لا يتعلق الحديث عن الأزمة بتقويم الأداء السياسي للحزب تفصيلا في المحطات والمواقف المختلفة، وإنما يخص النظر في العوائق البنيوية للفكر والممارسة، والتي تمنع وضوح الخط السياسي واضطراب ردود الأفعال تجاه التحديات المتوالية والعجز عن تحويل الظهور السياسي إلى كسب يسند عملية الإصلاح ويقوي ركائزها. نبدأ مما أشرنا إليه في المقال السابق عن هلامية المرجع الفكري الذي يتحدث عن الإسلام الشامل في أبعاده النصية والتاريخية، وهو ما يحتمل كل شيء من نصوص الوحي وما لحقها من أفهام بشرية وتجارب تاريخية ومذاهب فقهية وكلامية وعقائدية وتجارب سياسية….، ومن ثم فهو لا يحتمل أي شيء في الحقيقة، ولا يصلح أن يكون اجتهادا فكريا موجها لتجربة سياسية في واقع معين. إن التحول البارز الذي وقع في خطاب الحزب ومواقفه بدأ أساسا منذ المؤتمر السادس حيث أصبح النضال الديمقراطي عنوانا جامعا لكل تفاصيل الأداء السياسي، وشعارا مستقطبا لاهتمام جمهور عريض من المواطنين ومن النخب التي لم تكن ترى في الإسلاميين سوى تنظيما هوياتيا يختزل كل معاركه في قضايا العري والحجاب أو المهرجانات الموسيقية أو الرد على أفكار المخالفين وبعض قضايا المسلمين مثل محاولات التطبيع مع الصهيونية. ولم يكن هذا التحول الواضح يعود الى مراجعة فكرية وإنما إلى عملية رد فعل على توجه سياسي قادها الأمين العام ولقيت استجابة من الجميع . عرضت أطروحة المؤتمر السادس مجموعة من مظاهر التراجع في السياقين الدولى والوطني لتنتهي إلى استنتاج ضرورة التمسك بما سمته سيناريو النضال والمقاومة، بالإضافة إلى أن السياسة فعل نضالي إرادي، ينبغي أن يمارس عبر الصمود والعمل من أجل تغيير الشروط ومقاومة عوامل الإحباط واليأس والتراجع، فإنه توجد مجموعة من المعطيات والفرص التي تجعلنا نرفض النظر إلى المسلسل التراجعي المذكور باعتباره قدرا محتوما…" وتخلص الوثيقة إلى أن الاختيار الديمقراطي القائم على إقرار سيادة الشعب وعلى تعددية حزبية حقيقية وتداول فعلي على السلطة وتكافؤ الفرص بين الجميع وإنهاء كل مظاهر الريع السياسي هو المدخل لإقرار العدالة وبناء التنمية… « فهل كان الحزب قد بلغ حينئذ مبلغا من الوضوح الفكري والسياسي الاستراتيجي، واشتغل على تقوية شروط ومقتضيات هذا النضال السياسي في التنظيم والتواصل والكفاءات البشرية والبدائل السياسية؟ أم كان الأمر مجرد استجابة لتحدي التدافع السياسي والانتخابي؟ استمرت أطروحة المؤتمر السابع، رغم تغير موقع الحزب من المعارضة إلى المشاركة الحكومية، في ترديد الخطاب نفسه »إن أنصار الربيع الديمقراطي ووارثيه من النخب الجديدة المستلمة لمقاليد الأمور ينبغي لهم أن يضعوا نصب أعينهم أن الشعب هو الأصل وأن إرادته محكمة وأن قراره سائد ونافذ… « وتحدد دور الحزب في موقعه الجديد »حيث إن المشاركة السياسية من داخل المؤسسات لا تتعارض مع مواصلة النضال… فإن النضال الديمقراطي من داخل نفس المؤسسات هو مدخل لتحسين شروط المشاركة… وتحقيق الانتقال الديمقراطي… « . وبلغت