"الحروب الصليبية كما رأها العرب" مؤلف ثقافي يحمل صفة السردية التاريخية في جانبها الروائي حيث تنطبق عليه بجدارة القيمة المعرفية بامتياز. وأول ما يلفت في هذا الرواية أنها تصدر عن مسيحي لبناني – فرنسي يعيش في أوروبا رأى أن رسالته الثقافية في أن يقدم للقارئ الغربي خصيصا رؤية العرب والمسلمين لمجريات الحروب الصليبية وفق أحداثها التاريخية بعيدا عن المؤرخين الغربيين ووجهة نظرهم في هذه الأحداث، والتي صقلتها في ما بعد الرؤية الاستشراقية. فبعد وفاة النبي محمد (ص) في العام 632 م تنامت سيطرة الإسلام العسكرية في البدء ثم الثقافية والدينية تنامياً هائلاً وسقطت فارس وسوريا ومصر أولا ثم تركيا ثم شمال أفريقيا في أيدي الجيوش الإسلامية. وفي القرنين الثامن والتاسع فتحت اسبانيا وصقلية واجزاء من فرنسا. وبمجيء القرنين الثالث عشر والرابع عشر كان جكم الإسلام قد توغل شرقا حتى الهند واندونيسيا والصين. وفي مواجهة هذا الاجتياح الفائق لم يكن بوسع أوروبا أن تقدم استجابة سوى الخوف والشعور بالرهبة. ولم يكن لدى المؤلفين المسيحيين، الذين شهدوا الفتوحات الإسلامية غير اهتمام ضئيل بعلم المسلمين وثقافتهم العالية وجلالهم في كثير من الأحيان، هؤلاء المسلمين الذين كانوا كما وصفهم أحدهم:"معاصرين لأكثر الأحداث الأوروبية ظلاما وخمولا" . من وحي هذا الواقع التأريخي ينطلق أمين معلوف في روايته التاريخية التي حملت عنوان "الحروب الصليبية كما رأها العرب"، وهدف من ورائها أن يوضح وجهة نظر أهملت حتى الآن، "رواية حقيقية" عن الحروب الصليبية وعن القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا يزالان يحددان حتى اليوم علاقتهما. صدرت هذه الرواية، في مرحلة دقيقة كان الحوار فيها بين الشرق والغرب مشوباً بالكثير من التناقص وسوء الفهم، وكانت قضية الحروب الصليبية نفسها مثار جدل تاريخي وديني بين المؤرخين والعلماء العرب والمستشرقين الغربيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة. وبدا الكتاب هذا أشبه ب«الرواية الحقيقية» التي تمزج بين فعل التأريخ وفعل القص والسرد. ومن هنا يصح تصنيفه ضمن الروايات السردية، أو ضمن كتب التاريخ. ولكن دعونا اولا نتعرف على سيرة حياة هذا الكاتب. أمين معلوف الشغوف بالتاريخ: جاءت أهمية أمين معلوف في أنه شغف بالتاريخ العربي القديم، وتوغل فيه وقرأ الكثير منه، إذ راح يفتش بين حناياه ويجلو صدأ النسيان عن شخصيات وأحداث كاد التاريخ أن يمحوها، ولد في بيروت العام 1949، ولقد عُرفت عائلة معلوف بحب أبنائها الشديد للثقافة والأدب والعلوم. تلقى تعليمه الابتدائي والتكميلي في لبنان وتخرج من جامعة القديس يوسف في بيروت حاملاً إجازة في العلوم الاجتماعية، وامتهن الصحافة بعد تخرجه وفي العام 1976 ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية ترك معلوف لبنان وانتقل إلى فرنسا حيث تابع عمله الصحفي. ومنذ الثمانينات تفرغ للأدب وأصدر أول رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب" في العام 1983 وما فعله أمين معلوف في أعماله الروائية المتكئة في أكثرها على التاريخ, والتي حاز بعضها على جوائز عالمية، هو أنه نقل إلى الغربيين وجهة نظر الشرقيين, كما قدم لهم جوانب مشرقة في حضارتنا, هدف من ورائها إلى إقامة حوار من نوع مختلف, كما إلى مراجعة الكثير من صفحات التاريخ المشترك فهمها الغربيون, في الأعم الأغلب, على نحو مشوه. وقد احتفى الغربيون أيّما احتفاء بكتب أمين معلوف: "الحروب الصليبية كما رآها العرب", و"ليون الإفريقي", و"سمرقند", و"حدائق النور" وسواها من الأعمال التي أضافت إلى المتعة والفائدة صفة أخرى شديدة الأهمية، وتلقفوها على أنها شاطئ يمد جسورا للحوار بين العالمين. رواية "الحروب الصليبية كما رأها العرب": تطالعك الرواية، التي تتألف من ستة أقسام موزعة على أربعة عشر فصلا، بمشهد إنساني "ثوري" للقاضي أبو سعد الهروي الذي يدخل الديوان الفسيح للخليفة العباسي المستظهر بالله صائحا حاسرا حليق الرأس .. ويخطب بالحضور ويبكيهم إذ يقول :"أتجرؤون على التهويم في ظل أمن رغد وعيش ناعم شأن زهرة في خميلة وأخوانكم في الشام لا مأوى لهم سوى ظهور الجمال وبطون النسور والعقبان؟ كم من دماء سفكت! وكم من نساء أخفين وجوههن بأيديهن حياء وخجلاُ! أيرضى العرب البواسل بالمهانة ويقبل الأعاجم الشجعان بالذل؟!"... وكان لا بد من الانتظار قرابة نصف قرن قبل أن يتحرك الشرق العربي لمواجهة المجتاح والاحتفاء بدعوة قاضي دمشق إلى الجهاد في ديوان الخليفة بوصفها أول عمل مشهود من أعمال المقاومة. فلقد بدأت الحروب الصليبية في القرن 11م، ومرت بأربع مراحل كبرى، حيث سيطر الصليبيون في البداية على عدة مدن إسلامية على رأسها القدس، إلا أن انتصار صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين وضع نهاية لانتصارات الصليبيين، وشكلت بداية لمجموعة من الحملات الفاشلة إلى أن توقفت نهائيا خلال القرن 13 م. تباشر الرواية السرد التاريخي بدءاً من الغزو (1096- 1100م) مع سقوط مدينة نيقية، حيث عبرت القوات الصليبية إلى آسيا الصغرى، وتوجهوا إلى مدينة نيقية، حاضرة الأمير السلجوقي "قلج أرسلان"، وضربوا حولها حصارًا شديدًا، في غياب قائدها عنها الذي كان يخوض صراعاً حاداً ضد الدانشمديين، وأخيراً سقطت المدينة في1097م، وكان هذا أول انتصار للصليبيين في حملتهم الأولى. فساهم في ازدياد حماسهم، خاصة وأنه تزامن مع نصر آخر حققوه على السلاجقة في (ضورليوم)، وجعل أبواب آسيا الصغرى مشرعة أمام الجيوش الصليبية الغازية التي تابعت زحفها على بقية المدن والمواقع، حتى تمكنوا من إخضاع كل الأراضي التابعة للسلاجقة في آسيا الصغرى. وكان بعدها الزحف إلى الشام ومن ثم انطاكية وأخيرا بيت المقدس حيث بسطوا سلطتهم. فلقد كان العالم الإسلامي قبيل فترة الحروب الصليبية يعاني من الفرقة والانقسام، ويعيش وضعاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً صعباً، تتوزع مناطقه الولاءات ما بين الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، والخلافة الأموية في الأندلس، فيما عاشت عدة مدن ومناطق في بلاد الشام تحت حكم عدد من الأمراء الضعفاء، أو الأمراء شديدي الدهاء، ممن لا يعرفون إلا مصالحهم الخاصة، فضلاً عن العوامل المذهبية التي كان لها دور بارز في زيادة حدة التوتر والانقسامات والمساهمة في تمزيق أوصال الدولة العربية الإسلامية. عندما انقسمت دولة السلاجقة استطاع التركي عماد الدين زنكي أن يستقل بإقليم الموصل .وما لبثت قوة هذا الرجل أن تضاعفت فقام بهجوم على "الرها"، وتمكن من الاستيلاء على عاصمتها رغم مناعة أسوارها سنة 539ه/1144م. وكان لسقوط "الرها" في أوربا هِزة عنيفة أدت إلى الدعوة إلى حملة صليبية أخرى. ويحمل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي عبء الجهاد والدفاع بعد وفاة أبيه ويعيد فتح الرها التي سارع الصليبيون إلى احتلالها، ويعود مظفرًا إلى حلب، ومن هناك يستعد للقاء الصليبيين، ويهزمهم بالقرب من دمشق، بل ويهاجم بعد ذلك إمارة إنطاكية ويستولي على أجزاء منها، ويقبض على أميرها بوهيموند وجماعة من أكابر أمراء الصليبيين، واستطاع أن يخضع باقي مدن الرها التي لم تكن قد خضعت من قبل. ثم توج جهوده لما دعاه أهل دمشق لحكمهم، فتكونت جبهة إسلامية واحدة تمتد من حلب إلى دمشق. وبعدما تأسست الدولة الأيوبية بقيادة صلاح الدين الأيوبي- ويغفل الكاتب هنا بعض الحقائق التاريخية التي قام بها صلاح الدين باضطهاده للشيعة- عقد في بعض الفترات معاهدات مع الصليبيين ليتفرغ لتوحيد الجبهة الإسلامية، ولكنهم نقضوا العهد، ذلك أن رجنلد (أنارط) أمير الكرك الصليبي نقض هذه المعاهدة، وقام الصليبيون ببعض الاستفزازات للمسلمين منها أن رجنلد هذا أعد أسطولا يعبث بشواطئ الحجاز ويهاجم الحجاج المسلمين، ودأب على مهاجمة القوافل الإسلامية. لا مفر إذن من وقوع الحرب بين الفريقين، وتقدمت قوات صلاح الدين من دمشق، ووجهتها القدس.كان النصر مدويا للعرب حيث التقت جيوش المسلمين بجيوش الصليبيين في "حطين" وكان ذلك في عام 583ه/1187م. لم يكن أمام جيش صلاح الدين بعد معركة حطين إلا أن يتقدم نحو القدس، وقبل أن يتقدم نحوها استسلم له حصن "طبرية"، وفتح "عكا" واستولى على "الناصرية" و"قيسارية" و"حيفا" و"صيدا" و"بيروت"، وبعدها اتجه صلاح الدين إلى القدس. ولكن الصليبيين تحصنوا بداخلها، فاتخذ جبل الزيتون مركزًا لجيوشه، ورمى أسوار المدينة بالحجارة عن طريق المجانيق التي أمامها، ففر المدافعون، وتقدم المسلمون ينقبون الأسوار، فاستسلم الفرنجة، وطلبوا الصلح، فقبل صلاح الدين. لا تنتهي الرواية مع هذه المعركة بل تكمل سردها التاريخي نحو "السوط المغولي" و"لا قدر الله أن تطأ أقدامهم بلادنا بعد اليوم".. ملاحظات لا بد من ذكرها: من الجميل ان الكاتب يذكر معلومات دقيقة عن قيام جنود الحملات الصليبية بسرقة ونهب كل الممتلكات التي احتلوها حتى الكنائس المسيحية في الشرق العربي واضطهاد الرهبان وقتلهم وهو ما يؤكد كذب وادعاء "الأفرنج في أن قيامهم بهذه الحرب في سبيل انقاذ القدس موطن المسيح من اضطهاد المسلمين.. ولقد كان قوام بحثه "الروائي" جملة وثائق محفوظة في المكتبة الظاهرية في دمشق، وعمادها الرئيسي حوليات ابن المنقذ، بالإضافة إلى الترجمات التي قام بها المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق. في مكتبة كلية آداب جامعة بروفانس، الكتب والوثائق الفرنسية التي أرّخت لنفس الحقبة، فيها ما يكفي من معلومات عن الحملة الصليبية الأخيرة التي توجت معركة حطين، ونجم عنها طي صفحة وجود الفرنجة في بلاد الشام. هذه مدونة في معظمها من قبل المؤرخ الفرنسي الشهير ألبير ديكس، الذي رافق تلك الحملة الأخيرة على الشرق، وأتت متزامنة مع حوليات ابن المنقذ في إطارها التاريخي. وهنا كانت المفاجأة المذهلة. فلقد سمحت المقارنة الدقيقة بين النصوص التي تؤرخ لمعركة وقعت بتاريخ محدد بين جيوش المسلمين والفرنجة، برؤية الحدث ذاته مسرودا بوجهتي نظر مختلفتين كلّياً، إلى حد تشك فيه أن كلا من المؤرخ العربي ونظيره الفرنسي يؤرخان لوقائع للحدث نفسه، الذي جرى في المكان الموصوف، في الزمن المحدد. مثال صارخ على ذلك: أفرد كتاب أمين معلوف فصلاً بحدود خمسين صفحة عن حصار مدينة المعرة، الذي دام ستة شهور، واستسلامها إثر نفاد المؤن وموت كهولها والكثير من أطفالها جوعا وبردا، ففتح وجهاؤها بابها الشمالي سامحين للجيوش التي تحاصرها اقتحامها وذبح معظم سكانها. المفارقة العجيبة في هذه الواقعة أن الوثائق الفرنسية جميعها اشتركت مع الوثائق العربية، بنسبة كبيرة، في وصف تفاصيل حصار المدينة، وأن الجيوش المحاصرة كانت على وشك فك الحصار عنها بسبب الأمراض التي فتكت بالجنود من أثر تراكم الثلوج وفقدان المؤن وحطب التدفئة. لكن لم تشر وثيقة واحدة إلى مسألة أكل الجنود للحوم البشر بعد اعترافهم باستباحة المدينة. بينما في الرواية نحصل على تأكيد موثق من قبل الكاتب حيث يورد أمين معلوف أكثر من وثيقة تاريخية تثبت أن الصليبيين أكلوا جثث المسلمين : " وكانوا جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين في القدور ويشكون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين" هذا الخبر أورده المؤرخ الفرنجي "راول دي كين" كما "يقول المؤرخ الفرنجي "البير دكس" الذي شارك بشخصه في معركة المعرة عديمة المثل في فظاعتها :" لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الاتراك والعرب بل كانت تأكل الكلاب أيضا" .. ولا بد من القول إن الحروب الصليبية أدت إلى احتكاك الحضارتين الإسلامية والمسيحية إذ شكل المشرق العربي مكانا لاتصال الأوربيين بالحضارة العربية الإسلامية خلال هذه الحروب، واطلعوا خلالها على التطور الذي وصله العرب في فنون الزراعة والصناعة، ونقلوا بعض مظاهر التفوق العربي في الهندسة المعمارية وباقي مجالات المعرفة.