الطلق "كول وبان" أن كل أكلة ألفناها قديما كانت ترتبط باسم شخص، بل حتى بعض الأكلات التي أكلناها ارتبطت باسم الشخص أكثر من أي شيء آخر، وصارت متداولة بين الناس ومرجعا مشتركا يستدل به على مصلحة أو مرفق عمومي، فقد تصبح مثلا مصحة (كذا) قرب "بّاعمر" بائع النقانق، أو معهد (كذا) قبالة "بحيليسة" بائع المقليات. ويضيف رداري: "بّاعبد الله من سطات، بائع "البسطيلة" كم كان مزهوا بطربوشه الأحمر وهو يقف وراء الصندوق الزجاجي فوق عربته المهترئة، وعبر زجاج الصندوق تظهر آنيتان واحدة مخصصة ل "بسطيلة" بدون توابل، والأخرى لل"بسطيلة" بالتوابل أو "الحار" كما يسميها الرواد. يستعمل بّاعبد الله سكينا متآكلا لقطع الخبز الفرنسي المقرمش حسب الطلب، ونحن صغار، كنا نتردد عليه لاقتناء قطعة خبز مع "البسطيلة" الباردة بثمن زهيد لملء بطوننا الصغيرة عند الخروج من المدرسة. أما إسفنج "بّا خلوق" فلا يضاهيه أي اسفنج في المدينة. توجد محلات عديدة تعرض الإسفنج، لكنها لا تضاهي محله الذي يشهد اكتظاظا دائما، لقد كنت أتردد عليه كل صباح وأنا في طريقي إلى المدرسة ليس لاقتناء حبة إسفنج، بل فقط للتمتع برائحة قلي الإسفنج اللذيذ، بسبب عدم توفري على المال! هناك أيضا "بّا حباتي" ضخم البنية ذو المشاوي ذائع الصيت، والذي يمكن للزبون اقتناء اللحم المشوي من عنده، لكن دون السؤال عن مصدر اللحوم. كما أن هناك "ولد نعيجة" بائع الحريرة الذي كان له الفضل في إدخال طرق استهلاكية جديدة كالثمن القار لكل ما تقتنيه من أكل، على غرار نمط الاستهلاك الأمريكي المتداول. كم كانت حريرته لذيذة بكل المقاييس، لكن الوصول إليها كان صعبا وربما مستحيلا لعدة اعتبارات... "

عربات شعبية... ملجأ ذوي الدخل المحدود
ويتذكر الباحث بائع الحلويات "عزيزي أخروفة" وحلوياته المخصصة للطبقة الراقية، و"بحيليسة" بالدار البيضاء في درب غلف، الذي رغم أن طريقته في قلي السمك في زيت ساخن كانت عادية لا تختلف عن الطريقة التقليدية، إلا أن صلصته ظلت مميزة ولا يوجد لها مثيل، حتى أصبح من يذكر وصفة صلصة "بحيليسة" كمن يذكر سر وصفة الكوكاكولا. هناك أيضا "ادّا أعراب" صاحب رواد المركب الرياضي محمد الخامس، الملعب الشرفي سابقا، فكم كانت وجباته "بالخبز والطون" لذيذة نلتهمها بشراهة ونحن متحلقون حول عربته نسابق الوقت لولوج الملعب والظفر بمكان لمشاهدة المباراة جالسين. يقول عبد الكريم ردادي إن من خصال "ادّا أعراب" أن الوقوف عند عربة مأكولاته كانت فرصة لنقاشات رياضية ساخنة بين أنصار الوداد والرجاء، إذ كان لهذا البائع الفضل الكبير في فضها بسلام، ولا ننسى "ماالزيت" المتواجد قرب محطة اعريبات، المعلم السفاج ذائع الصيت، الذي يقتني منه الزبناء الإسفنج في كل وقت، بل حتى في ساعات متأخرة من الليل. أما "بّا ابركول" فقد سبقته شهرته في جميع أرجاء الدار البيضاء. يعرض "بّا ابركول" طحالا متبلا بمرق متميز، ورغم ضيق محله المتواجد قبالة سينما شهرزاد، إلا أنه صار لا يحصي زبائنه الذين يركنون سياراتهم أينما أمكنهم في انتظار دورهم، والحصول على قطعة طحال في خبز ساخن لا يعرف سره إلا هو...
أما "بّا شرنون" المتواجد قرب المعرض الدولي، فكان يبيع السمك المقلي بالأطنان. حيث يتذكره الباحث ويقول:"يناولك مقتنياتك من السمك في قطعة ورق على شكل بوق طويل ملئ بسمك رخيص، يجعلك تفقد شهيتك لأيام. رغم كل هذا كان "بّا شرنون" ملجأ ذوي الدخل المحدود، للتمتع بخيرات المحيط. وفيما يخص مدينة الرباط أول من نذكر فيها "بّا خلدون" بلحيته البيضاء التي جعلت الكل يلقبه "هيمينجواي". ويضيف:"أما "بّا خلدون" فكان يركن عربته كل مساء قرب باب العلو ليعرض أطباقا مختلفة من الباذنجان المقلي والفلفل والبطاطس المسلوقة وخضر أخرى. وكل أطباقه نباتية وخالية من اللحوم، وهناك أيضا "الطنجاوي" نصير الطلبة وأصحاب الدخل المحدود. يندس في حانوته الخشبي قرب مصنع "لاسافط" ومحطة وصول الحافلات من تمارة. كم كانت نقانقه شهية وكبيرة الحجم. يضع الطنجاوي النقانق على مشواة صغيرة ينبعث منها دخان يوقد غرائز دفينة، ويحكى أن نقانقه كانت من لحم الحصان مما قد يفسر صبيب عرقنا كل مرة نتناول فيها نقائق الطنجاوي. لا يمكن ذكر الرباط دون ذكر "بّا يزيد" المتواجد قرب سينما موريتانيا، حيث لابد أن تمر بمحله وأنت في طريقك إلى "شيكاجو" أحد أروقة المدينة الكبيرة بالرباط، لبيع الملابس، يستغل "با يزيد" محلا ضيقا أمامه طاوله لبيع الكبد المشوي، فكل شيء عنده بالتقسيط ابتداء من قطع الخبز إلى قطع الكبد التي قد لا تكفي لسد رمق الجائع."
