يعتبر البحث في تاريخ الأطعمة والأشربة عموما؛ وتاريخ الطبيخ بأطباقه المتنوعة كما كان يسمى عند من أرخوا لهذا الفن قديما، مجالا لا زالت تكتنفه الكثير من الصعوبات، كما أن الجزم بنسبة طبق لدولة دون اخرى؛ أصعبها وأكثرها إثارة للجدل؛ كما وقع قبل سنوات، حين تنازعت دول المغرب التلاث ( المغرب والجزائر وتونس ) ملكيتها الخالصة لطبق الكسكسو. الطبق الذي ورد في كتب من أرخوا لتاريخ شعوب هذه المنطقة، أو كتب الطبيخ القديمة والتي قدمته كطبق مميز لهذه الشعوب. لكن هل عرفت شعوب المشرق العربي هذا الطبق كذلك؟ بالرجوع إلى كتب الطبيخ المشرقي، والتي لم يصلنا منها سوى النزر اليسير وإن على كثرتها (أغلبها إما ضاع أو لازال مخطوطا). فقد تمكنا من الوقوف على ذكر هذا الطبق في كتاب لابن العديم، وهو مؤرخ وفقيه وشاعر من رجالات مدينة حلب بالشام (سوريا الحالية) المتوفي أواسط القرن 13. وقد أشار بن العديم وهو المؤرخ الخبير بتاريخ الأطعمة والأشربة إلى طبق “الكسكسو” (بهذه الصيغة) ؛ واعتبره طبقا مغربيا خالصا، ليقدم بعد ذلك طريقة الإعداد، التي لا تختلف إطلاقا عن طريقة الإعداد التي أوردها من عاصره أو سبقه ممن أرّخ للطبيخ المغربي، كصاحب كتاب “أنواع الصيدلة” أو بن رزين التيجيبي. يقول بن العديم الحلبي في كتابه “الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات”، “يرش الماء على الدقيق ويفرك مثل المفتلة ويغربل… ويطبخ على البخار فإذا نضج صب عليه الدهن والسمن ويفرك باليد، ثم يسقى بالمرقة ويغرف ويصب على وجهه اللحم والكباب والدجاج”. وبن العديم هذا عند الاشارة إلى طريقة الطهي، نبه الطباخين إلى ضرورة أن لا يتم إغفال عملية الإقفال (والله لا قفلتي لا فورتي _ كما نقول اليوم _)، حيث يقول: “ويصلق اللحم والدجاج في القدر ويعمل في القدر المثقبة (أي يوضع فوق القدر ما نسميه اليوم الكسكاس؛ والذي وصفه بالمثقبة)، ويسد رأسها ويطين بعجين حيث لا يخرج منه بخار أصلا”. لكن كيف تعرف أهل المشرق وخصوصا أهل الشام على الكسكسو (الكلمة التي وردت في كل كتب الطبيخ) أعتقد أن تنقل الإنسان كفيل بالإجابة على ذلك، فالحجاج المغاربة المتوجهون إلى الحج والذين كان من عادتهم المرور على بيت المقدس، أو المتوجهون إلى الشام (سوريا وفلسطين ولبنان) قصد التجارة، أو الذين كونوا جزء غير يسير من جيش صلاح الدين الذي فتح القدس، قد نقلوا العديد من تقاليدهم المغربية، ولا أدل على ذلك حارة المغاربة بالقدس، التي لا زالت الكثير من عائلاتها تحمل أسماء مغربية تعد أطباقا مغربية وأهمها الكسكسو. وهو الطبق الذي يعتبر اليوم موروثا حضاريا مشتركا لمنطقة شمال إفريقيا ببلدانها الأربعة؛ المغرب والجزائر وتونس وليبيا، إذ عرفته قبل أزمنة سحيقة (آلاف السنين)، وإن ببعض الاختلافات، لكن تبقى المكونات الأساسية وطريقة التحضير عاملا مشتركا بين هذه الدول.