الوثيقة درجة من الوضوح في الحديث عن علاقة متوازنة مع الملكية من أجل » توسيع مجال المسؤولية السياسية للأحزاب في تسيير الشأن العام والقطع مع الثقافة السياسية التي كان ينظر فيها للفاعل السياسي باعتباره موظفا ساميا في أحسن الأحوال يتلقى التعليمات والتوجيهات «. فما الذي تغير ليصبح ما يعتقد أنه ضغوط السياق الدولي او الوطني وحالات التراجع والنكوص سببا في تقديم سيل لا متناه من التنازلات ، بعد ان كانت نفس المبررات في الوثيقتين السابقتين دافعا إلى حشد الجهود لمزيد من النضال ومقاومة الإرتداد ؟ وهل كانت التجربة السابقة مغامرة ينبغي التكفير عنها بالتخلص من تبعاتها ورموزها؟ وهل يملك الحزب أطروحة بديلة ومجدية أم مجرد مخاوف وهواجس لأفراد، تحولت بفعل الترويج إلى قناعات راسخة؟ مر أكثر من عقد في تجربة الحزب وهو يقدم نفسه كامتداد للحركة الدعوية ويخوض نضاله السياسي في معترك الهوية والرموز الثقافية وقضايا المسلمين في العالم، ويحاول باحتشام وتردد أن يقدم بعض الآراء في مجال الشأن العام، وكأنه يميل تلقائيا الى المجال الذي يمكنه من مزيد من الشعبية، كما أن قاعدته الإجتماعية مكونة أساسا للقيام بهذا الدور. فكان التنسيق الأول مع الدكتور الخطيب قضية البوسنة والهرسك، ثم برز الحزب بشكل واضح في معركة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، واستمر يصدر بيانات ويشارك في احتجاجات تتعلق إما بالمهرجانات الفنية أو بقضايا التطبيع ومساندة المقاومة… وبقدر ما أكسبه ذلك نوعا من الامتداد في الوجدان الشعبي وصوره كمنقذ للجماهير، فإنه حرمه في الوقت نفسه من التفكير في مجال عمله الحقيقي كما أغفله عن الاستعداد بالفكر والتنظيم والتكوين لأدوار جديدة. وحين انطلقت مرحلة النضال ضد التحكم منذ 2007 بمبادرة من بنكيران حتى قبل أن يصبح أمينا عاما، ثم جاءت موجة الحراك الديمقراطي وحملت الحزب الى مواقع لم يكن يحلم بها، لم يكن للحزب حينئد من عناصر القوة النوعية سوى رصيده من الكسب في معارك الهوية وامتداده السريع في مساحات الفراغ التي تركتها أحزاب دبت فيها الشيخوخة والفساد. ورغم ذلك حاول الحزب التأقلم مع الأدوار الجديدة وبدأ بالتخلي التدريجي عن صورة الرقيب على الهوية، ورضي أن يشتغل وزراءه بمقاربة النوع التي كان يحاربها، وقبل التوقيع على اتفاقيات دولية كان يتحفظ عليها، وسكت عن تنظيم بعض المهرجانات وساعد أحيانا في تنظيمها. ولكن في مقابل التخفف من عبئ الانشغال الهوياتي كان قد بدأ يتبلور تدريجيا تحول في اتجاه الإهتمام بالقضايا الإجتماعية والإقتصادية للمواطنين مع ما يقتضيه ذلك من نضال في الواجهة السياسية، وبدأت دائرة الاستقطاب تضم فئات جديدة ونخبا كانت خارج الحواضن التقليدية للإسلاميين ،بل وبدت ملامح تشكل جبهة عريضة من مختلف الحساسيات تلتقي على لائحة مطالب مشتركة، وكانت هذه المرحلة بداية لحراك سياسي غير مسبوق واهتمام شعبي يحذوه أمل في التغيير، واستعداد جماهيري للإنخراط في مشروع الإصلاح