كلما لمحت بائع "جبانْ" يتجول في الأزقة حاملا قصبته المزهوة بحلوى جبان تظهر من بعيد كشمعة ناصعة البياض، تذكرت بائع "جبان" كان يبرع في تزيين بضاعته المنتصبة التي كان يرفعها في السماء كلواء قائد منتصر، تزينها حبات اللوز التي تضفي على بضاعته المعروضة لمسة إغراء لا حدود لها، يحتفظ بها أطول وقت ممكن حتى لا تفسد أو تكسد. تم هناك بائع الفول"طايب وهاري" الذي يهيئ أكلة دافئة مرشوشة بالملح والكامون ملفوفة داخل أوراق الجرائد، مما يجعلها تفوح برائحة المداد الصيني الأسود، دون أن ننسى بائع "السندويتش" الذي يعرض قطعا من البطاطس المفرومة والمقلية، يقدمها كوجبة ملونة بالزعفران الصناعي وهي ما يعرف ب"المعقودة".

أكلات شعبية لم تورث لا يعلم سرها إلا أصحابها
الأصل في الطعام "البلدي" ليس القيمة، وإنما توريث العادة قديما، فالأطباق القديمة هي موروثات شعبية ساهمت في تشكيل ثقافة الناس زمنا طويلا، والتجريب الجديد لطعام من ثقافة جديدة هو شكل من أشكال الانفتاح الثقافي على العالم وعلى عادات الشعوب الأخرى.
الأجيال ورثت عادات وتقاليد غدت مع الأيام ثقافة قائمة وحضارة تعبر عن المنطقة وترمز إلى خصوصيتها، من ذلك المأكولات الشعبية التي اشتهرت بها كل منطقة على حدة، والتي تتميز بنكهة وطعم خاصين وجودة غذائية عالية، بسبب مكوناتها الطبيعية وطرق طهيها التقليدية، فأصبحت تلك الأكلات مرتبطة بالحياة بشكل يومي.
وعن الفرق بين الإقبال على طبخ هذه الأكلات بين الأمس واليوم، يقول محمد متعاقد، إنه يوجد فرق كبير، فالأكلات القديمة لا أحد يستطيع أن يستغني عنها بالرغم من انتشار الأكلات الحديثة، بدليل أن هناك مطاعم متخصصة في طبخ الأكلات القديمة التي يقبل عليها كبار السن دائما. وعن مدى إمكانية اختفاء هذه الأكلات تدريجيا، أجاب بأن "هذا ما أخشاه، لكن علينا أن نبذل قصارى جهدنا كي تبقى بيوتنا عامرة بروائح هذه الأكلات الشعبية، لأنها أحد المظاهر الأساسية للتراث."
ومن جهته، يقول عبد الكريم ردادي إن أصحاب هذه العربات "لهم دور كبير في التواصل الاجتماعي ومعروفون على صعيد المدينة، منهم من مات وماتت معه حرفته، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، هم فقط من يستطيعون صنع تلك الوصفات، التي لا يعلم مقاديرها وطريقتها غيرهم، وهي صفات غير مدونة لذلك تموت معهم".
ويعطي ردادي مثالا على ذلك قائلا: "هناك شخص في تطوان متخصص في صنع "النوكة" بطريقة خاصة، وهو فقط من يعرف الطريقة، ويوم يموت سوف تموت معه هذه المهنة، وعندما سألته أخبرني أن لا أحد من أولاده يريد تعلم الحرفة، وهناك شخص يصنع نوعا من الحلوى تسمى "الروليطا" مات صاحبها وماتت معه أكلة عريقة وأصيلة عاشت لسنين طويلة". ويضيف: "ظروفهم الاقتصادية وإمكانيتهم المحدودة لا تسمح لهم أيضا باستقدام عمال وتعليمهم سر المهنة، فكل ما يحققه خلال يومه لا يتعدى دراهم معدودة في اليوم، هذا ما يجعل أبناءهم لا يتحمسون لتعلم الحرفة، لأنها لا تحقق أية مداخيل تذكر، خصوصا في ظل الحياة الصعبة التي نعيشها".
إلى ذلك، يقول الباحث إن هذه الأكلات لم تكن تسبب التسمم للزبون، رغم أنها تباع في الشارع، "في حين نسمع عن التسمم في المطاعم الشهيرة، بينما 90 في المائة من المقبلين على الأكلات الشعبية هم زبناء أوفياء، هذا بالإضافة إلى "النية" التي يتمتع بها هؤلاء،فهم لا يعرفون الغش ولا نية لهم في زيادة مداخيلهم، وبالتالي فهم يقنعون بالدراهم التي يكسبونها خلال اليوم، ويكتفون بما يبيعون". ويضيف أن أكل الشارع قديما لم يكن يتسبب في أي تسمم غذائي "فلم نسمع يوما عن شخص تسمم ب "السكفكف" ولا "الرايب زداو" ولا ال "كانكا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.