إن فهم صورة المرأة القروية يقتضي ربطها بالبنيات والديناميات الاجتماعية وبسياقات وسيرورات زمنية ومجالية لتأطيرها ومواكبتها، لأن المرأة القروية عنصر أساسي في التشكيلات الإجتماعية القروية. يدفعنا ذلك إلى طرح سلسلة من التساؤلات حول مأزق الشباب القروي من جهة وماهية المرأة القروية من جهة أخرى، ودورها في البنية والتنظيم الاجتماعيين للعالم القروي وصورتها الرمزية بالأساس؛ فكيف يمكن مقاربة وضعية النساء والشباب القرويين؟ وأي صورة للمرأة القروية؟ لماذا الربط بين صورة المرأة القروية ومسألة الشباب القروي؟ وما هي الأسباب التي تحول دون اندماج الشباب القروي؟ وما موقف الشباب القروي من أوضاع المجالات التي يعيش فيها؟ وما هي التمثلات التي راكمها عن محيطه؟ استهدفت مجموعة من الأبحاث قضايا المرأة القروية، وهذا ما يفرض علينا الإنخراط كباحثين للمساهمة في إغناء النقاش، إذ يطرح هذا الموضوع إشكالات إبستمولوجية معرفية وأخرى منهجية لأننا أمام موضوع مشترك تتقاسمه مجموعة من الحقول المعرفية، بل وتهيمن عليه السوسيولوجيا بالأساس، فالجغرافي والأنثروبولوجي والاقتصادي كلهم بحاجة إلى عين وفطنة سوسيولوجيتين للتعاطي معه، أما على المستوى المنهجي فإنه يطرح تعقيدا حول أسلوب مقاربته. ونهدف من خلال مقالنا هذا إلى المساهمة في الكشف عن واقع المرأة القروية، ومحاولة فهم وظائفها، وتسليط المزيد من الضوء على مكانتها الرمزية في ظل تعدد المواقف وفي إطار ديناميات البنيات الاجتماعية، وذلك انطلاقا من تحليل مركب ومقاربة مجالية منفتحة ومتعددة الأبعاد. إن إشكالية المرأة والشباب القرويين لازمت الخطاب السياسي والحقوقي والأكاديمي المغربي بشكل صريح منذ بداية الألفية الثالثة، فإذا كان يراهن على المرأة لإحداث التغيير الاقتصادي والسوسيوثقافي والسياسي فإن النساء القرويات يراهن عليهن من طرف جهات أخرى كيد عاملة وكأصوات إنتخابية؛ إذ لا تزال الأعراف تمنع المرأة من الإنخراط في الحياة العامة، بل تشكل كائنا من الدرجة الثانية في بعض المجتمعات، ففي الوقت الذي اكتست فيه رمزية وقدسية لدى المجتمعات المتقدمة، ما تزال تعتبر آلية للجنس والعمل لدى مجتمعات أخرى، بل وتعاني من التهميش والإقصاء والمرض والأمية (القراءة والكتابة واستعمال التكنولوجيات). يبلغ عدد النساء القرويات إلى 6.5 مليون نسمة، وتمارس المرأة القروية أنشطة متعددة ومعقدة في آن واحد، حيث كرست حياتها لخدمة الأرض والعائلة (رعي الماشية، العمل بالحقل، الحطب، التسويق، الإهتمام بالأطفال، حاجات بيولوجية…)، مما يطرح أمامها تحديا في التوفيق بين رعاية البيت والعمل. وعلى المستوى الوظيفي، تشكل المرأة القروية ركيزة البنية الإجتماعية لتعدد أدوارها، فهي زوجة وأم ومربية ويد عاملة تساهم بفعالية في الدينامية الإجتماعية والمجتمعية. وشكلت المرأة القروية رمزا معقدا عبر التاريخ، حيث قاومت وناضلت إلى جانب الرجل في العديد من المحطات الصعبة، وساهمت في استقلال بلادنا؛ وتشير أغلب الدراسات إلى أن ما حققته الحركات النسائية بفعل نضالاتها لأكثر من نصف قرن لم يكن يشمل النساء القرويات اللواتي ينتظرن دورهن لتحسين وضعيتهن المادية وصورتهن الرمزية، ولرد الإعتبار لهن بعد سنوات من الإقصاء والتهميش. وللإقتراب أكثر من هذه المفارقات، نشير إلى أن الفوارق الترابية تشكل عاملا في انعدام المساواة الإجتماعية، لكونها تتدخل في تعميق الفوارق الإجتماعية والإقتصادية، وبينت نتائج إحصاء 2014 أن حوالي 10 ملايين نسمة (ما يقارب ثلث السكان) لا يعرفون القراءة والكتابة، فإذا كانت نسبة الأمية تشكل 32.2٪ ببلادنا، فإنها تبلغ 42.1 في صفوف النساء (أغلبهن قرويات)، وحسب المجلس الأعلى للتربية والتكوين فالتداخل بين الأصل الإجتماعي/الجغرافي والوضع الإقتصادي والنوع يشكلون العامل المحدد للفوارق الإجتماعية الدراسية، لكون الفتاة القروية محرومة بالمقارنة مع نظيرتها الحضرية جغرافيا ومحرومة بالمقارنة مع الطفل القروي بفعل النوع. إن أزمة المجالات الجبلية لا ترتبط بإشكالية التدبير