وتحمل تضحياته. وبعد شهور من ما سمي ب "البلوكاج"، وفي فترة لا تتعدى أسابيع، لا تسمح بمراجعة فكرية ولا حتى بتشاور عريض، إنقلب الوعي السياسي لفئة من قيادات الحزب ، وأصبحت تبحث عن مسوغات ليس فقط لتبرير المواقف الحالية، بل للتبرؤ من المرحلة الماضية ورموزها، وحشد الحجج على أن الوضع الطبيعي في البلد هو أن تكون الأحزاب مجرد أدوات للتنفيذ، وأن الإرادة الشعبية ليست التزاما وعهدا، بل مجرد تمرين دوري تنتهي مخرجاته دوما في حضن السلطة. لو قدم هذا الخطاب في سياق تعليل مبني على تحليل عميق للأوضاع، وإعادة ترتيب للأولويات، لكان مفهوما بمنطق السياسة التي هي بطبيعتها شد وجذب وصعود ونزول، ولكن مع وضوح الرؤية والاختيارات، بعد تشاور واسع وتعبئة وتواصل. ولكنه تحول الى سيف مسلط تحت طائلة الترهيب المؤسساتي و الأخلاقي أحيانا، أو مغلف بتبريرات وتخويفات من مآل الاستمرار في النضال، بدعوى الاطلاع على معطيات لا يعرفها إلا الراسخون. لقد تحدث رئيس الحكومة في أول لقاء حزبي له عن حماية الأعضاء من السجن، وصرح في لقاء آخر أنه يجب شكر الدولة على أن سمحت لنا بالوجود. وفي لقاء مع الشبيبة انتقد مصطفى الرميد عدم نضج الشباب -الذي لا يتجاوز العشرينيات- وهو المعروف بمواقفه الحادة منذ اصطفافه مع الخطيب في التصويت السلبي على الدستور، إلى المطالبة بالملكية البرلمانية خلال الحراك المغربي، وتحدى الشباب أن يخرجوا للثورة إن كانوا غير راضين، وارتبك في التعاطي مع ملفات حقوقية ثقيلة مثل اعتقال الشباب وأحداث الريف وتعنيف المحتجين في الرباط. وعبر محمد يتيم عن امتعاضه من الدوائر التي بدأت تتشكل حول الحزب والنخب التي تعاطفت معه واعتبرها خطرا نظرا لكونها تريد أن تورط الحزب في تنفيذ ما عجزت عنه من صدام مع السلطة… وتراوحت خطابات عديدة بين اعتبار المرحلة السابقة فرصة تاريخية انتفت شروطها حاليا وبين من تجرأ على إدانتها باعتبارها مغامرة غير محسوبة. يكشف هذا الإضطراب في التعاطي مع المتغيرات السياسية عن خلل عميق في الفكر السياسي وفي تقدير الواقع ومعطياته، وهو يرجع في جزء منه الى مأزق الفكر السياسي السني الذي حول البرغماتية السياسية إلى معتقد ديني، فرغم الحديث العريض في أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية عن الشروط المثالية للإمام وعن الضوابط الشرعية والأخلاقية لإدارة الحكم، فإنها تنقلب الى عكسها حين تسمح بقبول حكم المتغلب لضرورة تجنب الفتنة، ويتحول المثال الديني إلى مجرد حلم معلق مقابل تحول الواقع الى مرجع ثابت وليس الى معطى ظرفي قابل للتغيير، ويصبح الاستثناء قاعدة مطردة في الواقع، ما يزيل أي فرق بين الذين قبلوا الاستبداد بمبرر دنيوي والذين أضفوا عليه شرعية دينية. إن الحزب مطالب بالإجابة عن أسئلة يتوقف عليها مستقبله، ولا مجال للإرتكان الى أوضاع سريعة التغير، وترتيبات ظرفية قد يلعب فيها أدوارا تقضي على ما تبقى من شرعيته ليتم التخلص منه بعد ذلك بترتيب جديد: – هل ينحصر دور الحزب السياسي في المغرب في تولي مهام التدبير وكأنه في بلد استوت فيه معالم الديمقراطية وتحددت قواعد التنافس السياسي الحر وأصبحت التشكيلات والتحالفات السياسية وسائل لتنفيذ البرامج، أم أن الدور التاريخي للاحزاب هنا هو النضال من أجل إرساء قواعد الحكم الديمقراطي على أساس تحالفات مجتمعية عريضة؟ – هل يقتصر النضال الديمقراطي في المشاركة والتدافع السياسي ومن تم يرتبط أساسا بالحزب كأداة وحيدة؟ أم أن أزمة الديمقراطية تمتد جذورها في مفاصل الوعي والثقافة والفكر والاجتماع، وتستوجب من تم سلسلة من الأدوار المتكاملة والمؤسسات المتعاضدة؟ وماهي حصيلة الحزب في الإعلام والبحث العلمي والإنتاج الثقافي والفكري والفعل الاجتماعي والاقتصادي؟ – هل الحزب مجرد وسيلة للتغيير؟ ومن ثم فهو قابل للتغير والانفتاح حسب مقتضيات الوظيفة ومتطلبات المرحلة باعتبار عملية الإصلاح شأنا مجتمعيا عاما؟ أم هو صك في ملكية الأعضاء المؤسسين؟ يحمونه من الاختراق والاختطاف، ويحفظون هويته الثابتة والمغلقة؟ – هل الموقع الحقيقي للحزب هو المساعدة في تنفيذ برامج الملك؟ وأين تبدأ وتنتهي المسؤولية السياسية إذن؟ وما جدوى الحياة السياسية والحزبية؟ وهل سيكون أداؤها أفضل من التيكنوقراط؟ – إذا كانت التجربة السابقة مغامرة غير محسوبة، فمن المسؤول عنها؟ هل هو فرد أم مؤسسة؟ ولماذا يستثمر الآن كسبها الانتخابي وتستنكر ممارستها وخطابها؟ وما مصير الإلتزامات المترتبة عنها؟ وما البديل السياسي والتنظيمي لها؟ إن التجارب السياسية للاحزاب لاتستمد قوتها واستمراريتها من قربها من مراكز السلطة والمال بل بمدى التحامها بقواعدها الشعبية وقدرتها على استنهاض همم مناضليها. اطمأن الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبد الرحمن اليوسفي إلى موقعه وزيرا أولا في تجربة التناوب إلى درجة أنه صدق أن الوضع الجديد لن يتغير، وبلغ من ثقته أن بدأ يغلق وسائل الاعلام المنتقدة ويقصي القيادات المخالفة، وخاطب شبيبة حزبه المتمردة بالقول "أرض الله واسعة" وطردها بشكل جماعي بقيادة رئيسها محمد الساسي آنذاك، وفتح باب حزبه للطبقات الوسطى الانتهازية من الأطروالأعيان التي كانت ترى فيه سلما للارتقاء، ودافع عن رموز السلطة الى درجة أنه نظم حفلا لتكريم إدريس البصري، وضغط على المناضلين من قاعدة الحزب الذين كان يبرر لهم تصرفاته بكونه يحمل معه أسرارا أقسم للحسن الثاني على المصحف بأنه سيكتمها، ولم يعرف أحد الى الآن ماهي تلك الاسرار. وانتهت تلك المرحلة بتعيين جطو وزيرا أولا ونهاية حلم التناوب، وحين أراد اليوسفي أن يستعيد المبادرة وجد أن وزراء حزبه غير مستعدين للخروج من الحكومة واكتفوا ببيان يتيم عن المنهجية الديمقراطية. كان شعار تدبير تلك المرحلة السياسية هو التبرير والتعتيم وعدم الوضوح مع المناضلين ولا مع الناخبين، وحين نشرت مؤخرا صورة تجمع اليوسفي وقد هده الشيب والساسي وقد ابيض شعره، علق عليها الأستاذ حسن طارق بطرافة قائلا "أرض الله… ليست واسعة تماما".