والإستراتيجيات والتدخلات، بل تتمظهر حتى على مستوى تمدرس أبناء الجبل، حيث تظهر معاناة المرأة القروية في سن مبكرة، أي منذ طفولتها، فبعضهن لا تسمح لهن الظروف بالالتحاق بالمدرسة أو متابعة الدراسة (أعراف، تقاليد، حواجز ثقافية)، ولازالت التقارير تسجل أرقاما صادمة عن الانقطاع المدرسي، وخاصة في صفوف الإناث، اللواتي ينقطعن عن الدراسة في سن مبكرة بفعل أسباب تافهة تضع حدا لمسيرتهن ولطموحاتهن، فالفتاة القروية تجد نفسها مضطرة للزواج المبكر تفاديا لشبح العنوسة الذي يضرب البلاد، أما المتمردات منهن فقد اخترن الهجرة للبحث عن مصيرهن في معامل المدينة، فبالرغم من أن المرأة ناقصة عقل ودين وحظوظ (نظرة إديودينية وبيوثقافية)، نسجل أن البعض منهن قد حققن نجاحا بل وتفوقا ملحوظين، فالمرأة أثبتت قدرتها اليوم على منافسة الرجل في جل القطاعات. ولطرح إشكال الشباب القروي، لا يجب أن نفصله عن المدرسة التي تعمل على إعادة إنتاج الفوارق الإجتماعية في العالم القروي لكونها تخضع لتأثيرات الفوارق الإجتماعية، فعلى المستوى الرمزي هناك قطيعة ثقافية ومجتمعية بين الشباب القروي والمجتمع القروي، لأن تمثلات وثقافة هذا الشباب تتعارض مع القيم التقليدية للمجتمع القروي وممارساته وسلوكاته بفعل تأثير وسائل الإتصال والمواصلات والمدرسة ووسائل التواصل الإجتماعي من خلال الانفتاح على ثقافات أخرى. لقد سجلنا من خلال تجربتنا (باحث) وجود سيرورتين متناقضتين مستمرتين في الزمن وممتدتين عبر المجال الجبلي بالخصوص وفي المجال القروي بشكل عام، فالإنفتاح المتزايد للمرأة القروية على العمل الفلاحي وكذلك على أنشطة المجتمع المدني (جمعيات، حركات، تنظيمات…) إضافة إلى مساهمتها اليوم في صنع القرار السياسي يقابله تراجعا ملحوظاعلى مستوى حركية ومكانة الشباب القروي، لأن تزايد انخراط المرأة في العمل الفلاحي جاء على حساب الشباب، لكون المرأة مخلصة في عملها ولا تتفاوض في الأجر (تصريح المبحوثين) ، بينما الشباب دائما ما يطالب بأجر مرتفع، لذا فالشباب القروي لم يعد يقبل الإستمرار في العيش والعمل بالمجال القروي، بل وسئم من وضعيته الإجتماعية، حيث العزوف عن العمل الفلاحي وفقدان الثقة في التنظيمات السياسية التي يقودها بعض أشباه المثقفين وبعض النخب (فئة اجتماعية تمتلك وسائل الإنتاج…) التي حلت محل الأعيان، هذه النخب التي استوطنت بالمجال واستفادت من تغير وضعيتها، وحققت ارتقاء اجتماعيا (مادي ورمزي) جعلها تحصل على نوع من النفوذ. في ظل هدر الزمن السياسي وتزايد استياء الشباب الذي لم يعد يقبل الوضع المزري الذي أصبحث عليه المجالات الجبلية، خاصة وأن الخطاب الملكي ل 13 أكتوبر 2017 دعا إلى إعادة النظر في نموذجنا التنموي، من أجل بناء نموذج أكثر شمولا وإدماجا وعدلا، قادر على إعادة خلق الرابط الإجتماعي الملازم لكل مجتمع عادل. وأكد فيه على أنه “إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية.” لا يمكن أن ننكر الجهود التي تسعى إلى تحسين شروط المجالات القروية، لكن الجبال راكمت تأخرا ملموسا لعقود، لذا قد آن الأوان كي نعيد الاعتبار للمجالات القروية خاصة للجبل، ولساكنته، لرجاله ونسائه وشبابه، فالجبل شكل عبر التاريخ محورا للمقاومة والنضال، ويشكل خزانا لأغلب ثروات بلادنا، بل ومعقلا لتراثنا المادي واللامادي. فالنهوض بوضعية الجبل تستدعي البحث عن آليات للتحسيس (وسائل الإعلام، السنيما، المسرح، ملتقيات، ندوات…)، والعمل على محاربة الأمية وتشجيع الإقتصاد الاجتماعي والتضامني، وكذلك البحث عن آليات بديلة لإدماج الشباب الذي يعيش حالة من الانتظار (انتظار اللاشيء)، بل وحالة من القطيعة مع مجاله، والذي يفضل الهجرة، هذا الشباب (خاصة المتمدرسين) الحامل لأفكار ينتهي به المطاف أحيانا تائها في المدينة ومعمقا لأزمتها، بل وتنتهي أحلام البعض منهم في قاع المتوسطي. فهل النموذج التنموي الجديد قادر على إعادة الاعتبار للمجالات الجبلية؟ * طالب باحث في سلك الدكتوراه جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة